Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 23-31)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
جاء قوله - تعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً } مؤكدا بجملة من المؤكدات . منها إن ، ونحن ، وتنزيلا … للرد على أولئك الجاحدين الذين أنكروا أن يكون القرآن من عند الله - تعالى - وقالوا فى شأنه { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أى إنا نحن - وحدنا - أيها الرسول الكريم - ، الذين نزلنا عليك القرآن تنزيلا محكما ، وفصلناه تفصيلا متقنا ، بأن أنزلناه على قلبك مفرقا على حسب مشيئتنا وحكمتنا . والفاء فى قوله { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } للإِفصاح . وعدى فعل الصبر باللام ، لتضمنه معنى الخضوع والاستسلام لقضائه - سبحانه - . أى ما دام الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فاصبر لحكم ربك ، واخضع لقضائه ومشيئته ، فهو - سبحانه - الكفيل بنصرك عليهم . وقوله { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } أى ولا تطع - أيها الرسول الكريم - من هؤلاء المشركين ، من كان داعياً إلى الإِثم والفجور ، أو من كان داعيا إلى الكفر والجحود . ولم يقل - سبحانه - ولا تطع منهم آثمار وكفورا بالواو ، لأن الواو تجعل الكلام محتملا للنهى عن المجموع ، وأن طاعة أحدهما دون الآخر تكفى فى الامتثال . ولذا قال الزجاج إن " أو " هنا أَوْكد من الواو ، لأنك إذا قلت لا تطع زيدا وعمرا ، فأطاع أحدَهما كان غير عاص ، فإن أبدلتها بأو ، فقد دللتَ على أن كل واحد منهما ، أهل لأن يعصى ، ويعلم منه النهى عن إطاعتهما معاً . والآثم هو الفاجر بأقواله وأفعاله . والكفور هو الجاحد بقلبه ولسانه . ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإِنّ تأكيد على تأكيد ، لمعنى اختصاص الله - تعالى - بالتنزيل ، ليتقرر فى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل للقرآن ، لم يكن تنزيله على أى وجه نزل ، إلا حكمة وصوابا ، كأنه قيل ما نزل عليك القرآن تنزيلا مفرقا منجما ، إلا أنا لا غيرى ، وقد عرفتنى حكيما فاعلا لكل ما أفعله . فإن قلت كلهم كانوا كفرة ، فما معنى القسمة فى قوله { آثِماً أَوْ كَفُوراً } ؟ قلت معناه لا تطع منهم راكبا لما هو إثم ، داعيا لك إليه ، أو فاعلا لما هو كفر ، داعيا لك إليه . لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر فنهى عن أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث . فإن قلت معنى أو ولا تطع أحدهما ، فهلا جئ بالواو وليكون نهيا عن طاعتهما جميعا ؟ قلت لو قيل ولا تطعهما ، جاز أن يطيع أحدهما ، وإذا قيل لا تطع أحدهما ، علم أن الناهى عن طاعة أحدهما عن طاعتهما جميعا أنهى ، كما إذا نهى عن أن يقول لأبويه أف ، علم أنه منهى عن ضربهما بالطريق الأولى . . والمقصود من هاتين الآيتين تثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم وتيئيس المشركين من استجابته صلى الله عليه وسلم لأى مطلب من مطالبهم الفاسدة . ثم أرشده - سبحانه - إلى ما يعينه على الصبر والثبات . فقال { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً . وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } . والبكرة أول النهار . والأصيل آخره . والمراد المداومة على ذكر الله - تعالى - فى كل وقت . أى داوم - أيها الرسول الكريم - على ذكر الله - تعالى - فى أول النهار وفى آخره ، وعلى صلاة الفجر ، والظهر والعصر . { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ } - تعالى - وأكثر من ذكره ، وواظب على صلاة المغرب والعشاء . { وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } أى ونزهه - تعالى - وتهجد له وقتا طويلا من الليل . فهاتان الآيتان ترشدان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما يعينه على الازدياد من فضيلة الصبر الجميل ، والثبات على الحق . ومن الآيات الكثيرة التى تشبه هاتين الآيتين فى معناهما قوله - تعالى - { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ . وَٱصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } وقوله - تعالى - { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } ثم بين - سبحانه - جانبا من الأسباب التى تجعله صلى الله عليه وسلم لا يطيع أحدا منهم فقال { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } . أى نحن قد نهيناك - يا محمد - عن طاعة أحد من هؤلاء المشركين ، لأنهم جميعا ديدنهم ودأبهم أنهم يحبون { ٱلْعَاجِلَةَ } أى الدنيا ولذائذها وشهواتها ، العاجلة الزائلة . { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ } أى ويتركون وينبذون وراء ظهورهم { يَوْماً ثَقِيلاً } وهو يوم القيامة ، الشديد الأهوال ، الذى يجعل الولدان شيبا . ومع شدة هوله فهم لا يستعدون له ولا يحسبون له حسابا … فالآية الكريمة توبيخ وتجهيل لهم ، حيث آثروا الفانى على الباقى ، والعاجل على الآجل . ووصف يوم القيامة بالثقل ، لشدة ما يقع فيه من أهوال وكروب ، فهو كالشئ الثقيل الذى لا يستطاع حمله . ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله عليهم ، ومع ذلك أشركوا معه فى العبادة غيره فقال { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } . أى نحن وحدنا الذين خلقناهم وأوجدناهم من العدم . ونحن وحدنا الذين { وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } أى قوينا وأحكمنا وأتقنا خلقهم ، بأن منحناهم السمع والأبصار والأفئدة والعقول … وربطنا بين مفاصلهم وأجزاء أجسادهم ربطا عجيبا معجزا . يقال أسَر الله - تعالى - فلانا ، أى خلقه - وبابه ضرب - وفرس شديد الأسْر ، أى شديد الخَلْق ، والأسر القوة ، مشتق من الإِسار - بكسر الهمزة - وهو الحبل الذى تشد به الأحمال ، يقال أسَر فلان الحمل أسْراً ، إذا أحكم ربطه ، ومنه الأسير لأنه يُرْبَط بالإِسار ، أى القيد . والمقصود بالأسر هنا الإِحكام والإِتقان ، والامتنان عليهم بأن الله - تعالى - خلقهم فى أحسن وأتقن خلق . وقوله - سبحانه - { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } تأكيد لشمول قدرته - تعالى - أى ونحن وحدنا الذين خلقناهم ، ونحن وحدنا الذين ربطنا مفاصلهم وأعضاءهم ربطا متقنا بديعا . ومع ذلك ، فإننا إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم ، وجئنا بأمثالهم وأشباههم فى شدة الخلق ، وبدلناهم تبديلا معجزا ، لا يقدر عليه أحد سوانا . وقوله { تَبْدِيلاً } منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله وهو بدلناهم . ومن الآيات الشبيهة لهذه الآية فى معناها قوله - تعالى - { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً } وقوله - سبحانه - { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالحض على طاعته ، وبالتحذير من معصيته فقال { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } . أى إن هذه الآيات التى أنزلناها عليك يا محمد - تذكرة وموعظة للناس ، فمن شاء أن يتخذ إلى الله - تعالى - وسيلة وطريقة يتقرب بها إليه - تعالى - اتخذها ، لأنها خير هداية إلى رضاه - سبحانه - . والتعبير بقوله { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } تحريض شديد على المسارعة إلى الطاعة ، لأن الله - تعالى - قد مكن الناس من ذلك ، حيث وهبهم الاختيار والعقول المفكرة ، وأرسل إليهم الرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور . ثم بين - سبحانه - أن مشيئته فوق كل مشيئة فقال { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } . أى وما تشاءون شيئا من الأشياء ، إلا بعد خضوع هذا الشئ لمشيئة الله - تعالى - وإرادته ، إذ هو الخالق - سبحانه - لكل شئ ، وهو صاحب الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين . { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أى إنه - تعالى - كان وما زال صاحب العلم المطلق الذى لا يحده شئ ، وصاحب الحكمة البليغة التى لا نهاية لها . { يُدْخِلُ } - سبحانه - { مَن يَشَآءُ } إدخاله { فِي رَحْمَتِهِ } لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه . { وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ } - سبحانه - { عَذَاباً أَلِيماً } بسبب إصرارهم على ظلمهم ، وإيثارهم الباطل على الحق ، والغى على الرشد . نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا ممن هم أهل لرحمته ورضوانه ، وأن يبعدنا عمن هم أهل لعذابه ونقمته . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .