Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 78, Ayat: 21-40)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - سبحانه - { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً … } كلام مستأنف لبيان أهوال جهنم وأحوالها . وجهنم اسم لدار العذاب فى الآخرة . والمرصاد مفعال من الرَّصَد . تقول رصدت فلانا أرصده ، إذا ترقيته وانتظرته ، بحيث لا يهرب منك ، " فمرصادا " صيغة مبالغة للراصد الشديد الرصد ، وصفت جهنم بذلك ، لأن الكافرين لا يستطيعون التفلت منها مهما حاولوا ذلك . قال القرطبى " مرصادا " مفعال من الرصَد ، والرصد كل شئ كان أمامك … وقال مقاتل " مرصادا " أى محبسا . وقيل طريقا وممرا . وذكر القشيرى أن المرصاد المكان الذى يرصد فيه الواحد العدد . أى هى معدة لهم ، فالمرصاد بمعنى المحل … وذكر الماوردى ، أنها بمعنى راصدة … وفى الصحاح الراصد الشئ الراقب له . تقول رصدته أرصده ، إذا ترقبته … والمعنى إن جهنم التى هى دار العذاب فى الآخرة ، كانت - بأمر الله - تعالى - ومشيئته - معدة ومهيئة للكافرين ، فهى ترصدهم وترقبهم بحيث لا يستطيعون الهرب منها ، فهى كالحارس اليقظ الذى يقف بالمرصد فلا يستطيع أحد أن يتجاوزه . والمقصود بالآية الكريمة تهديد المشركين ، وبيان أنهم لا مهرب لهم من جهنم ، وأنها فى انتظارهم ، كما ينتظر العدو عدوه ليقضى عليه . وقوله { لِّلطَّاغِينَ مَآباً } بدل من { مِرْصَاداً } وقوله { مَآباً } من الأوب بمعنى المرجع . يقال آب فلان يؤوب ، إذا رجع … أى إن جهنم كانت للمتجاوزين الحد فى الظلم والطغيان ، هى المكان المهيأ لهم ، والذى لا يستطيعون الهرب منه ، بل هى مرجعهم الوحيد الذى يرجعون إليه . وقوله { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } أى مقيمين فى جهنم أزمانا طويلا لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى - إذا الأحقاب جمع حُقُب - بضمتين أو بضم فسكون - ، وهو الزمان الطويل . { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا } أى فى جهنم { بَرْداً } أى شيئا يخفف عنهم حرها ، من هواء بارد ، أو نسيم عليل { وَلاَ شَرَاباً } أى شيئا من الشراب الذى يطفئ عطشهم ، ويخفف من عذابهم . { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } والحميم . هو الماء الذى بلغ الغاية فى الحرارة . والغساق هو ما يسيل من جلودهم من القيح والدماء والصديد . يقال غسق الجرح - كضرب وسمع - غسقانا ، إذا سالت منه مياه صفراء . أى أن هؤلاء الطغاة لا يذوقون فى جهنم شيئا من الهواء البارد ، ولا من الشراب النافع ، لكنهم يذوقون فيها الماء الذى بلغ النهاية فى الحرارة والصديد الذى يسيل من جروحهم وجلودهم . فالاستثناء فى قوله { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } ، استثناء منقطع ، لأن الحميم ليس من جنس البرد فى شئ ، وكذلك الغساق ليس من جنس الشراب فى شئ . وقوله - سبحانه - { جَزَآءً وِفَاقاً } بيان لعدالة الله - تعالى - معهم ، أى أننا لم نظلمهم بإلقائهم فى جهنم ، وإنما جازيناهم بذلك جزاء موافقا لأعمالهم السيئة فى الدنيا . فقوله { جزاء } منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف ، وقوله { وفاقا } صفة له والوفاق مصدر وافق ، وهو هنا بمعنى اسم الفاعل . أى جوزوا جزاء موافقا لأعمالهم القبيحة التى كانوا يعملونها فى الدنيا . ثم علل - سبحانه - ما أصابهم من عذاب أليم ، فقال { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً . وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } أى إن هؤلاء الطغاة كانوا فى الدنيا لا يخافون حسابنا ، ولا يفكرون فيه ، بل كانوا يكذبون به ، وبكل ما جاءهم به رسولنا تكذيبا عظيما . وقوله { كِذَّاباً } مصدر كذب ، ومجئ فِعَّال بمعنى تفعيل فى مصدر فعَّل فصيح شائع . وأوثر هذا المصدر دون التكذيب ، للإِشعار بأن تكذيبهم لآيات الله - تعالى - قد وصل الغاية فى قبحه وإفراطه . وهو منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله . قال صاحب الكشاف قوله { كِذَّاباً } أى تكذيبا . وفِعَّال فى باب فَعَّل ، كله فاش فى كلام فصحاء العرب لا يقولون غيره . وهو مصدر كذَّب … ثم بين - سبحانه - شمول علمه لكل شئ فقال { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } و " كل " منصوب على الاشتغال ، والإِحصاء للشئ ضبطه ضبطا محكما . وأصله من لفظ الحصا ، واستعمل فيه لأنهم كانوا يعتمدون على الحصا فى العد ، كما يعتمد بعض الناس الآن على الأصابع . قال الجمل وقوله { كِتَاباً } فيه أوجه أحدها أنه مصدر من معنى أحصيناه ، أى إحصاء فالتجوز فى نفس المصدر . والثانى أنه مصدر لأحصينا ، لأنه فى معنى كتبنا . فالتجوز فى نفس الفعل … أى وكل شئ فى هذا الكون ، قد أحصيناه إحصاء تاما ، بحيث لا يعزب منه شئ عن علمنا ، مهما كان صغيرا . والفاء فى قوله { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } للتفريع على ما تقدم من كون جهنم كانت مرصادا ، للطاغين مآبا … أى إن جهنم كانت معدة ومهيأة لهؤلاء الطغاة بسبب أعمالهم القبيحة ، وسيقال لهم يوم القيامة على سبيل الإِذلال والإِهانة ، ذوقوا سوء عاقبة كفركم وفسوقكم وعصيانكم ، فلن نزيدكم إلا عذابا فوق العذاب الذى أنتم فيه . قال ابن كثير قال قتادة ، عن أبى أيوب الأزدى ، عن عبد الله بن عمرو قال لم ينزل فى شأن أهل النار آية أشد من هذه الآية { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } قال فهم فى مزيد من العذاب أبدا … وكعادة القرآن الكريم فى الموازنة بين عاقبة الأشرار والأخيار ، جاء الحديث عن حسن عاقبة المتقين ، بعد الحديث عن سوء عاقبة الطاغين فقال - تعالى - { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } أى للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضى ربهم … { مَفَازاً } أى فوزاً برضوانه وجنته فقوله { مَفَازاً } مصدر بمعنى الفوز والظفر بالمطلوب ، وتنوينه للتعظيم . ثم فصل - سبحانه - مظاهر هذا الفوز فقال { حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً } أى إن لهم فى هذه الجنان التى ظفروا بها حدائق ، أى بساتين فيها ماء وأشجار مثمرة . . سميت بذلك تشبيها لها بحدقة العين فى الهيئة ، وحصول الماء فيها . وإن لهم - كذلك - فى هذه الجنان { أعنابا } جمع عنب ، وهو الكرم ، وخصت الأعناب بالذكر ، لأنها من أعظم الفواكه وأحبها إلى النفوس . وإن لهم - أيضا - { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } أى فتيات فى ريعان الشباب ، قد تقاربت أعمارهن ، وتساوين فى الجمال والنضارة وحسن الهيئة . فالكواعب ، جمع كاعب ، وهى الفتاة التى وصلت إلى سن البلوغ ، وسميت بذلك لأنها فى تلك السن يتكعب ثدياها ، أى يستديران مع ارتفاع … والأتراب ، جمع تِرْبِ - بكسر التاء وسكون الراء - وهو المساوى لغيره فى السن ، وأكثر ما يطلق هذا اللفظ على الإِناث . قيل سمى من تقاربن فى السن بذلك ، على سبيل التشبيه بالترائب ، أى بالضلوع التى فى الصدر فى التساوى … وإن لهم - أيضا - { وَكَأْساً دِهَاقاً } أى كأسا مليئة بالخمر . يقال دهق الحوض - كجعل - وأدهقه ، إذا ملأه حتى فاض من جوانبه . { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا } أى فى الجنة { لَغْواً } أى كلاما ساقطا لا يعتد به . ولا يسمعون - أيضا - { كِذَّاباً } أى كلاما كاذبا . وقوله - سبحانه - { جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً } بيان لمظاهر فضله ومننه على هؤلاء المتقين … وقوله { جَزَآءً } منصوب بفعل محذوف من لفظه ، و { من } ابتدائية . أى هؤلاء المتقون كوفئوا مكافأة صادرة من ربك على سبيل العطاء أى الإِحسان والتفضل ، حتى شبعوا واكتفوا . فقوله { حسابا } صفة للعطاء وهو بمعنى كاف . فهو مصدر أقيم مقام الوصف ، من قولهم أحْسَبَهُ الشئُ ، إذا كفاه حتى قال حسبى ، أى كافينى . قال صاحب الكشاف و { حِسَاباً } صفة بمعنى كافيا ، من أحسبه الشى إذا كفاه حتى قال حسبى … ويصح أن يكون قوله { حِسَاباً } معناه " محسوبا " أى كافأهم الله - تعالى - على أعمالهم الحسنة فى الدنيا مكافأة محسوبة ، على قدر أعمالهم الطيبة . وقوله { رَّبِّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ … } قرأه بعضهم بجر لفظ " رب " على أنه بدل " من ربك " ، وقرأه البعض الآخر بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . أى هذا الجزاء العظيم للمتقين هو كائن من ربك ، الذى هو رب أهل السموات وأهل الأرض ، ورب ما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا هو ، وهو - سبحانه - صاحب الرحمة الواسعة العظيمة التى لا تقاربها رحمة … وقوله { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } مقرر ومؤكد لما قبله ، من كونه - تعالى - هو رب كل شئ . أى أهل السموات والأرض وما بينهما ، خاضعون ومربوبون لله - تعالى - الواحد القهار ، الذى لا يقدر أحد منهم - كائنا من كان - أن يخاطبه إلا بإذنه ، ولا يملك أن يفعل ذلك إلا بمشيئته . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وقوله - سبحانه - { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } والظرف فى قوله - تعالى - { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً … } متعلق بقوله - تعالى - قبل ذلك { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } … والمراد بالروح جبريل - عليه السلام - . أى لا يملك أحد أن يخاطب الله - تعالى - إلا بإذنه ، يوم القيامة ، ويوم يقوم جبريل - عليه السلام - بين يدى خالقه قيام تذلل وخضوع ، ويقوم الملائكة - أيضا - قياما كله أدب وخشوع ، وهم فى صفوف منتظمة . { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ } أى لا يستطيع جبريل ولا الملائكة ولا غيرهم الكلام { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } منهم بالكلام أو بالشفاعة . { وَقَالَ صَوَابا } أى وقال المأذون له فى الكلام قولا صوابا يرضى الخالق - عز وجل - . وكون المراد بالروح جبريل - عليه السلام - هو الرأى الراجح ، لأن القرآن الكريم قد وصفه بذلك فى آيات منها قوله - تعالى - { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ . عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } وهناك أقوال أخرى فى المراد به ، منها أنه ملك من الملائكة ، ومنها أرواح بنى آدم . وجملة " لا يتكلمون " مؤكدة لجملة { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } والضمير لجميع الخلائق . وقد أفادت الآية الكريمة أن الذين يتكلمون فى هذا اليوم الهائل الشديد ، هم الذين يأذن الله - تعالى - لهم بالكلام ، وهم الذين يقولون قولا صوابا يرضى الله - تعالى - عنه . وجملة " وقال صوابا " يجوز أن تكون فى موضع الحال من الاسم الموصول " من " أى لا يستطيع أحد منهم الكلام إلا الشخص الذى قد أذن الله - تعالى - له فى الكلام ، والحال أن هذا المأذون له قد قال صوابا . ويصح أن تكون معطوفة على جملة { أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } . أى لا يستطيعون الكلام إلا الذين أذن لهم الرحمن فى الكلام ، وإلا الذين قالوا قولا صوابا يرضى الله ، فإنهم يتكلمون . والمقصود من الآية الكريمة ، بيان أن الخلائق جميعا يكونون فى هذا اليوم ، فى قبضة الرحمن وتحت تصرفه ، وأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا بإذنه - تعالى - . واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ } يعود إلى يوم البعث الذى يقوم الناس فيه لله رب العالمين . أى ذلك اليوم الذى يقوم فيه الخلائق للحساب والجزاء ، هو اليوم الحق الذى لا شك فى حدوثه ، ولا ريب فى ثبوته . والفاء فى قوله - تعالى - { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآباً } هى الفصيحة ، ومفعول المشيئة محذوف . أى لقد بينا لكم ما يهديكم ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمن شاء منكم أن يتخذ إلى ربه مرجعا حسنا وطريقا إلى رضاه ، فليتخذه الآن ، من قبل أن يأتى هذا اليوم الذى لا بيع فيه ولا خلال . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الإِنذار البليغ فقال { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } . والإِنذار الإِخبار بحصول شئ تسوء عاقبته ، فى وقت يستطيع المنذَر فيه أن يجنب نفسه الوقوع فى ذلك الشئ . أى إنا أخبرناكم - أيها الناس - بأن هناك عذابا قريبا ، سيحل بمن يستحقه عما قريب . وذلك العذاب سيكون أشد هولا ، وأبقى أثرا ، يوم القيامة ، { يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أى يوم يرى كل إنسان عمله حاضرا أمامه ، ومسجلا عليه … { وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } ، أى ويقول الإِنسان الكافر فى هذا اليوم على سبيل الحسرة والندامة ، يا ليتنى كنت فى الدنيا ترابا ، ولم أخلق بشرا ، ولم أكلف بشئ من التكاليف ، ولم أبعث ولم أحاسب . فالمقصود بالآية قطع أعذار المعتذرين بأبلغ وجه ، من قبل أن يأتى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .