Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 79, Ayat: 27-46)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الخطاب فى قوله - تعالى - { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً … } لأولئك الجاحدين الجاهلين الذين استنكروا إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم ، وقالوا { أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ } وجاء هذا الخطاب على سبيل التقريع والتوبيخ لهم ، حيث بين لهم - سبحانه - أن إعادتهم إلى الحياة ، ليست بأصعب من خلق السموات والأرض . و { أَشَدُّ } أفعل تفضيل ، والمفضل عليه محذوف ، لدلالة قوله - تعالى - { أَمِ ٱلسَّمَآءُ } عليه . والمراد بالأشد هنا الأصعب بالنسبة لاعتقاد المخاطبين ، إذ كل شئ فى هذا الكون خاضع لإِرادة الله - تعالى - ومشيئته { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } والمعنى أخلقكم - أيها الجاهلون - بعد موتكم ، وإعادتكم إلى الحياة بعد هلاككم ، أشد وأصعب فى تقديركم ، أم خلق السماء التى ترون بأعينكم عظمتها وضخامتها ، والتى أوجدها - سبحانه وبناها بقدرته . فالمقصود من الآية الكريمة لفت أنظارهم إلى أمر معلوم عندهم بالمشاهدة ، وهو أن خلق السماء أعظم وأبلغ من خلقهم ، ومن كان قادرا على الأبلغ والأعظم كان على ما هو أقل منه - وهو خلقهم وإعادتهم بعد موتهم - أقدر . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } ثم بين - سبحانه - جانبا من بديع قدرته فى خلق السماء فقال { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } . والسَّمْك - بفتح السين - المشددة وسكون الميم - الرفع فى الفضاء ، وجعل الشئ عاليا عن غيره . تقول سمكت الشئ ، إذا رفعته فى الهواء ، وبناء مسموك ، أى مرتفع ، ومنه قول الشاعر @ إن الذى سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول @@ أى أن الله - تعالى - بقدرته ، جعل مقدار ارتفاع السماء عن الأرض عظيما ، وبجانب ذلك سوى بحكمته هذه السماء ، بأن جعلها خالية من الشقوق والثقوب … كما قال - سبحانه - { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ … } وجملة { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا … } معطوفة على " بناها " والإِغطاش الإِظلام الشديد . يقال " غطش الليل - من باب ضرب - إذا اشتد ظلامه . أى وجعل - بقدرته - ليل هذه السماء مظلما غاية الإِظلام بسبب مغيب شمسها . { وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أى وأبرز وأضاء نهارها ، إذ الضحكى فى الأصل انتشار الشمس ، وامتداد النهار . ثم سمى به هذا الوقت ، لبروز ضوء الشمس فيه أكثر من غيره ، فهو من باب تسمية الشئ باسم أشرف أجزائه وأطيبها . وأضاف - سبحانه - الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب شمسها وطلوعها . ثم انتقلت الآيات الكريمة من الاستدلال على قدرته - تعالى - عن طريق خلق السماء ، إلى الاستدلال على قدرته عن طريق خلق الأرض فقال { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } . ولفظ " الأرض " منصوب على الاشتغال . واسم الإِشارة " ذلك " يعود إلى خلق السماء وتسويتها ورفعها وإغطاش ليلها . وقوله { دَحَاهَا } من الدحو بمعنى البسط ، تقول دحوت الشئ أدحوه ، إذا بسطته … أى خلق - سبحانه - السماء وسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ، والأرض بعد كل ذلك الخلق البديع للسماء ، بسطها وأوسعها لتكون مستقرا لكم وموضعا لتقبلكم عليها … وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآية ، تأخر خلق الأرض عن خلق السماء … وجمهور العلماء على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ، بدليل قوله - تعالى - { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قالوا فى الجمع بين هذه الآية التى معنا ، وبين آية سورة البقرة ، بما روى عن ابن عباس من أنه سئل عن الجمع بين هاتين الآيتين فقال خلق الله - تعالى - الأرض أولا غير مدحوة ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسى والأنهار وغيرهما . أى أن أصل خلق الأرض كان قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها ، كان بعد خلق السماء . وقالوا - أيضا - فى وجه الجمع ، إن لفظ بعد فى قوله - تعالى - { بَعْدَ ذَلِكَ } بمعنى مع . أى والأرض مع ذلك بسطها ومهدها لسكنى أهلها فيها … وقدم - سبحانه - هنا خلق السماء على الأرض ، لأنه أدل على القدرة الباهرة ، لعظم السماء وانطوائها على الأعاجيب . وقوله - سبحانه - { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا . وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } بدل اشتمال من قوله { دحاها } ، أو بيان وتفسير لدحوها ، والمرعى مصدر ميمى أطلق على المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق ، أى أخرج منها ما يُرْعَى . أى والأرض جعلها مستقرا لكم ، ومكانا لانتفاعكم ، بأن أخرج منها ماءها ، عن طريق تفجير العيون والآبار والبحار ، وأخرج منها { مرعاها } أى جميع ما يقتات به الناس والدواب ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } . وكذلك من مظاهر قدرته - تعالى - ورحمته بكم ، أنه أثبت الجبال فى الأرض حتى لا تميد أو تضطرب ، فالمقصود بإرسال الجبال تثبيتها فى الأرض . وقوله - تعالى - { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } بيان لوجه المنة فى خلق الأرض على هذه الطريقة البديعة . والمتاع اسم لما يتمتع به الإِنسان من منافع الحياة الدنيا لمدة محدودة من الزمان ، وانتصب لفظ " متاعا " هنا بفعل مقدر من لفظه ، أى متعناكم متاعا . والمعنى دحونا الأرض ، وأخرجنا منها ماءها ومرعاها … لتكون موضع منفعة لكم ، تتمتعون بخيراتها أنتم وأنعامكم ، إلى وقت معين من الزمان ، تتركونها لانتهاء أعماركم . ثم بين - سبحانه - حال الأشقياء والسعداء يوم القيامة ، فقال { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ } . والطامة اسم للمصيبة العظمى ، التى تَطُمُّ وتغلب وتعلو ما سواها من مصائب ، من قولهم طمَّ الشئ يطُمُّه طَمّاً ، إذا غمره . وكل شئ كثر وعلا على غيره ، فقد طم عليه . ويقال طم الماء الأرض إذا غمرها . وهذا الوصف ليوم القيامة ، من أوصاف التهويل والشدة ، لأن أحوالها تغمر الناس وتجعلهم لا يفكرون فى شئ سواها . وجواب الشرط محذوف ، والمجئ هنا بمعنى الحدوث والوقوع ، أى فإذا وقعت القيامة ، وقامت الساعة … حدث ما حدث ما لم يكن فى الحسبان من شدائد وأهوال . وقوله { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ مَا سَعَىٰ } بدل اشتمال من الجملة التى قبلها وهى قوله { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ } لأن ما أضيف إليه لفظ " يوم " من الأحوال التى يشملها يوم القيامة ، وتذكر الإِنسان لسعيه فى الدنيا ، يكون بإطلاعه على أعماله التى نسيها ، ورؤيته إياها فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . أى فإذا قامت القيامة ، وتذكر الإِنسان فى هذا الوقت ما كان قد نسيه من أعمال فى دنياه ، وقع له من الخوف والفزع مالا يدخل تحت وصف … وقوله { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } معطوف على قوله { جاءت } . أى فإذا جاءت الطامة الكبرى ، وتذكر الإِنسان فيها ما كان قد نسيه من أعمال دنيوية { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ } أى وأظهرت إظهاراً واضحا لا خفاء فيه ولا لبس { لِمَن يَرَىٰ } أى لكل راء . كان الهول الأعظم وقوله - سبحانه - { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ … } تفصيل لأحوال الناس فى هذا اليوم . أى { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ } بأن تجاوز الحدود فى الكفر والفسوق والعصيان { وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } بأن قدم متاعها الفانى ، على نعيم الآخرة الخالد … { فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } أى فإن مصير هذا الإِنسان الشقى سيكون إلى النار الملتهبة ، لا منزل له سواها فى هذا اليوم . { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } أى خاف عظمته وجلاله ، وسلح نفسه بالإِيمان والعمل الصالح استعدادا لهذا اليوم الذى يجازى فيه كل إنسان بما يستحقه . { وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } أى وزجر نفسه وكفها عن السيئات والمعاصى والميول نحو الأهوال الضالة المضلة . { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } أى فإن الجنة فى هذا اليوم ، ستكون هى مأواه ومنزله ومستقره … ثم لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يرد به على المشركين ، الذين كانوا يكثرون من سؤاله عن يوم القيامة ، على سبيل الإِنكار والاستهزاء ، فقال - تعالى - { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } . وأيان اسم يستفهم به عن تعيين الوقت وتحديده ، فهو ظرف زمان متضمن معنى " متى " ومرساها مصدر ميمى من أرسى الشئ إذا ثبته وأقره ، ولا يكاد يستعمل هذا اللفظ إلا فى الشئ الثقيل ، كما فى قوله - تعالى - { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا … } . ونسبة الإِرساء إلى الساعة ، باعتبار تشبيه المعانى بالأجسام . و " أيان " خبر مقدم ، و " مرساها " مبتدأ مؤخر . والمعنى يسألك يا محمد هؤلاء القوم عن وقت قيام الساعة ، قائلين لك متى يكون استقرارها وإرساؤها وإرساؤها ووقوعها ؟ . وأطلق على يوم القيامة ساعة لوقوع بغتة ، أو لسرعة ما فيه من الحساب ، أو لأنه على طوله ، زمان يسير عند الله - تعالى - . وقوله - سبحانه - { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا . إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ } واقع موقع الجواب عن سؤالهم عن الساعة ، وعن وقت وقوعها . والمقصود بهذا الجواب توبيخهم على إلحاحهم فى السؤال عنها ، مع أن الأولى بهم كان الاستعداد لها بالإِيمان والعمل الصالح . و " ما " فى قوله { فيم } اسم استفهام بمعنى أى شئ ، وهى هنا مستعملة فى التعجيب من كثرة أسئلتهم عن شئ لا يهمهم حدوثه ، وإنما الذى يهمهم - لو كانوا يعقلون - هو حسن الاستعداد له . قال الآلوسى قوله { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } إنكار ورد لسؤال المشركين عنها . أى فى أى شئ أنت من أن تذكر لهم وقتها ، وتعلمهم به حتى يسألونك بيانها ، كقوله - تعالى - { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } فالاستفهام للإِنكار . وفيم خبر مقدم ، وأنت مبتدأ مؤخر . وقوله { مِن ذِكْرَاهَا } على تقدير مضاف ، أى ذكرى وقتها ، وهو متعلق بما تعلق به الخبر . وقيل { فيم } إنكار لسؤالهم ، وما بعده استئناف تعليل للإِنكار ، وبيان لبطلان السؤال . أى فيم هذا السؤال ، ثم ابتدئ فقيل أنت من ذكراها . أى إرسالك وأنت خاتم النبيين … علامة من علاماتها . وقوله - تعالى - { إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ } أى إلى ربك وحده منتهى علم قيامها ، لأنه - سبحانه - هو وحده - من دون غيره - العليم علما تاما بالوقت الذى ستقوم فيه الساعة . ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ … } وقوله - سبحانه - { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ … } وقوله - تعالى - { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } تحديد لوظيفته صلى الله عليه وسلم أى ليست وظيفتك - أيها الرسول الكريم - معرفة الوقت الذى تقوم فيه الساعة ، فهذا أمر مرد معرفته إلى الله وحده … وإنما وظيفتك امتثال ما أمرت به ، من بيان اقترابها ، وتفصيل أهوالها ، ودعوة الناس إلى حسن الاستعداد لها بالإِيمان والعمل الصالح … وإذا كان الأمر كذلك فلماذا ترك هؤلاء الجاهلون ما يجب عليهم من الإِيمان والعمل الصالح ، وأخذوا يسألونك عن أشياء خارجة عن وظيفتك ؟ . وخص - سبحانه - الإِنذار بمن يخشى قيام الساعة ، مع أن رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة . وإنذاره إنما هو لهم جميعا ، لأن هؤلاء الذين يخشون وقوعها ، ويعملون العمل الصالح الذى ينجيهم من أهوالها ، هم الذين ينتفعون بهذا الإِنذار . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، ببيان حالهم عند قيام الساعة ، فقال - تعالى - { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } . والعشية هى الوقت الكائن من الزوال إلى الغروب . والضحى الوقت الكائن من أوائل النهار إلى الزوال . أى كأن هؤلاء المشركين حين يرون الساعة وقد فاجأتهم بأهوالها ، لم يلبثوا فى دنياهم أو فى قبورهم إلا وقتا يسيرا ، يشبه العشية أو الضحى بالنسبة للزمان الطويل . فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن المشركين عند إتيانها كأنهم ما لبثوا فى انتظارها إلا يوما أو بعض يوم … قال صاحب الكشاف فإن قلت كيف صحت إضافة الضحى إلى العشية ؟ قلت لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما فى نهار واحد . فإن قلت فهلا قيل إلا عشية أو ضحى وما فائدة الإِضافة ؟ قلت للدلالة على أن مدة لبثهم ، كأنها لم تبلغ يوما كاملا ، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه ، فلما ترك اليوم أضافه إلى عشيته . فهو كقوله { لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } .