Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 79, Ayat: 15-26)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الإِمام الرازى اعلم أن وجه المناسبة بين هذه القصة وبين ما قبلها من وجهين الأول أنه - تعالى - حكى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث ، حتى انتهوا فى ذلك الإِنكار إلى حد الاستهزاء فى قولهم { تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } وكان ذلك يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم فذكر - سبحانه - قصة موسى - عليه السلام - ، وبين أنه تحمل المشقة فى دعوة فرعون ، ليكون ذلك لتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم . الثانى أن فرعون كان أقوى من كفار قريش … فلما تمرد على موسى ، أخذه الله - تعالى - نكال الآخرة والأولى ، فكذلك هؤلاء المشركون فى تمردهم عليك ، إن أصروا ، أخذهم الله وجعلهم نكالا … والمقصود من الاستفهام فى قوله - تعالى - { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ … } التشويق إلى الخبر ، وجعل السامع فى أشد حالات الترقب لما سيلقى إليه ، حتى يكون أكثر وعيا لما سيسمعه . والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم لقصد تسليته ، ويندرج فيه كل من يصلح له . والمعنى هل وصل إلى علمك - أيها الرسول الكريم - خبر موسى - عليه السلام - مع فرعون ؟ إن كان لم يصل إليك فهاك جانبا من خبره نقصه عليك ، فتنبه له ، لتزداد ثباتا على ثباتك ، وثقة فى نصر الله - تعالى - لك على ثقتك . والظرف " إذ " فى قوله - تعالى - { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } متعلق بلفظ " حديث " ، والجملة يدل اشتمال مما قبلها . و " الواد " المكان المنخفض بين جبلين ، أو بين مكانين مرتفعين . و " المقدس " بمعنى المطهر . و " طوى " اسم للوادى . وقد جاء الحديث عنه فى آيات متعددة ، منها قوله - تعالى - { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ . إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } والمعنى هل بلغك - أيها الرسول الكريم - خبر موسى ، وقت أن ناديناه وهو بالواد المقدس طوى ، الذى هو بجانب الطور الأيمن ، بالنسبة للقادم من أرض مدين التى هى فى شمال الحجاز . ويدل على ذلك قوله - تعالى - { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ . فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } وقوله - سبحانه - { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ … } مقول لقول محذوف ، أى ناديناه وقلنا له { ٱذْهَبْ } يا موسى إلى فرعون إنه طغى ، أى إنه تجاوز كل حد فى الكفر والغرور والعصيان . وفرعون لقب لكل ملك من ملوك مصر فى ذلك الزمان ، وقد قالوا إن فرعون الذى أرسل الله - تعالى - إليه موسى - عليه السلام - هو منفتاح بن رمسيس الثانى . ثم بين - سبحانه - ما قاله لموسى على سبيل الإِرشاد إلى أحكم وأفضل وسائل الدعوة إلى الحق فقال { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ . وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ } . والمقصود بالاستفهام هنا الحض والترغيب فى الاستجابة للحق ، كما تقول لمن تنصحه هل كل فى كذا ، والجار والمجرور " لك " خبر لمبتدأ محذوف ، أى هل كل رغبة فى التزكية . أى اذهب يا موسى إلى فرعون ، فقل له على سبيل النصح الحكيم . والإِرشاد البليغ هل لك يا فرعون رغبة فى أن أدلك على ما يزكيك ويطهرك من الرجس والفسوق والعصيان . وهل لك رغبة - أيضا - فى أن أرشدك إلى الطريق الذى يوصلك إلى رضى ربك ، فيترتب على وصولك إلى الطريق السوى ، الخشية منه - تعالى - والمعرفة التامة بجلاله وسلطانه . قال صاحب الكشاف قوله { وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ … } أى وأرشدك إلى معرفة الله ، أى أنبهك عليه فتعرفه { فَتَخْشَىٰ } لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة … وذكر الخشية ، لأنها ملاك الأمر ، من خشى الله أتى منه كل خير ، ومن أمن اجترأ على كل شئ . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " من خاف أدلج ، - أى سار فى أول الليل - ومن أدلج بلغ المنزل " . بدأ مخاطبته بالاستفهام الذى معناه العرض ، كما يقول الرجل لضيفه هل لك أن تنزل بنا ؟ وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف فى القول ، ويستنزله بالمداراة من عتوه ، كما أمر بذلك فى قوله - تعالى - { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ … } والحق أن هاتين الآيتين فيهما أسمى ألوان الإِرشاد إلى الدعوة إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة . والفاء فى قوله - تعالى - { فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ . فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ } للإِفصاح والتفريع على كلام محذوف يفهم من المقام . والتقدير فامتثل موسى - عليه السلام - أمر ربه ، فذهب إلى فرعون ، فدعاه إلى الحق ، فكذبه فرعون ، فما كان من موسى إلا أن أراه الآية الكبرى التى تدل على صدقه ، وهى أن ألقى أمامه عصاه فإذا هى حية تسعى ، وأن نزع يده من جيبه فإذا هى بيضاء من غير سوء . ولكن فرعون لم يستجب لدعوة موسى ، بعد أن أراه الآية الكبرى الدالة على صدقه ، بل كذب ما رآه تكذيبا شديدا ، وعصى أمر ربه عصيانا كبيرا . { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ } أى ثم أضاف إلى تكذيبه وعصيانه . إعراضه وتوليه عن الإِيمان والطاعة . وسعيه سعيا حثيثا فى إبطال أمر موسى ، وإصراره ، على تكذيب معجزته . وجاء العطف هنا بثم ، للدلالة على أنه قد تجاوز التكذيب والعصيان ، إلى ما هو أشد منهما فى الجحود والعناد ، وهو الإِعراض عن الحق والسعى الشديد فى إبطاله . ثم بين - سبحانه - ما فعله بعد ذلك فقال { فَحَشَرَ فَنَادَىٰ . فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } . والحشر جمع الناس ، والنداء الجهر بالصوت لإِسماع الغير ، ومفعولاهما محذوفان . أى فجمع فرعون الناس عن طريق جنده ، وناداهم بأعلى صوته ، قائلا لهم أنا ربكم الأعلى الذى لا رب أعلى منه ، وليس الأمر كما يقول موسى من أن لكم إلها سواى . والتعبير بالفاء فى قوله { فَنَادَىٰ } للإِشعار بأنه بمجرد أن جمعهم دعاهم إلى الاعتراف بأنه هو رب الأرباب . وجاء نداؤه بالصيغة الدالة على الحصر { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } للرد على ما قاله موسى له . من وجوب إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده . ثم بين - سبحانه - ما ترتب على هذا الفجور الذى تلبس به فرعون ، وعلى هذا الطغيان الذى تجاوز معه كل حد ، فقال { فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } . والنكال مصدر بمعنى التنكيل ، وهو العقاب الذى يجعل من رآه فى حالة تمتعه وتصرفه عما يؤدى إليه ، يقال نَكَّلَ فلان بفلان ، إذا أوقع به عقوبة شديدة تجعله نكالا وعبرة لغيره . وهو منصوب على أنه مصدر مؤكد لقوله { فَأَخَذَهُ } ، لأن معناه نكل به ، والتعبير بالأخذ للإِشعار بأن هذه العقوبة كانت محيطة بالمأخوذ بحيث لا يستطيع التفلت منها . والمراد بالآخرة الدار الآخرة ، والمراد بالأولى الحياة الدنيا . أى أن فرعون عندما تمادى فى تكذيبه وعصيانه وطغيانه … كانت نتيجة ذلك أن أخذه الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر ، بأن أنزل به فى الآخرة أشد أنواع الإِحراق ، وأنزل به فى الدنيا أفظع ألوان الإِغراق . وقدم - سبحانه - عذاب الآخرة على الأولى ، لأنه أشد وأبقى . ومنهم من يرى أن المراد بالآخرة قوله لقومه { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } ، وأن المراد بالأولى تكذيبه لموسى - عليه السلام - أى ، فعاقبه الله - تعالى - على هاتين المعصيتين وهذا العقاب الأليم ، بأن أغرقه ومن معه جميعا … ويبدو لنا أن التفسير الأول هو الأقرب إلى ما تفيده الآية الكريمة ، إذ من المعروف أن الآخرة ، هى ما تقابل الأولى وهى دار الدنيا ، ولذا قال الإِمام ابن كثير قوله - تعالى - { فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } أى انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين فى الدنيا . ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ، كما قال - تعالى - { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ } هذا هو الصحيح فى معنى الآية ، أن المراد بقوله { نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } أى الدنيا والآخرة . وقيل المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية . وقيل كفره وعصيانه ، والصحيح الذى لا شك فيه الأول … والإِشارة فى قوله - تعالى - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ } ، تعود إلى حديث موسى الذى دار بينه وبين فرعون ، وما ترتب عليه من نجاة لموسى ومن إهلاك لفرعون . أى إن فى ذلك الذى ذكرناه عما دار بين موسى وفرعون ، لعبرة وعظة ، لمن يخشى الله - تعالى - ، ويقف عند حدوده ، لا لغيره ممن لا يتوبون ولا يتذكرون ولا تخالط أنفسهم خشية الله - تعالى - . والمقصود من هذه القصة كلها ، تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتهديد المشركين بأنهم إذا ما استمروا فى طغيانهم ، كانت عاقبتهم كعاقبة فرعون . وبعد هذا الاستطراد عن طريق ذكر جانب مما دار بين موسى وفرعون … عادت السورة الكريمة ، كما بدأت إلى الحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن إمكانية وقوعه ، وعن أحوال الناس فيه . وعن أن موعد قيامه مرد علمه إلى الله - تعالى - وحده ، فقال - سبحانه - { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ … } .