Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 61-63)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { جَنَحُواْ } من الجنوح بمعنى الميل ، يقال جنح فلان للشئ وإليه - يجنح - مثلث النون - جنوحاً . أى مال إليه . قال القرطبى والجنوح الميل . وجنح الرجل إلى الآخر مال إليه . ومنه قيل للأضلاع جوانح ، لأنها مالت على الحشورة - بضم الحاء وكسرها - أى الأمعاه . وجنحت الإِبل إذا مالت أعناقها فى السير قال ذو الرمة @ إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح @@ وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيص " للسلم " - بكسر السين - وقرأ الباقون بالفتح . وإنما قال { لَهَا } لأن السلم مؤنثة - تأنيث نقيضها وهى الحرب … ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة . والمعنى عليك - أيها الرسول الكريم - أن تنكل فى الحرب بأولئك الكافرين الناقضين لعهودهم فى كل مرة ، وأن تهيئ ما استطعت من قوة لإِرهابهم فإن مالوا بعد ذلك إلى { اِلسَّلْمِ } أى المسالمة والمصالحة فوافقهم ومل إليها ما دامت المصلحة فى هذه المسالمة . وقوله { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } معطوف على { فَٱجْنَحْ لَهَا } لقصد التثبيت وبعث الطمأنينة فى قلبه . أى اقبل المسالمة ما دام فيها مصلحتك ، وفوض أمرك إلى الله - تعالى - ولا تخش مكرهم وكيدهم وغدرهم ، إنه - سبحانه - { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لأقوالهم { ٱلْعَلِيمُ } بأحوالهم ، فيجازيهم بما يستحقون ، ويرد كيدهم فى نحورهم . وعبر - سبحانه - عن جنوحهم إلى السلم بحرف { إِن } الذى يعبر به عن الشئ المشكوك فى وقوعه ، للإِشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً لاختيار المسالمة أو المصالحة لذاتها ، وإنما هم جنحوا إليها لحاجة فى نفوسهم ، فعلى المؤمنين أن يكونوا دائماً على حذر منهم ، وألا يأمنوا مكرهم . هذا وقد اختلف العلماء فيمن عنى بهذه الآية ، فمنهم من يرى أن المعنى بها أهل الكتاب ، ومنهم من يرى أن الآية عامة ، أى تشمل أهل الكتاب والمشركين . ثم اختلفوا بعد ذلك فى كونها منسوخة أولاً ؟ وقد حكى ابن جرير معظم هذه الخلافات ورجح أن المقصود بهذه الآية جماعة من أهل الكتاب ، وأن الآية ليست منسوخة فقال ما ملخصه عن قتادة أن قوله { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا … } منسوخة بقوله فى سورة براءة { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وبقوله { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } فقد كانت هذه - أي الآية التى معنا وهى قوله - تعالى - { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ … } قبل براءة . كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يوادع القول إلى أجل ، فإما أن يسلموا ، وإما أن يقاتلهم ، ثم نسخ ذلك بعد براءة فقال { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وعن عكرمة والحسن البصرى قالا { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ … } نسختها الآية التى فى براءة وهى قوله - تعالى - { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } الآية . ثم قال ابن جرير فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن الآية منسوخة ، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل . لأن قوله { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا … } إنما عنى به بنو قريظة - كما قال مجاهد - وكانوا يهودا أهل كتاب وقد أذن الله - جل ثناؤه - للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ، ومتاركتهم الحرب ، على أخذ الجزية منهم ، وأما قوله { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } فإنما عنى به مشركو العرب ن عبدة الأوثان ، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم ، فليس فى إحدى الآيتين نفى حكم الأخرى ، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه … هذا ما يراه ابن جرير . أما ابن كثير فقد وافقه على أن الآية ليست منسوخة ، وخالفه فى أن المقصود بها بنو قريظة ، فهو يرى أن الآية عامة فقد قال - رحمه الله - قوله { وَإِن جَنَحُواْ } أى مالوا { لِلسَّلْمِ } أى المسالمة والمصالحة والمهادنة { فَٱجْنَحْ لَهَا } أى فمل إليها واقبل منهم ذلك . ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر … وقال مجاهد نزلت فى بنى قريظة ، وهذا فيه نظر ، لأن السياق كله فى موقعة بدر ، وذكرها مكتنف لها كله . وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراسانى وعكرمة والحسن وقتادة إن الآية منسوخة بآية السيف فى براءة ، وهى قوله - تعالى - { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وفيه نظر أيضاً ، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة { وَإِن جَنَحُواْ } وكما فعل النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص … ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن كثير أرجح ، لأن الآية الكريمة تقرر مبدأ عاماً فى معاملة الأعداء ، وهو أنه من الجائز مهادنتهم ومسالمتهم ما دام ذلك فى مصلحة المسلمين . ولعل هذا هو ما قصده صاحب الكشاف بقوله عند تفسير الآية - " والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإِمام صلاح الإِسلام وأهله من حرب أو سلم . وليس يحتم أن يقاتلوا أبداً . أو يجابوا إلى الهدنة أبداً " . ثم أمن الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - من خداع أعدائه ، إن هم أرادوا خيانته ، وبيتوا له الغدر من وراء الجنوح إلى السلم فقال - تعالى - { وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ } . أى وإن يرد هؤلاء الأعداء الذين جنحوا إلى السلم فى الظاهر أو يخدعوك - يا محمد - لتكف عنهم حتى يستعدوا لمقاتلتك فلا تبال بخداعهم ، بل صالحهم مع ذلك إذا كان فى الصلح مصلحة للإِسلام وأهله ، ولا تخف منهم ، فإن الله كافيك بنصره ومعونته ، فهو - سبحانه - الذى أمدك بما أمدك به من وسائل النصر الظاهرة والخافية ، وهو - سبحانه - الذى أيدك بالمؤمنين الذين هانت عليهم أنفسهم وأموالهم فى سبيل إعزاز هذا الدين ، وإعلاء كلمته … فالآية الكريمة تشجيع للنبى - صلى الله عليه وسلم - على السير فى طريق الصلح ما دام فيه مصلحة للإِسلام وأهله ، وتبشير له بأن النصر سيكون له حتى ولو أراد الأعداء بإظهار الميل إلى السلم المخادعة والمراوغة . وقوله { حَسْبَكَ } صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل . أى . بحسبك وكافيك . قال الفخر الرازى فإن قيل أليس قد قال - تعالى - { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ … } أى أظهر نقض ذلك العهد ، وهذا يناقض ما ذكره فى هذه الآية ؟ قلنا قوله { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها ، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل فى قلوبهم نوع نفاق وتزوير ، إلا أنه لم تظهر أمارات على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة ، بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسالمة وترك المنازعة … فإن قيل لما قال { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } فأى حاجة مع نصره إلى المؤمنين حتى قال { وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ } ؟ قلنا التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين أحدهما ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة والثانى ما يحصل بواسطة أسباب معلومة . فالأول هو المراد من قوله { أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } والثانى هو المراد من قوله { وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ } . ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله فى كيفية تأييده لرسوله بالمؤمنين فقال - تعالى - { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } . أى أن من مظاهر فضل الله عليك يا محمد أن أيدك - سبحانه - بنصره وأن أيدك بالمؤمنين ، بأن حبب إليهم الإِيمان وزينه فى قلوبهم ، وجعل منهم قوة موحدة ، فصاروا بفضله - تعالى - كالنفس الواحدة ، بعد أن كانوا متنازعين متفرقين وأنت يا محمد { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } من الذهب والفضة وغيرهما ما استطعت أن تؤلف بين قلوبهم المتنافرة المتنازعة { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ } بفضله وقدرته هو وحده الذى { أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } فصاروا إخواناً متحابين متصافين { إِنَّهُ } - سبحانه - { عَزِيزٌ } أى غالب فى ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن { حَكِيمٌ } فى كل أفعاله وأحكامه … وهذه الآية الكريمة يؤيدها التاريخ ، ويشهد بصدقها أحداثه ، فنحن نعلم أن العرب - وخصوصاً الأوس والخزرج - كانوا قبل الإِسلام فى حالة شديدة من التفرق والتخاصم والتنازع والتحارب . . فلما دخلوا فى الإِسلام تحول بغضهم إلى حب ، وتخاصمهم إلى مودة ، وتفرقهم إلى اتحاد … وصاروا فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، إلى مستوى لم يعرفه التاريخ من قبل … ولقد أجاد صاحب الكشاف - رحمه الله - فى تصويره لهذه المعانى حيث قال " التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الباهرة ، لأن العرب - لما فيهم من الحمية والعصبية ، والانطواء على الضغينة … لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتحدوا ، وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب ، فى الله والبغض فى الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كيف يشاء ، ويصنع فيها ما يريد . قيل هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم . ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى . وبينهما التجاور الذى يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس . وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها ، وتكرهه وتنفر منه . فأنساهم الله - تعالى - ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصاراً ، وعادوا أعواناً ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته " . هذا ، وفى الصحيحين " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الأنصار فى شأن غنائم " حنين " قال لهم يا معشر الأنصار ! ! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى وعالة فأغناكم الله بى ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بى ؟ فكانوا يقولون كلما قال شيئا الله ورسوله أمن " . وروى الحاكم أن ابن عباس كان يقول إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتنكر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شئ . ثم يقرأ قوله - تعالى - { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ … } . ثم مضت السورة الكريمة فى تثبيت الطمأنينة فى قلب النبى - صلى الله عليه وسلم - وفى قلوب أصحابه فبينت لهم أن الله كافيهم وناصرهم ، وأن القلة منهم تغلب الكثرة من أعداء الله وأعدائهم فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ … مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } .