Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 70-71)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال ابن كثير " عن الزهرى عن جماعة سماهم قالوا بعثت قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى فداء أسراهم ، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا . وقال العباس يا رسول الله ! قد كنت مسلماً ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الله أعلم بإسلامك ، فإن يكن كما تقول ، فإن الله يجزيك . وأما ظاهرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وابنى أخيك نوفل بن الحارث ، وعقيل بن أبى طالب ، وحليفك عتبة بن عمرو أخى بنى الحارث بن فهر " . قال العباس ما ذاك عندى يا رسول الله ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فأين المال الذى دفنته أنت وأم الفضل ، فقلت لها إن أصبت فى سفرى هذا فهذا المال الذى دفنته لبنىّ الفضل ، وعبد الله ، وقثم " ؟ قال والله يا رسول الله إنى لأعلم أنك رسول الله . إن هذا الشئ ما علمه أحد غيرى وغير أم الفضل ، فاحسب لى يا رسول الله ما أصبتم منى - عشرين أوقية من مال كان معى - . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " لا ، ذاك شئ أعطانا الله منك " . ففدى نفسه وابنى أخويه وحليفه . فأنزل الله - تعالى - فيه { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ … } الآية . قال العباس فأعطانى الله مكان العشرين الأوقية فى الإسلام ، عشرين عبداً كلهم فى يده مال يضرب به . مع ما أرجو من مغفرة الله - تعالى - " . وفى صحيح البخارى " عن أنس أن رجالاً من الأنصار قالوا يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه . فقال - صلى الله عليه وسلم - " لا والله ! لا تذرون منه درهما " هذا والآية الكريمة وإن كانت قد نزلت فى العباس إلا أنها عامة فى جميع الأسرى إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولأن الخطاب فيها موجه إلى سائر الأسرى لا إلى فرد منهم دون آخر . والمعنى { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ } أى قل للذين تحت تصرف أيدكم { مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ } أى من أسرى المشركين فى بدر الذين أخذتم منهم الفداء لتطلقوا سراحهم . قل لهم - أيها النبى الكريم - { إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } أى إيماناً وتصديقاً وعزماً على اتباع الحق ونبذ الكفر والعناد … إن يعلم الله - تعالى - منكم ذلك { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } من فداء ، بأن يخلفه عليكم فى الدنيا ، ويمنحكم الثواب الجزيل فى الآخرة . ولقد صدق الله - تعالى - وعده مع من آمن وعمل صالحاً من هؤلاء الأسرى ، فأعطاهم الكثير من نعمه كما قال العباس - رضى الله عنه - وقوله { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } زيادة فى حضهم على الدخول فى الإِيمان . وقوله { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الوعد بالخير والمغفرة . أى والله - تعالى - واسع المغفرة ، والرحمة لمن استجاب للحق ، وقدم العمل الصالح . والتعبير ، بقوله { لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ } للإِشعار بأن هؤلاء الأسرى المشركين قد صاروا فى قبضة المؤمنين وتحت تصرفهم ، حتى لكأن أيديهم قابضة عليهم . وأسند وجود الخير فى قلوبهم إلى علم الله - تعالى - للإِشارة إلى أن ادعاء الإِيمان باللسان فقط لا يكفل لهم الحصول على الخير الذى فقدوه ولا يوصلهم إلى مغفرة الله - تعالى - فعليهم أن يخلصوا لله فى إيمانهم حتى ينالوا فضله وثوابه ، فهو - سبحانه - عليم بذات الصدور . وقوله { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } إنذار لهم بسوء المصير إذا مالجوا فى عنادهم وغدرهم ، وبشارة من الله - تعالى - لرسوله والمؤمنين بأن العاقبة ستكون لهم . أى وإن يرد هؤلاء الأسرى نقض عهودهم معك - يا محمد - والاستمرار فى محاربتك ومعاداتك … فلا تهتم بهم ، ولا تجزع من خيانتهم فهم قد خانوا الله - تعالى - من قبل هذه الغزوة بكفرهم وجحودهم لنعمه فكانت نتيجة ذلك أن أمكنك منهم ، وأظفرك بهم ، وسينصرك عليهم بعد ذلك كما نصرك عليهم فى بدر ، والله - تعالى - عليم بما يسرونه وما يعلنونه ، حكيم فى تدبيره وصنعه . فالآية الكريمة إنذار للأسرى إذا ما استحبوا العمى على الهدى ، وتبشير للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن خيانتهم سيكون وبالها عليهم . قال الفخر الرازى وقوله { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } قال الأزهرى يقال أمكننى الأمر يمكننى فهو ممكن ومفعول الإِمكان محذوف . والمعنى فأمكن المؤمنين منهم ، أى أنهم خانوا الله بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر . فأمكن الله منهم قتلا وأسرا ، وذلك نهاية الإِمكان والظفر . فنبه الله بذلك على أنهم ذاقوا وبال ما فعلوه ، فإن عادوا كان التمكين منهم ثابتاً حاصلاً ، وفيه بشارة للرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يتمكن من كل من يخونه وينقض عهده . هذا ، ومن الأحكام والآداب التى حدثت عن أسرى غزوة بدر ما يأتى 1 - أن على المؤمنين فى كل زمان ومكان أن يجعلوا جهادهم خالصاً لوجه الله ومن أجل إعلاء كلمته ونصرة دينه ، وذلك بأن يبالغوا فى قتال أعدائه وأعدائهم إذلالا للكفر وإعزازاً للحق ، وأن يؤثروا كل ذلك على أعراض الدنيا ومتعها . 2 - أن أخذ الفداء من الأسرى لا شئ فيه فى ذاته ، وإنما عاتب الله المؤمنين على أخذه من أسرى بدر ، لأن هذه الغزوة كانت المعركة الأولى بين المؤمنين والمشركين ، وكان إذلال المشركين فيها عن طريق المبالغة فى قتلهم أهم من أخذ الفداء منهم ، وأظهر فى كسر شوكتهم ، وعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين . قال ابن كثير . وقد استقر الحكم فى الأسرى عند جمهور العلماء ، أن الإِمام مخير فيهم ، إن شاء قتل - كما فل ببنى قريظة - وإن شاء فادى بمال - كما فعل بأسرى بدر - أو بمن أسر من المسلمين ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا فى سبى سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ فى مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين ، وإن شاء استرق من أسر . هذا مذهب الإِمام الشافعى وطائفة من العلماء ، وفى المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر فى موضعه . 3 - أن الذين شهدوا بدراً من المسلمين كانت لهم مكانتهم السامية ، ومنزلتهم العالية ، عند الله - تعالى - . ومما يدل على ذلك أنه - سبحانه - عفا عن خطئهم فى أخذ الفداء من الأسرى ثم زادهم فضلاً ومنة فجعل غنائم الحرب حلالا لهم ، بعد أن كانت محرمة على أتباع الرسل السابقين . ففى البخارى عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلى . نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لى الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبى يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " . 4 - أن الإِسلام لا يستبقى الأسرى لديه للإِذلال والقهر والاستغلال ، وإنما يستبقيهم ليوقظ فى فطرتهم نور الحق الذى باتباعه يعوضهم الله عما أخذ منهم فى الدنيا ، ويمنحهم ثوابه ومغفرته فى الآخرة . أما إذا استمروا فى عداوتهم للحق ، فان الدائرة ستدور عليهم . 5 - أن الإِيمان لا يكون صحيحا إلا إذا صاحبه التصديق والإِذعان . قال ابن العربى لما أسر من أسر من المشركين فى بدر ، تكلم قوم منهم بالإِسلام ، ولم يمضوا فيه عزيمة ، ولا اعترفوا به اعترافا جازما ، ويشبه أنهم أرادوا أن يتقربوا من المسلمين ولا يبعدوا عن المشركين فنزلت الآية { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ … } . الآية . قال علماؤنا إن تكلم الكافر بالإِيمان فى قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمنا ، وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرا إلا ما كان من الوسوسة التى لا يقدر المرء على دفعها ، فإن الله قد عفا عنها وأسقطها . وقد بين الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الحقيقة فقال { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } أى إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا { فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ } بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك ، فأمكنك منهم . وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله فيقبل ذلك منهم ، ويعوضهم خيرا مما أخذ منهم ، ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم . ثم ختم الله - تعالى - سورة الأنفال بالحديث عن علاقة المسلمين بعضهم ببعض ، وعن علاقتهم بغيرهم من الكفار عن الأحكام المنظمة لهذه العلاقات فقال - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .