Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 80, Ayat: 17-32)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الإِمام الرازى اعلم أنه - تعالى - لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين ، عجب عباده المؤمنين من ذلك ، فكأنه قيل وأى سبب فى هذا العجب والترفع ؟ مع أن أوله نطفة قذرة ، وآخره جيفة مذرة ، وفيما بين الوقتين حمال عذرة . فلا عجب أن ذكر الله - تعالى - ما يصلح أن يكون علاجا لعجبهم وما يصلح أن يكون علاجا لكفرهم ، فإن خلقة الإِنسان يستدل بها على وجود الصانع ، وعلى القول بالبعث والحشر والنشر … والمراد بالإِنسان هنا الإِنسان الكافر الجاحد لنعم ربه . ومعنى " قتل " لعن وطرد من رحمة الله - تعالى - ، ويصح أن يكون المراد به الجنس ، ويدخل فيه الكافر دخولا أوليا . أى لعن وطرد من رحمة الله - تعالى - ذلك الإِنسان الذى ما أشد كفره وجحوده لنعم الله - تعالى - . والدعاء عليه باللعن من الله - تعالى - ، المقصود به التهديد والتحقير من شأن هذا الإِنسان الجاحد ، إذ من المعلوم أن الله - سبحانه - هو الذى يتوجه إليه الناس بالدعاء ، وليس هو - سبحانه - الذى يدعو على غيره ، إذ الدعاء فى العادة إنما يكون من العاجز ، وجل شأن الله - تعالى - عن العجز . وجملة " ما أكفره " تعليل لاستحقاق هذا الإِنسان الجاحد التحقير والتهديد . وهذه الآية الكريمة المتأمل فيها يراها - مع بلوغها نهاية الإِيجاز - قد بلغت - أيضا - نهاية الإِعجاز فى أسلوبها ، حيث جمعت أشد ألوان الذم والتحقير بأبلغ أسلوب وأوجزه . ولذ قال صاحب الكشاف { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ } دعاء عليه ، وهى من أشنع دعواتهم ، لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها { مَآ أَكْفَرَهُ } تعجيب من إفراطه فى كفران نعمة الله ، ولا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أخشن متنا ، ولا أدل على سخط ، ولا أبعد فى المذمة ، مع تقارب طرفيه ، ولا أجمع لِلاَئمةٍ ، على قصر متنه … ثم فصل - سبحانه - جانبا من نعمه ، التى تستحق من هذا الإِنسان الشكر لا الكفر فقال { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ } أى من أى شئ خلق الله - تعالى - هذ الإِنسان الكافر الجحود ، حتى يتكبر ويتعظم عن طاعته ، وعن الإِقرار بتوحيده ، وعن الاعتراف بأن هناك بعثا وحسابا وجزاء … ؟ . ثم وضح - سبحانه - كيفية خلق الإِنسان فقال { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } أى خلق الله - تعالى - الإِنسان من نطفة ، أى من ماء قليل يخرج من الرجل إلى رحم المرأة - { فَقَدَّرَهُ } أى فأوجد الله - تعالى - الإِنسان بعد ذلك إيجادا متقنا محكما ، حيث صير بقدرته النطفة علقة فمضغة . . ثم أنشأه خلقا آخر { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } أى ثم بعد أن خلقه فى أحسن تقويم ، ومنحه العقل الذى يتمكن معه من التفكير السليم . يسر - سبحانه - له طريق النظر القويم ، الذى يميز به بين الحق والباطل ، والخير والشر ، والهدى والضلال . قال ابن كثير قوله { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } قال العوفى عن ابن عباس ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه . وهكذا قال عكرمة … واختاره ابن جرير . وقال مجاهد هذه الآية كقوله { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } أى بيناه له ووضحناه وسهلنا عليه علمه … وهذا هو الأرجح . وجاء العطف " بثم " هنا ، للإِشعار بالتراخى الرتبى ، لأن تيسير معرفة طريق الخير والشر ، أعجب وأدل على قدرة الله - تعالى - وبديع صنعه من أى شئ آخر . ولفظ " السبيل " منصوب على الاشتغال بفعل مقدر ، أى ثم يسر السبيل يسره ، فالضمير فى يسره يعود إلى السبيل . أى سهل - سبحانه - الطريق للإِنسان . { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أى ثم أمات - سبحانه - هذا الإِنسان ، بأن سلبه الحياة { فأقبره } . أى فجعله ذا قبر يوارى فيه جسده تكريما له ، ولم يتركه مطروحا على وجه الأرض ، بحيث يستقذره الناس ، ويكون عرضة لاعتداء الطيور والحيوانات عليه . يقال قبر فلان الميت يقبره - بكسر الباء وضمها - ، إذا دفنه بيده فهو قابر . ويقال أقبره ، إذا أمر بدفنه ، أو مكن غيره من دفنه . وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن مواراة الأجساد فى القبور من سنن الإِسلام ، أما تركها بدون دفن ، أو حرقها … فيتنافى مع تكريم هذه الأجساد . { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } أى ثم بعد أن خلق الله هذا الخلق البديع ، وهداه النجدين ، وأمر بستر جسده فى القبر بعد موته … بعد كل ذلك إذا شاء أحياه بعد الموت ، للحساب والجزاء . يقال أنشر الله - تعالى - الموتى ونشرهم ، إذا بعثهم من قبورهم . وقال - سبحانه - { إِذَا شَآءَ } للإِشعار بأن هذا البعث إنما هو بإرادته ومشيئته ، وفى الوقت الذى يختاره ويريده ، مهما تعجله المتعجلون . ثم زجر - سبحانه - هذا الإِنسان زجرا شديدا لتقصيره فى أداء حق خالقه ، فقال - تعالى - { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } أى كلا إن هذا الإِنسان الجاحد المغرور … لم يقض ولم يؤد ما أمره الله - تعالى - به من تكاليف ومن شكر لخالقه ، ومن تأمل فى آياته ، ومن طاعة لرسله … بل استمر فى طغيانه وعناده . فالمقصود بهذه الآية الكريمة ردع هذا الإِنسان الجاحد وزجره ، وبيان أن هذا الردع سببه إهماله لحقوق خالقه ، وعدم اهتمامه بأدائها . ثم ساقت الآيات بعد ذلك ألوانا من نعمه - تعالى - على خلقه فقال { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ } والفاء هنا للتفريع على ما تقدم ، مع إفادتها معنى الفصيحة . أى إذا أراد أن يقضى ويؤدى ما أمره الله - تعالى - من تكاليف ، فلينظر هذا الإِنسان إلى طعامه ، وكيف أوجده - سبحانه - له ورزقه إياه ، ومكنه منه . فإن فى هذا النظر والتدبر والتفكر ، ما يعينه على طاعة خالقه ، وإخلاص العبادة له . ثم بين - سبحانه - مظاهر تهيئة هذا الطعام للإِنسان … فقال { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّا } . قال الجمل قرأ الكوفيون { أَنَّا } بالفتح . على البدل من طعامه ، فيكون فى محل جر بدل اشتمال ، بمعنى أن صب الماء سبب فى إخراج الطعام فهو مشتمل عليه . وقرأ غيرهم بكسر الهمزة على الاستئناف المبين لكيفية إحداث الطعام … والصب إنزال الماء بقوة وكثرة . أى إنا أنزلنا المطر من السماء إنزالا مصحوبا بالقوة والكثرة ، لحاجتكم الشديدة إليه فى حياتكم . { ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } أى ثم شققنا الأرض بالنبات شقا بديعا حكيما ، بحيث تخرج النباتات من باطنها خروجا يبهج النفوس ، وتقر به العيون . { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً } أى فأنبتنا فى الأرض حبا كثيرا ، تقتاتون منه ، وتدخرونه لحين حاجتكم إليه ، والحب يشمل الحنطة والشعير والذرة . { وَعِنَباً وَقَضْباً . وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً . وَحَدَآئِقَ غُلْباً . وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } أى وأنبتنا فى الأرض - أيضا - بقدرتنا ورحمتنا { عنبا } وهو ثمر الكرم المعروف بلذة طعمه . { وقضبا } وهو كل ما يؤكل من النبات رطبا ، كالقثاء والخيار ونحوهما ، وقيل هو العلف الرطب الذى تأكله الدواب ، وسمى قضبا ، لأنه يقضب - أى يقطع - بعد ظهوره مرة بعد أخرى . وأنبتنا فيها كذلك { وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً } وهما شجرتان معروفتان بمنافعهما الجمة ، وبثمارهما المفيدة . { وَحَدَآئِقَ غُلْباً } والحدائق جمع حديقة وهى البستان الملئ بالزروع والثمار . و { غلبا } جمع غلباء . أى وأنبتنا فى الأرض حدائق عظيمة ، ذات أشجار ضخمة ، قد التف بعضها على بعض لكثرتها وقوتها . فقوله { غلبا } بمعنى عظاما ، وأصلها من " الغَلَب " - بفتحتين - ، بمعنى الغلظ ، يقال شجرة غلباء ، وهضبة غلباء . أى عظيمة مرتفعة . ويقال حديقة غلباء ، إذا كانت عظيمة الشجر . ويقال رجل أغلب ، إذا كان غليظ الرقبة . وأنبتنا فيها - أيضا - بقدرتنا وفضلنا { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } … والفاكهة اسم للثمار التى يتناولها الإِنسان على سبيل التفكه والتلذذ ، مثل الرطب والعنب والتفاح . والأب اسم للكلأ الذى ترعاه الأنعام ، مأخوذ من أبَّ فلان الشئ ، إذا قصده واتجه نحوه ، لحاجته إليه … والكلأ والعشب يتجه إليه الإِنسان بدوابه للرعى … قال صاحب الكشاف والأب المرعى ، لأنه يؤب ، أى يؤم وينتجع … وعن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - أنه سئل عن الأب فقال أى سماء تظلنى ، وأى أرض تقلنى ، إذا قلت فى كتاب الله مالا علم لى به … وعن عمر - رضى الله عنه - أنه قرأ هذه الآية فقال كل هذا قد عرفنا ، فما الأب ؟ ثم رفع عصا كانت فى يده وقال هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يابن أم عمر أن لا تدرى ما الأب ؟ ثم قال اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب ، وما لا فدعوه . فإن قلت فهذا يشبه النهى عن تتبع معانى القرآن والبحث عن مشكلاته ؟ قلت لم يذهب إلى ذلك ، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة عن العمل ، وكان التشاغل بشئ من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم ، فأراد أن الآية مسوقة فى الامتنان على الإِنسان بمطعمه ، واستدعاء شكره ، وقد علم من فحوى الآية ، أن الأبَّ بعض ما أنبته الله للإِنسان متاعا له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم ، من النهوض بالشكر لله - تعالى - على ما تبين لك أو لم يشكل ، مما عدد من نعمه ، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ، ومعرفة النبات الخاص الذى هو اسم له ، واكتف بالمعرفة الجملية ، إلى أن يتبين لك فى غير هذا الوقت … وقال بعض العلماء والذى يتبين لى فى انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول لفظ الأب ، وهما من خلص العرب لأحد سببين إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسى من استعمالهم ، فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة ، فإن الكلمة قد تشتهر فى بعض القبائل أو فى بعض الأزمان وتنسى فى بعضها ، مثل اسم السكين عند الأوس والخزرج . فقد قال أنس بن مالك ما كنا نقول إلا المدية ، حتى سمعت قول الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان قال " ائتونى بالسكين أقسم الطفل بينهما نصفين " . وإما لأن كلمة الأب تطلق على أشياء كثيرة ، منها النبت الذى ترعاه الأنعام ، ومنها التبن . ومنها يابس الفاكهة ، فكان إمساك أبى بكر وعمر عن بيان معناه ، لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين ، وهل الأب مما يرجع إلى قوله { مَّتَاعاً لَّكُمْ } أو إلى قوله { وَلأَنْعَامِكُمْ } . ثم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } ، أى أنبت لكم تلك الزروع والثمار … لتكون موضع انتفاع لكم ولأنعامكم إلى حين من الزمان . إذ المتاع هو ما ينتفع به الإِنسان إلى حين ثم ينتهى ويزول ، ولفظ " متاعا " منصوب بفعل محذوف ، أى فعل ذلك متاعا لكم ، أو متعكم بذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم . أو قوله { مَّتَاعاً لَّكُمْ } حال من الألفاظ السابقة العنب والقضب والزيتون والنخل . أى حالة كون هذه المذكورات موضع انتفاع لكم ولأنعامكم . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالحديث عن أحوال الناس فى يوم القيامة . فقال - تعالى - { فَإِذَا جَآءَتِ … } .