Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 89, Ayat: 15-30)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الفاء فى قوله { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ … } للتفريع على ما تقدم ، ولترتيب ما بعدها على ما قبلها . والمراد بالإِنسان هنا جنسه . وقيل المراد به الكافر . ولفظ " الإنسان " مبتدأ ، وخبره { فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } . والمعنى هذه سنة ربك - أيها العاقل - فى عباده ، أنه - تعالى - لهم بالمرصاد ، فهو يراقب أعمالهم ، ويحاسبهم عليها ، ويجازيهم بها ، والسعيد من الناس هو الذى يفقه هذه الحقيقة ، فيؤدى ما كلفه خالقه به … فأما الإِنسان ، الشقى الغافل عن طاعة ربه … { إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } أى إذا ما اختبره وامتحنه ربه بألوان من النعم ، بأن منحه المال الكثير ، والجاه العريض ، وأسباب القوة والمنعة { فيقول } على سبيل التباهى والتفاخر … { رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } أى ربى أعطانى ذلك ، لأنى مستحق لهذه النعم ، كما قال - تعالى - { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } وقوله - سبحانه - { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ … } بيان لموقف هذا الإِنسان عند فقره . أى وأما إذا ما امتحنا هذا الإِنسان بسلب بعض النعم عنه ، وبضيق الرزق … { فيقول } على سبيل التضجر والتأفف وعدم الرضا بقضائه - سبحانه - { رَبِّيۤ أَهَانَنِ } أى ربى أذلنى بالفقر ، وأنزل بى الهوان والشرور . وقول هذا الإِنسان فى الحالين ، قول مذموم ، يدل على سوء فكره ، وقصور نظره ، وانطماس بصيرته ، لأنه فى حالة العطاء والسعة فى الرزق . يتفاخر ويتباهى ، ويتوهم أن هذه النعم هو حقيق وجدير بها ، وليست من فضل الله - تعالى - وكأنه يقول ما قاله قارون { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } وفى حالة المنع والضيق فى الرزق يجزع ، ويأبى أن يرضى بقضاء الله وقدره … ولا يخطر بباله أن نعم الله ، إنما هى فضل تفضل به - سبحانه - عليه ليختبره ، أيشكر أم يكفر . وأن تضييقه عليه فى الرزق ، ليس من الإِهانة فى شئ ، بل هو للابتلاء - أيضا - والامتحان ، كما قال - تعالى - { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } قال الإِمام الشوكانى عند تفسيره لهاتين الآيتين وهذه صفة الكافر الذى لا يؤمن بالبعث ، لأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا والتوسع فى متاعها ، ولا إهانة عنده إلا فوتها وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها ، فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ، ويوفقه لعمل الآخرة . ويحتمل أن يراد الإِنسان على العموم ، لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير ، وما أصيب به من الشر فى الدنيا ، ليس إلا للاختبار والامتحان ، وأن الدنيا بأسرها ، لا تعدل عند الله - تعالى - جناح بعوضة . . واقتصر - سبحانه - فى الآية الكريمة على تقتير الرزق ، فى مقابلة النعمة ، دون غير ذلك من الأمراض والآفات ، للإِشعار بأن هذا الإِنسان يعتبر دنياه جنته ومنتهى آماله ، فهو لا يفكر إلا فى المال ولا يحزن إلا من أجله ، وأن المقياس عنده لمقادير الناس هو على حسب ما عندهم من أموال كما قال شاعرهم @ فلو شاء ربى كنت قيسَ بن عاصمٍ ولو شاء ربى كنت عمرَو بنَ مَرْثِد فأصبحت ذا مال كثير وطاف بى بنونَ كرامٌ ، سادةٌ لُمسوَّد @@ ولما كان هذا القول مذموما من هذا الإِنسان فى الحالين . لعدم شكره لله - تعالى - فى حالة الرخاء ، ولعدم صبره على قضائه فى حالة البأساء . لما كان الأمر كذلك جاء حرف الردع بعد ذلك فقال - تعالى - { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ . وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } فقوله - تعالى - { كلا } زجر وردع عن قول هذا الإِنسان { رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } عند حصول النعمة ، وعن قوله { رَبِّيۤ أَهَانَنِ } عند حصول التقتير فى الرزق ، لأن الله - تعالى - قد يوسع على الكافر وهو مهان ومبغوض منه - تعالى - ، وقد يضيق - سبحانه - على المؤمن مع محبته له ، وكلا الأمرين حاصل بمقتضى حكمته - عز وجل - والمؤمن الصادق هو الذى يشكر عند الرخاء ، ويصبر عند البأساء . و " بل " هنا للإِضراب الانتقالى ، من ذمهم على القبيح من القول ، إلى ذمهم بما هو أشنع منه ، وهو ارتكابهم للقبيح من الأفعال . أى كلا ليس قولكم هذا وهو أن الإِكرام فى الإِعطاء ، والإِهانة فى المنع - هو القبيح فحسب ، بل هناك ما هو أقبح منه ، وهو أنكم ، أيها الكافرون - . { لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ } أى لا تعطفون على اليتيم وهو الذى مات أبوه وهو صغير ، بأن تتركوه معرضا للفقر والاحتياج ، دون أن تعملوا على تقديم يد المساعدة إليه . { وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } أى ولا يحث بعضكم بعضا على إطعام المساكين والبائسين . ونفى الحض على إطعامهم ، نفى لإِطعامهم من باب أولى ، وفى ذلك زيادة لمذلتهم ، لأنهم لا يطعمون ، ولا يحضون غيرهم عليه ، لأنهم قوم خلت قلوبهم من الرحمة والعطف . قال الآلوسى قوله - سبحانه - { بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ … } الخ . انتقال وترق من ذم هذا الإِنسان على القبيح من القول ، إلى الأقبح من الفعل ، والالتفات إلى الخطاب ، لتشديد التقريع ، وتأكيد التشنيع … والجمع باعتبار معنى الإِنسان ، إذ المراد الجنس . أى بل لكم أفعال وأحوال أشد شرا مما ذكر ، وأدل على تهالككم على المال ، حيث أكرمكم - سبحانه - بكثرة المال ، ولكنكم لم تؤدوا ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم . والمراد بطعام المسكين إطعامه ، فالطعام مصدر بمعنى الإِطعام … أو المراد به الشئ المطعوم ، ويكون الكلام على حذف مضاف . أى على بذل طعام المسكين … وقوله - سبحانه - { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } بيان لرذيلة ثالثة من رذائلهم المتعددة . والتراث هو المال الموروث عن الغير . والمراد بالأكل مطلق الانتفاع ، وخص الأكل بالذكر ، لأنه يشمل معظم وجوه التصرفات المالية . والَّلُّم الجمع بدون تفرقة بين الحلال والحرام ، مأخوذ من قولهم لَمَّ الطعام ، إذا أكله كله دون أن يترك منه شيئا . أى ومن صفاتكم القبيحة أنكم تأكلون المال الموروث عن غيركم ، أكلا شديدا ، بحيث لا تتركون منه شيئا ، ولا تفرقون بين ما هو حلال أو حرام ، ولا بين ما يحمد وما لا يحمد ، بل تأخذون حقوقكم وحقوق غيركم من النساء والصبيان . ومن صفاتكم - أيضا - أنكم { وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } أى حبا كثيرا مع حرص وشَرَه . يقال جمّ الماء فى الحوض ، إذا كثر واجتمع ، ومنه الجَمُوع للبئر الكثيرة الماء . والحب المفرط للمال من الصفات الذميمة ، لأنه يؤدى إلى جمعه من كل طريق ، بدون تفرقة بين ما يحل منه وما يحرم . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هذا النوع من الناس ، بأنه قد جمع فى سوء سلوكه ، بين النطق بالقبيح من الأقوال ، وبين ارتكاب القبيح من الأفعال ، وهى ترك اليتيم بلا رعاية ، وعدم الحض على إطعام المحتاج ، وجمع المال الموروث بدون تفرقة بين حلاله وحرامه ، والإِفراط فى حب المال بطريقة ذميمة . وبعد هذا الزجر والردع لهم ، لسوء أقوالهم وأفعالهم ، أخذت السورة الكريمة فى زجرهم وردعهم عن طريق تذكيرهم بأهوال الآخرة فقال - تعالى - { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً } . وقوله - تعالى - { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً } ردع لهم وزجر عن أفعالهم السابقة ، وهى عدم إكرام اليتيم ، وعدم الحض على طعام المسكين . وقوله { دُكَّتِ ٱلأَرْضُ } من الدك بمعنى الكسر والدق والزلزلة الشديدة ، والتحطيم الجسيم ، وانتصب لفظ " دكا " الأول على أنه مصدر مؤكد للفعل ، وانتصاب الثانى على أنه تأكيد للأول . وقيل تكرار " دكا " للدلالة على الاستيعاب ، كقولك قرأت النحو بابا بابا ، أى قرأته كله . قال القرطبى قوله - تعالى - { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ … } أى ما هكذا ينبغى أن يكون الأمر . فهو رد لانكبابهم على الدنيا ، وجمعهم لها ، فإن من فعل ذلك يندم يوم تدك الأرض ، ولا ينفعه الندم ، والدك . الكسر والدق ، أى زلزلت وحركت تحريكا بعد تحريك . وقوله { دَكّاً دَكّاً } أى مرة بعد مرة ، زلزلت فكسر بعضها بعضا فتكسر كل شئ على ظهرها … وقوله - تعالى - { وَجَآءَ رَبُّكَ … } هذه الآية وأمثالها من آيات الصفات التى يرى السلف وجوب الإِيمان بها كما جاءت ، بمعنى أننا نؤمن بمجئ الله - تعالى - ولكن من غير تكييف ولا تمثيل ، بل نكل علم كيفية مجيئه إلى مشيئته - تعالى - . والخلف يؤولون ذلك بأى المجئ هنا بمعنى مجئ أمره وقضائه . قال الآلوسى قوله - تعالى - { وَجَآءَ رَبُّكَ … } قال منذر بن سعيد ، معناه ظهر - سبحانه - للخلق هنالك ، وليس ذلك بمجئ نقلة … وقيل الكلام على حذف مضاف للتهويل ، أى وجاء أمر ربك وقضاؤه . واختار جمع أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره - تعالى - وتبيين آثار قدرته وسلطانه ، مثلت حاله - سبحانه - فى ذلك ، بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم ، وأنت تعلم ما للسلف فى المتشابه من الكلام . { وَٱلْمَلَكُ } أى جنس المَلَكِ ، فيشمل جميع الملائكة { صَفّاً صَفّاً } أى مصطفين ، أو ذوى صفوف . وقوله - تعالى - { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } أى وأحضرت جهنم وظهرت وبرزت للكافرين والفاسقين يوم القيامة ، يوم تدك الأرض دكا . وقوله { يَوْمَئِذٍ } منصوب بقوله { وجئ } . وقوله { بِجَهَنَّمَ } قائم مقام الفاعل . روى الإِمام مسلم فى صحيحه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها … " . { يَوْمَئِذٍ } أى فى هذا اليوم العسير ، وهو يوم القيامة - وهو بدل من قوله - تعالى - { إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْض } - { يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ } أى يتذكر ما فرط منه من ذنوب ، وما ارتكبه من سيئات ، وما وقع فيه من كفر وفسوق عن أمر ربه . { وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } أى ومن أين له الانتفاع بهذا التذكر ، لأنه تذكر قد جاء فى غير وقت الانتفاع به ، وهو وقت الحساب على الأعمال ، لا وقت التوبة من السيئ منها . { يَقُولُ } هذا الانسان الشقى { يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } أى يقول حين يرى العذاب ماثلا أمامه ، يقول - على سبيل التحسر والتفجع - يا ليتنى قدمت أعمالا صالحة لأجل حياتى هذه فى الآخرة ، فاللام للتعليل ، وقدمت أعمالا صالحة فى وقت حياتى فى الدنيا لأنتفع بها فى هذا اليوم ، فتكون اللام للتوقيت . { فَيَوْمَئِذٍ } أى ففى هذا اليوم لا ينفعه الندم ولا التحسر ، و { لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد . وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } والوثاق الرباط الذى يقيد به الأسير . أى ففى هذا اليوم لا يعذِّب كعذاب الله أحد ، ولا يوثِق كوثاقه أحد ، فالضمير فى قوله { عَذَابَهُ } و { ثَاقَهُ } يعود إلى الله - تعالى - ولفظ " أحد " فاعل . وقرأ الكسائى { لاَّ يُعَذِّبُ } و { لاَ يُوثِقُ } - بفتح الذال المشددة ، وفتح الثاء - على البناء للمفعول ، والضمير فى قوله { عذابه } و { وثاقه } يعود للكافر . أى فيومئذ لا يعذب أحد مثل عذاب ذلك الإِنسان الكافر المتحسر ، ولا يوثق أحد مثل وثاقه ، ولفظ " أحد " هنا نائب فاعل . وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - { قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } - أى المائدة - { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ } ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه البشارة العظيمة للمؤمنين فقال { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ . ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً . فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي . وَٱدْخُلِي جَنَّتِي } . والنفس المطمئنة هى النفس الآمنة من الخوف أو الحزن فى يوم القيامة . بسبب إيمانها الصادق ، وعملها الصالح ، والكلام على إرادة القول . أى يقول الله - تعالى - على لسان ملائكته ، إكراما للمؤمنين ، عند وفاتهم ، أو عند تمام حسابهم يأيتها النفس الآمنة المطمئنة ، الناعمة بروح اليقين ، الواثقة بفضل الله - تعالى - ورحمته . { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } أى ارجعى إلى ربك الذى خلقك ، وأنت راضية تمام الرضا بما أعطاك - سبحانه - من ثواب ، ومرضى عنك منه - تعالى - بسبب إيمانك الصادق ، وعملك الصالح . { فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي } أى فادخلى فى زمرة عبادى الصالحين المرضيين . { وَٱدْخُلِي جَنَّتِي } التى وعدتهم بها ، والتى أعددتها لنعيمهم الدائم المقيم . وقد ذكروا أن هذه الآيات الكريمة نزلت فى شأن عثمان بن عفان لّما تصدق ببئر رومة . وقيل نزلت فى حمزة بن عبد المطلب حين استشهد . قال القرطبى والصحيح أنها عامة فى نفس كل مؤمن مخلص طائع … نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا من أصحاب النفوس المطمئنة . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم …