Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 89, Ayat: 1-14)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بالقسم بخمسة أشياء لها شرفها وعظمها ، ولها فوائدها الدينية والدنيوية … ولها دلالتها الواضحة على كمال قدرته - تعالى - . أقسم أولا - بالفجر ، وهو وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم ، ووقت بزوغ الضياء وانتشاره على الكون بعد ليل بهيم . فالمراد بالفجر الوقت الذى يبدأ فيه النهار فى الظهور ، بعد ظلام الليل ، والتعريف فيه للجنس ، لأن المقصود هذا الوقت من كل يوم . وقيل المراد بالفجر هنا صلاة الفجر ، لأنها صلاة مشهودة ، أى تشهدها الملائكة ، كما أن التعريف فيه للعهد ، فقيل فجر يوم النحر ، وقيل فجر يوم الجمعة … ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأن قوله - تعالى - بعد ذلك { وَلَيالٍ عَشْرٍ } يرجح أن المراد به وقت معين . هذا الوقت يوجد مع كل يوم جديد . وأقسم - سبحانه - ثانيا بقوله { وَلَيالٍ عَشْرٍ } والمراد بها الليالى العشر الأُوَل من شهر ذى الحجة ، لأنها وقت مناسك الحج ، ففيها الإِحرام ، والطواف ، والوقوف بعرفة … وقيل المراد بها الليالى العشر الأواخر من رمضان وقيل الليالى العشر الأُوَل من شهر المحرم … قال الإِمام ابن كثير والليالى العشر المراد بها عشر ذى الحجة . كما قاله ابن عباس وابن الزبير ، ومجاهد ، وغير واحد من السلف والخلف . وقد ثبت فى صحيح البخارى ، عن ابن عباس مرفوعا " ما من أيام العمل الصالح ، أحب إلى الله - تعالى - فيهن ، من هذه الأيام - يعنى عشر ذى الحجة - قالوا ولا الجهاد فى سبيل الله ؟ قال ولا الجهاد فى سبيل الله ، إلا رجلا خرج بنفسه وماله ، ثم لم يرجع من ذلك بشئ " . وقيل المراد بذلك العشر الأُوَل من المحرم . وقيل العشر الأُوَل من رمضان . والصحيح القول الأول … وأقسم - سبحانه - ثالثا ورابعا بقوله { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } والشفع ما يكون ثانيا لغيره ، والوتر هو الشئ المنفرد . وقد ذكرالمفسرون فى المراد بهذين اللفظين أقوالا متعددة ، فمنهم من يرى أنهما يعمان كل الأشياء شفعها ووترها ، ومنهم من يرى أن المراد بالشفع يوم النحر ، لكونه اليوم العاشر من ذى الحجة ، وأن المراد بالوتر يوم عرفة ، لأنه اليوم التاسع من شهر ذى الحجة . ومنهم من يرى أن المراد بهما الصلاة المكتوبة ، ما كان منها شفعا ، كصلاة الظهر والعصر والعشاء والصبح ، وما كان منها وترا كالمغرب . ومنهم من يرى أن المراد بالشفع جميع المخلوقات ، وبالوتر الله - تعالى - الواحد الصمد . وقد رجح بعض العلماء هذا القول فقال ما ملخصه والواقع أن أقرب الأقوال عندى - والله أعلم - . أن المراد بالوتر ، هو الله - تعالى - ، للحديث " إن الله وتر يحب الوتر " وما سواه شفع … لأنه ثبت علميا أنه لا يوجد كائن موجود بمعنى الوتر قط ، حتى الحصاة الصغيرة ، فإنه ثبت أن كل كائن جماد أو غيره مكون من ذرات ، والذرة لها نواة ومحيط . ولهذا كان القول بأن الوتر هو الله ، وبأن الشفع جميع المخلوقات … هو الراجح ، وهو الأعم فى المعنى . وأقسم - سبحانه - خامسا - بقوله { وَٱللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } أى وحق الليل عندما يسرى ويمضى ، تاركا من خلفه ظلامه ، ليحل محله النهار بضيائه . أو المعنى وحق الليل وقت أن يَسْرِى فيه السارون ، بعد أن أخذوا حظهم من النوم ، فإسناد السُّرَى إلى الليل على سبيل المجاز ، كما فى قولهم ليل نائم ، أى ينام فيه الناس ، وقرأ الجمهور { يسر } بحذف الياء وصلا ووقفا ، اكتفاء عنها بالكسرة تخفيفا . وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء عند الوصل ، وبحذفها عند الوقف . والمراد بالليل هنا عمومه ، وقيل المراد به هنا ليلة القدر ، أو ليلة المزدلفة . والاستفهام فى قوله - تعالى - { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } للتقرير والتعظيم لما أقسم به - سبحانه - من مخلوقات . واسم الإِشارة " ذلك " يعود إلى تلك الأشياء التى أقسم الله - تعالى - بها . والمراد بالحِجْر العقل ، وسمى بذلك لأنه يَحْجُر صاحبه ويمنعه عن ارتكاب ما لا ينبغى ، كما سمى عقلا ، لأنه يَعْقِل صاحبه عن ارتكاب السيئات ، كما يعقِل العقالُ البعيرَ عن الضلال . والمعنى هل فى ذلك الذى أقسمنا به من الفجر ، والليالى العشر ، والشفع والوتر … قسم ، أى مقسم به ، حقيق أن تؤكد به الأخبار عند كل ذى عقل سليم ؟ . مما لا شك فيه أن كل ذى عقل سليم ، يعلم تمام العلم ، أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء حقيق أن يقسم به ، لكونها - أى هذه الأشياء - أمورا جليلة ، خليقة بالإِقسام بها لفخامة شأنها ، كما أن كل ذى عقل سليم يعلم - أيضا - أن المقسم بهذا المقسم ، وهو الله - عز وجل - صادق فيما أقسم عليه . فالمقصود من وراء القسم بهذه الأشياء ، تحقيق المقسم عليه . بأسلوب فيه ما فيه من التأكيد والتشويق وتحقيق المقسم عليه . وجواب القسم محذوف دل عليه قوله - تعالى - بعد ذلك { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } . إلى قوله { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } . والتقدير وحق هذه المخلوقات لتعذبن - أيها الكافرون - كما عذب الذين من قبلكم ، مثل عاد وثمود وفرعون . قال الجمل فإن قلت ما فائدة قوله - تعالى - { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } . بعد أن أقسم - سبحانه - بالأشياء المذكورة ؟ قلنا هو لزيادة التأكيد والتحقيق للمقسم عليه ، كمن ذكر حجة باهرة ، ثم قال أفيما ذكرته حجة ؟ . وجواب القسم محذوف ، أى لتعذبن يا كفار مكة ، وقيل هو مذكور وهو قوله { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } ، وقيل محذوف لدلالة المعنى عليه ، أى لنجازين كل أحد بعمله … ثم ذكر - سبحانه - على سبيل الاستشهاد ، ما أنزله من عذاب مهين ، بالأقوام المكذبين . فقال - تعالى - { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } . والاستفهام فى قوله { أَلَمْ تَرَ … } للتقرير ، والرؤية علمية ، تشبيها للعلم اليقينى بالرؤية فى الوضوح والانكشاف ، لأن أخبار هذه الأمم كانت معلومة للمخاطبين . ويجوز أن تكون الرؤية بصرية ، لكل من شاهد آثار هؤلاء الأقوام البائدين … والمراد بعاد تلك القبيلة المشهورة بهذا الاسم ، والتى كانت تسكن الأحقاف ، وهو مكان فى جنوب الجزيرة العربية ، معروف للعرب ، قال - تعالى - { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } سموا بذلك نسبة إلى أبيهم عاد بن عُوص ، بن إرم ، بن سام ، بن نوح - عليه السلام - فقوله - تعالى - { إرم } عطف بيان لعاد ، لأنه جده الأدنى . وقوله - تعالى - { ذَاتِ ٱلْعِمَاد } صفة لعاد ، و " ذات " وصف مؤنث لأن المراد بعاد القبيلة ، سمى أولاده باسمه ، كما سمى بنو هاشم هاشما . والمقصود بهذه القبيلة عاد الأولى ، التى أرسل الله - تعالى - إليهم هودا - عليه السلام - . وكانوا معروفين بقوتهم وضخامة أجسامهم … وقد جاء الحديث عنهم كثيرا فى القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله - تعالى - { فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً … } وقوله - سبحانه - { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } صفة أخرى لقبيلة عاد . والمعنى لقد وصل إلى علمك - أيها الرسول الكريم - بصورة يقينية ، خبر قبيلة عاد ، التى جدها الأدنى " إرم بن سام بن نوح " والتى كانت تسكن بيوتا ذات أعمدة ، ترفع عليها خيامهم ومبانيهم الفارهة … والتى لم يخلق مثلها - أى مثل هذه القبيلة - أحد فى ضخامة أجسام أفرادها ، وفى قوة أبدانها ، وفيما أعطاها الله - تعالى - من غنى وقوة . قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ . ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } هؤلاء كانوا متمردين عتاة … فذكر - سبحانه - كيف أهلكهم . وهؤلاء هم عاد الأولى ، وهم أولاد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ، وهم الذين أرسل الله إليهم نبيهم هودا - عليه السلام - فكذبوه فأهلكهم الله - تعالى - . فقوله { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } عطف بيان ، زيادة تعريف بهم . وقوله { ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشَّعر التى ترفع بالأعمدة الشداد . وقال ها هنا { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } أى القبيلة التى لم يخلق مثلها فى بلادهم ، لقوتهم وشدتهم ، وعظم تركيبهم . . فالضمير فى { مثلها } يعود إلى القبيلة . ومن زعم أن المراد بقوله { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } مدينة إما دمشق أو الاسكندرية … ففيه نظر … لأن المراد إنما هو الإِخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد ، وليس المراد الإِخبار عن مدينة أو إقليم . وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بما ذكره جماعة من المفسرين من أن المراد بقوله - تعالى - { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ … } مدينة مبنية بلبن الذهب والفضة … فهذا كله من خرافات الإِسرائيلين … وقوله - تعالى - { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ . وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } معطوف على ما قبله . والمراد بثمود القبيلة المسماة بهذا الاسم ، نسبة إلى جدها ثمود ، وقد أرسل الله - تعالى - إليهم نبيهم صالحا - عليه السلام - فكذبوه ، فأهلكهم الله - تعالى - . وكانت مساكنهم بين الشام والحجاز ، ومازالت معروفة حتى الآن باسم قرى صالح . وقوله { جَابُواْ } بمعنى قطعوا . من الجوب بمعنى القطع والخرق ، والصخرة الحجارة العظيمة . والواد اسم للأرض المنخفضة بين مكانين مرتفعين ، وكان هؤلاء القوم يقطعون الصخور من الجبال ، ليتخذوا منها بيوتهم بواديهم ، أى بالمكان الذى كانوا يسكنونه . فقوله { بالواد } علم بالغلبة للمكان الذى كانوا يسكنون فيه ، ويسمى بوادى القرى ، وقد قال - تعالى - فى شأنهم { وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ } والمراد بفرعون هنا هو وقومه . والمراد بالأوتاد الجنود والعساكر الذين يشدون ملكه ويقوونه ، كما تشد الخيام وتقوى بالأوتاد . قال الآلوسى وصف فرعون بذلك لكثرة جنوده وخيامهم ، التى يضربون أوتادها فى منازلهم ، أو لأنه كان يدق لمن يريد تعذيبه أربعة أوتاد ، ويشده بها … وقال بعض العلماء ووصف فرعون بذى الأوتاد ، لأن مملكته كانت تحتوى على الأهرامات ، التى بناها أسلافه ، لأن صورة الهرم على الأرض تشبه الوتد المدقوق ، ويجوز أن يكون المراد بالأوتاد التمكن والثبات على سبيل الاستعارة ، أى ذى القوة … وقال صاحب الظلال { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } وهى على الأرجح الأهرامات ، التى تشبه الأوتاد الثابتة فى الأرض المتينة البنيان ، وفرعون المشار إليه هنا ، هو فرعون الطاغية الجبار ، الذى أرسل الله - تعالى - إليه موسى - عليه السلام - … والمعنى لقد علمت - أيها الرسول الكريم - وعلم معك كل من هو أهل للخطاب ، ما فعله ربك بقبيلة عاد ، التى جدها إرم بن سام بن نوح ، والتى كانت صاحبة أعمدة عظيمة ترفع عليها بيوتها ، والتى لم يخلق فى بلادها مثلها فى القوة والغنى . وعلمت - أيضا - ما فعله ربك بقوم ثمود ، الذين قطعوا صخر الجبال ، واتخذوا منها بيوتا بوادى قراهم ، التى ما زالت معروفة . وعلمت - كذلك - ما فعلناه بفرعون صاحب المبانى القوية الفخمة وصاحب الجنود والعساكر الذين يشدون ملكه . و { ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ } فأفسدوها ، وتجاوزوا كل حد فى العصيان والظلم . { فَأَكْثَرُواْ فِيهَا } أى فى البلاد { ٱلْفَسَادَ } عن طريق الفسوق والخروج عن طاعتنا . { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } أى فكانت نتيجة طغيانهم وفسادهم ، أن أنزل ربك عليهم ، نوعا عظيما من العذاب المهين . والسوط آلة تتخذ من الجلود القوية ، يضرب بها الجانى ، وإضافتها إلى العذاب ، من إضافة الصفة إلى الموصوف . أى فصب عليهم ربك عذابا . " سوطا " أى كالسوط فى سرعته ، وشدته وتتابعه ، فهو تشبيه بليغ . وعبر - سبحانه - على إنزال العذاب بهم بالصب - وهو الإِفراغ لما فى الظرف بقوة - للإِيذان بكثرته وتتابعه . وسميت أنواع العذاب النازلة بهم سوطا تسمية للشئ باسم آلته . قال صاحب الكشاف وذكر السوط . إشارة إلى أن ما أحله بهم فى الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم فى الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به . وعن عمر بن عبيد كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال إن عند الله أسواطا كثيرة ، فأخذهم بسوط منها … وقوله - سبحانه - { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } تذييل وتعليل لإِصابتهم بسوط عذاب . والمرصاد فى الأصل اسم للمكان الذى يجلس فيه الجالس لترقب أو رؤية شئ ما . والمراد إن ربك - أيها الرسول الكريم - يرصد عمل كل إنسان ، ويحصيه عليه ، ويجازيه به ، دون أن يخفى عليه - سبحانه - شئ فى الأرض أو السماء . وفى هذه الآيات الكريمة تخويف شديد للكافرين ، وتهديد لهم على إصرارهم فى جحودهم ، وأنهم إذا ما ساروا فى طريق الجحود والعناد ، فسيصيبهم ما أصاب هؤلاء الطغاة . ثم ذكر - سبحانه - حال الإِنسان عند اليسر والعسر ، والغنى والفقر ، والسراء والضراء فقال { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا … } .