Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 25-27)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال ابن كثير . هذه أول آية نزلت من براءة يذكر - تعالى - المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم فى نصره إياهم فى مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله ، وأن ذلك من عنده - تعالى - وبتأييده وتقديره لا بعددهم ، ونبههم إلى أن النصر من عنده سواء قل الجمع أم كثر ، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم … ثم أنزل لله نصره على رسوله والمؤمنين . " وقد كانت واقعة حنين بعد فتح مكة فى شوال سنة ثمان من الهجرة وذلك أنه لما فرغ - صلى الله عليه وسلم - من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم بلغه أن هوزان جمعوا له ليقاتلوه ، معهم ثقيف بكمالها وبنو سعد بن بكر . فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى جيشه الذى جاء للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء فى ألفين . فسار بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين ، فكانت فيه الموقعة فى أول النهار فى غلس الصبح . انحدروا فى الوادي وقد كمنت فيه هوزان ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد … فعند ذلك ولى المسلمون الأدبار ، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت معه من أصحابه قريب من مائة . ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادى بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة - أى شجرة بيعة الرضوان التى بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا عنه - فجعل ينادى بهم … فجعلوا يقولون لبيك لبيك . وانعطف الناس فتراجعوا … فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم ، فما بقى إنسان منهم إلا أصابه منها فى عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " . هذه خلاصة لغزوة حنين التى اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش تعداده اثنا عشر ألفاً ، فلما أعجبتهم هذه الكثرة والقوة … أصيبوا بالهزيمة فى أو معركة … ليعلموا أن كثرتهم لن تغنى عنهم شيئاً إذا لم يكن عون الله معهم . فقوله - تعالى - { لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم حتى يداوموا على طاعته ومحبته . وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت . والمواطن جمع موطن . وهو المكان الذى يقيم فيه الإِنسان . يقال استوطن فلان بمكان كذا ، إذا جعله وطنا له . والمراد بالمواطن هنا الأماكن التى حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم . قال الآلوسى وقوله { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه جائز … وأوجب الزمخشرى كون { يَوْمَ } منصوباً بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة … أى " ونصركم يوم حنين " . وقوله { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } بدل من يوم حنين ، أو عطف بيان له . وأعجبتكم من الإِعجاب بمعنى السرور بما يتعجب منه . وسبب هذا الإِعجاب أن عدد المسلمين كان اثنا عشر ألفا ، وعدد أعدائهم كان أربعة آلاف . وقوله { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } بيان للأثر السئ الذى أعقب الإِعجاب بالكثرة ، وأن سرورهم بهذه الكثرة لم يدم طويلاً ، بل تبعه الحزن والهزيمة . وقوله { تُغْنِ } من الغناء بمعنى النفع . تقول ما يغنى عنه هذا الشئ ، أى ما يجزئ عنك وما ينفعك . وقوله { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } بيان لشدة خوفهم وفزعهم . قال القرطبى والرحب - بضم الراء - السعة . تقول منه فلان رحب الصدر . والرحب - بالفتح - الواسع . تقول منه بلد رحب وأرض رحبة . وقيل الباء بمعنى مع ، أى وضاقت عليكم الأرض مع رحبها ، وقيل بمعنى على . أى على رحبها . وقيل المعنى برحبها فتكون " ما " مصدرية . والمعنى اذكروا - أيها المؤمنون - نعم الله عليكم ، وحافظوا عليها بالشكر وحسن الطاعة ، ومن مظاهر هذه النعم أنه - سبحانه - قد نصركم على أعدائكم مع قلتكم . فى مواقف حروب كثيرة كغزوة بدر ، وغزوة بنى قينقاع والنضير … كما نصركم . أيضاً . فى يوم غزوة حنين ، وهو اليوم الذى راقتكم فيه كثرتكم فاعتمدتم عليها حتى قال بعضكم لن نغلب اليوم من قلة … ولكن هذه الكثرة التى أعجبتم بها لم تنفعكم شيئاً من النفع فى أمر العدو بل انهزمتم أمامه فى أول الأمر ، وضاقت فى وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها بسبب شدة خوفكم ، فكنتم كما قال الشاعر @ كأن بلاد الله وهى عريضة عل الخائف المطلوب كِفَّة حابل @@ وقوله { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } تذييل مؤكد لما قبله وهو شدة خوفهم . ووليتم من التولى بمعنى الإِعراض . ومدبرين من الإِدبار بمعنى الذهاب إلى الخلف . أى ثم وليتم الكفار ظهوركم منهزمين لا تلوون على شئ . وهكذا ، نرى الآية الكريمة تصور ما حدث من المؤمنين فى غزوة حنين تصويراً بديعاً معجزاً … فهى تنتقل من تصوير سرورهم بالكثرة ، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة ، إلى تصوير شدة خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم ، وتقفل فى وجوههم ، إلى تصوير حركاتهم الحسية التمثلة فى تولية الأدبار ، والنكوص على الأعقاب . وبعد هذا الخوف الشديد الذى أصاب المؤمنين فى مبدأ لقائهم بأعدائهم فى غزوة حنين ، يجئ نصر الله الذى عبر عنه - سبحانه - بقوله { ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ … } . والسكينة الطمأنينة والرحمة والأمنة وهى فعلية من السكون وهو ثبوت الشئ بعد التحرك . أو من السكن وهو كل ما سكنت إليه واطمأنت به من أهل وغيرهم . أى ثم أنزل الله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين رحمته التى تسكن إليها القلوب ، وتطمئن بها اطمئناناً يستتبع النصر القريب . وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى حاجة إلى هذه السكينة لأنه مع شجاعته وثباته ووقوفه فى وجه الأعداء كالطود الأشم . أصابه الحزن والأسى لفرار هذا العدد الكبير من أصحابه عنه . وكان المؤمنون الذين ثبتوا من حوله فى حاجة إلى هذه السكينة ليزدادوا ثباتاً على ثباتهم ، وإيماناً على إيمانهم . وكان الذين فروا فى حاجة إلى السكينة ، ليعود إليهم ثباتهم ، فيقبلوا على قتال أعدائهم بعد أن دعاهم رسولهم - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك . وقوله { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } بيان لنعمة أخرى سوى إنزال السكينة . أى وأنزل مع هذه السكينة جنوداً من الملائكة لم تروها بأبصاركم ، ولكنكم وجدتم آثرها فى قلوبكم ، حيث عاد إليكم ثباتكم وإقدامكم . وقوله { وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، بيان لنعمة ثالثة سوى السابقتين . أى أنزل سكينته وأنزل جنوداً لم تروها ، وعذب الذين كفروا بأن سلطكم عليهم فقتلتم منهم من قتلتم ، وأسرتم من أسرتم . وقوله { وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } أى وذلك الذى نزل بهؤلاء الكافرين من التعذيب جزاء لهم على كفرهم ، وصدهم عن سبيل الله . ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر قدرته ورحمته بعباده فقال - تعالى - { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . أى ثم يتوب الله - تعالى - من بعد هذا التعذيب للذين كفروا فى الدنيا ، على من يشاء أن يتوب عليهم منهم ، بأن يوفقه للدخول فى الإِسلام ، والله - تعالى - واسع المغفرة ، عظيم الرحمة ، لا يحاسب الكافرين بعد إيمانهم على ما حصل منهم من كفر . قال - تعالى - { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } قال ابن كثير وقوله { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ … } قد تاب الله على بقية هوزان فأسلموا ، وقدموا عليهم مسلمين ، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة ، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم فاختاروا سبيهم ، وكانوا ستة آلاف أسير ، ما بين صبى وامرأة فرده عليهم وقسم الأموال بين الغانمين ، ونفل أناسا من الطلقاء لكى يتألف قلوبهم على الإِسلام ، فأعطاهم مائة مائة من الإِبل ، وكان من جملة من أعطاهم مائة من الإِبل مالك بن عوف النضرى واستعمله على قومه . وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد ذكرت المؤمنين بجانب من نعم الله عليهم . ومن رحمته بهم ، وأرشدتهم إلى أن النصر لا يتأتى لمن أعجبوا بكثرتهم فانشغلوا بها عن الاعتماد عليه - سبحانه - وإنما النصر يتأتى لمن أخلصوا لله سرائرهم وعلانيتهم . وباشروا الأسباب الى شرعها - سبحانه - للوصول إلى الفوز والظفر . قال ابن القيم افتتح الله - تعالى - غزوات العرب بغزوة بدر ، وختم غزوهم بغزوة حنين ، لهذا يقرن بين هاتين بالذكر ، فقال بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين … وبهاتين الغزوتين طفئت جمرة العرب لغزوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين . فالأولى خوفتهم وكسرت من حدتهم ، والثانية استفرغت قواهم ، واستنفدت سهامهم ، وأذلت جمعهم ، حتى لم يجدوا بدا من الدخول فى دين الله . وبعد هذا التذكير والتوجيه من الله - تعالى - لعباده المؤمنين - وجه - سبحانه - إليهم نداء أمرهم فيه بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام ، ووعدهم بالعطاء الذى يغنيهم ، فقال { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ … } .