Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 28-28)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله { نَجَسٌ } بالتحريك - مصدر نجس الشئ ينجس فهو نجس إذا كان قذراً غير نظيف ، وفعله من باب " تعب " وفى لغة من باب " قتل " . قال صاحب الكشاف النجس مصدر . يقال نجس نجسا وقذر قذرا ، لأن معهم الشرك الذى هو بمنزلة النجس ، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهى ملابسة لهم . أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة فى وصفهم بها . قيل وجوز أن يكون لفظ " نجس " صفة مشبهة - وإليه ذهب الجوهرى ولا بد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظاً مجموع معنى ، ليصح الإِخبار به عن الجمع . أى جنس نجس ونحوه . وقوله { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } فيه ما فيه من التعبير البديع المصور المجسم لهم ، حتى لكأنهم بأرواحهم وماهيتهم وكيانهم النجس يمشى على الأرض فيتحاشاه المتطهرون ، ويتحاماه الأتقياء من الناس . وقوله { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } تفريع على نجاستهم والمراد النهى عن الدخول إلا أنه عبر عنه بالنهى عن القرب مبالغة فى إبعادهم عن المسجد الحرام . والنهى وإن كان موجهاً إلى المشركين ، إلا أن المقصود منه نهى المؤمنين عن تمكينهم من ذلك ، والمراد بقوله { بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } العام الذى حصل فيه النداء بالبراءة من المشركين ، وبعدم طوافهم بالمجسد الحرام … وهو العام التاسع من الهجرة . قال ابن كثير أمر الله عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً بنفى المشركين الذين هم نجس دينا - عن المسجد الحرام ، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية . وكان نزولها فى سنة تسع . ولهذا بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا صحبة أبى بكر رضى الله عنهما - عامئذ ، وأمره أن ينادى فى المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . فأتم الله ذلك وحكم به شرعاً وقدراً . وقوله { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } بشارة من الله تعالى للمؤمنين بأن سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المشركين . والعيلة الفقر والفاقة يقال عال الرجل يعيل عيلة فهو عائل إذا افتقر ، ومنه قول الشاعر @ وما يدرى الفقير متى غناه وما يدرى الغنى متى يقيل @@ وقرئ " عائلة " بمعنى المصدر كالعافية اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أى حالا عائلة . قال ابن جرير - بعد أن ساق روايات فى سبب نزول الآية - عن عطية العوفى قال لما قيل " ولا يحج بعد العام مشرك " قالوا قد كنا نصيب من بياعاتهم فى الموسم ، قال فنزلت { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ . … } الآية . والمعنى لا تمكنوا أيها المؤمنون . المشركين من دخول المسجد الحرام بعد هذه السنة ، لأنهم نجس … ولا تخشوا الفقر والفاقة بسبب عدم تمكينهم ، حيث إنكم تتبادلون معهم التجارات والمبايعات … لأن الله - تعالى - قد وعدكم أن يغنيكم من فضله بالعطايا والخيرات التى تكفيكم أمر معاشكم … وقد أنجز الله - تعالى - لهم وعده ، فأرسل السماء عليهم مدرارا ، وفتح لهم البلاد ، فكثرت بين أيديهم الغنائم وألوان الخيرات ، ودخل فى دين الله من هم أيسر حالا وأغنى مالا من هؤلاء المشركين … قال صاحب الكشاف قوله { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } أى من عطائه أو من تفضله بوجه آخر ، فأرسل عليهم السماء مدرارا ، فأغزر بها خيرهم ، وأكثر مسيرهم . وأسلم أهل تبالة وجرس فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به فكان أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته " . والتقييد بالمشيئة فى قوله { إِن شَآءَ } ليس للتردد ، بل هو لتعليم المؤمنين رعاية الأدب مع الله - تعالى - كما فى قوله { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } ولبيان أن هذا الاغناء بإرادته - سبحانه - وحده ، فعليهم أن يجعلوا اعتمادهم عليه ، وتضرعهم إليه لا إلى غيره ، وللتنبيه على أن عطاءه سبحانه لهم ، هو من باب التفضل لا الوجوب ، لأنه لو كان واجبا مع قيده بالمشيئة . ولما كانت مشيئته - سبحانه - تجرى حسب مقتضى علمه وحكمته ، فقد ختم الآية بقوله { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . أى إن الله عليم بأحوالكم ومصالحكم ، وبما يكون عليه أمر حاضركم ومستقبلكم حكيم فيما شرعه لكم . فاستجيبوا له لتنالوا السعادة فى دنياكم وآخرتكم . هذا ، ومن الأحكام والآداب التى استنبطها العلماء من هذه الآية ما يأتى 1 - أن المراد بالمشركين فى الآية ما يتناول عبدة الأوثان وغيرهم من أهل الكتاب . كما هو مقتضى ظاهر اللفظ ، وكما يدل عليه قوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ … } أى لا يغفر أن يشرك به بأى لون من ألوان الشرك . ويرى كثير من الفقهاء أن المراد بالمشركين هنا عبدة الأوثان فحسب ، لأن الحديث خاص بهم من أول السورة إلى هنا . 2 - يرى جمهور الفقهاء أن نجاسة المشركين مرجعها إلى خبث بواطنهم لعبادتهم سوى الله - تعالى - أما أبدانهم فطاهرة . وقد بسط صاحب المنار القول فى هذه المسألة فقال ما ملخصه " قال بعضهم بنجاسة أعيان المشركين ، ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل . حكى هذا القول عن ابن عباس والحسن البصرى … وجمهور الظاهرية … ويرى جمهور السلف والخلف وأصحاب المذاهب الأربعة أن أعيانهم طاهرة . لأنه من المعلوم أن المسلمين كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم . ومع هذا فالنبى - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بغسل شئ مما أصابته أبدانهم . . بل الثابت أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشركة وأكل من طعام اليهود … وأطعم هو وأصحابه وفداً من الكفار ولم يأمر بغسل الأوانى التى أكلوا وشربوا فيها … وروى الإِمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود قال كنا نغزو مع رسول الله ، فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك علينا … " 3 - اختلف الفقهاء فى المراد بالمسجد الحرام فى قوله - تعالى - { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا … } . فقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء المراد به الحرم كله فيشمل المسجد الحرام ومكة ، لأن المسجد الحرام حيث أطلق فى القرآن فالمراد به الحرم كله . وعليه فالكافر يمنع من دخول الحرم كله … ويرى الشافعى أن المراد المسجد الحرام بخصوصه أخذا بظاهر اللفظ . قال القرطبى وقال الشافعى الآية عامة فى سائر المشركين ، خاصة فى المسجد الحرام ، ولا يمنعون من دخول غيره ، فأباح دخول اليهودى والنصرانى فى سائر المساجد " . ويرى الإِمام مالك أن المراد المسجد الحرام بالنص وبقية المساجد تقاس عليه ، لأن العلة - وهى النجاسة - موجودة فى المشركين ، والحرمة موجودة فى كل مسجد . وعليه فلا يجوز تمكينهم لا من المسجد الحرام ولا من غيره من المساجد . ويرى الأحناف أن المراد بالمسجد الحرم كله ، إلا أن النهى هنا ليس منصباً على دخوله وإنما هو منصب على المنع من الحج والعمرة . ومن الحج إليه أى لا تمكنوا - أيها المؤمنون - المشركين من الطواف بالمسجد الحرام بعد عامهم هذا . قال الآلوسى ويؤيده قوله - تعالى - { بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } ، فإن تقييد النهى يدل على اختصاص المنهى عنه بوقت من أوقات العام . أى لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة … ويدل عليه نداء على - كرم الله وجهه - يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، وكذا قوله - سبحانه - { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أى فقراً بسبب منعهم ، لما أنهم كانوا يأتون فى الموسم بالمتاجر ، فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى . ثم قال والحاصل أن الإِمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهى عليه ، ولا يمنعون عنده من دخول المسجد الحرام ومن دخول سائر المساجد " . 4 - قال القرطبى فى هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب فى الرزق جائز ، وليس ذلك بمناف للتوكل ، وإن كان الرزق مقدراً ، ولكنه علقه بالأسباب لتظهر القلوب التى تتعلق بالأسباب ، من القلوب التى تتوكل على رب الأرباب وقد تقدم أن السبب لا ينافى التوكل ، ففى الحديث الذى أخرجه البخارى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا " - أى تغدو صباحا وهى جياع ، وتعود عشية وهى ممتلئة البطون - . هذا ، وبتدبر آيات السورة الكريمة - من أولها إلى هنا - نراها قد وضحت العلاقات النهائية بين المسلمين وعبدة الأوثان ، وفصلت كثيراً من الأحكام التى تخص الفريقين ، ومن ذلك أنها قررت 1 - براءة الله ورسوله من عهود المشركين الذين مردوا على نقض المواثيق . 2 - إعطاؤهم مهلة مقدارها أربعة أشهر يتدبرون خلالها أمرهم ، دون أن يتعرض المسلمون لهم بسوء . 3 - إعلان الناس جميعاً يوم الحج الأكبر بهذه البراءة … 4 - أمر المؤمنين بإتمام مدة العهد لمن حافظ من المشركين على عهده . 5 - بيان ما يجب على المؤمنين فعله إذا ما انقضت أشهر الأمان التى أعطيت للمشركين . 6 - إرشاد المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم تأمين المشرك المستجير بهم حتى يسمع كلام الله ، ويطلع على حقيقة الإِسلام … ثم توصيله إلى موضع أمنه إن لم يسلم . 7 - بيان الأسباب التى تدعو إلى قتال المشركين ، وإلى وجوب البراءة منهم . 8 - بيان بعض الحكم والأسرار التى من أجلها شرع الجهاد فى الإِسلام . 9 - بيان أن المشركين ليسوا أهلاً لعمارة مساجد الله … وأن الذين هم أهل لذلك المؤمنون الصادقون . 10 - توجيه المؤمنين إلى أن إيمانهم يحتم عليهم أن يؤثروا محبة الله ورسوله على أى شئ آخر ، من الآباء والأبناء والإِخوان . 11 - تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم حيث نصرهم فى مواطن كثيرة ونصرهم يوم غزوة حنين ، بعد أن هزموا فى أول المعركة دون أن تنفعهم كثرتهم التى أعجبوا بها . 12 - نهيهم عن تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام ، وإزالة الوساوس التى قد تخطر ببالهم بسبب هذا النهى ، بأن وعدهم - سبحانه - بأنه سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المكاسب التى تأتيهم عن طريق تبادل المنافع مع المشركين فى موسم الحج . هذه أهم الموضوعات التى تعرضت لها سورة التوبة فى ثمان وعشرين آية من أولها إلى هنا . وهى موضوعات وضحت . كما أسلفنا . الأحكام النهائية فى علاقات المسلمين بالمشركين عبدة الأوثان . ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك سبع آيات بينت فيها ما يجب أن يكون عليه موقف المسلمين من المنحرفين من أهل الكتاب ، كما حكت بعض أقوالهم الذميمة ، وأفعالهم القبيحة ، التى تدعو المسلمين إلى قتالهم حتى يخضعوا لسلطان الإِسلام ، وقد بدئت هذه الآيات بقوله - تعالى - { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ … } .