Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 46-48)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله { وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ … } كلام مستأنف لبيان المزيد من رذائل المنافقين . أو معطوف على قوله - سبحانه - قبل ذلك { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ } وقوله { ٱنبِعَاثَهُمْ } أى نهوضهم وانطلاقهم للخروج بنشاط وهمة . من البعث وهو إثارة الإِنسان أو الحيوان وتوجيهه إلى الشئ بقوة وخفة . تقول بعثت البعير فانبعث إذا أثرته للقيام والسير بسرعة . وقوله " فثبطهم " أى فمنعهم وحبسهم ، من التثبيط " وهو رد الإِنسان عن الفعل الذى هم به عن طريق تعويقه عنه ومنعه منه . يقال ثبطه تثبيطا ، أى قعد به عن الأمر الذى يريده ومنعه منه بالتخذيل ونحوه . والمعنى ولو أراد هؤلاء المنافقون الخروج معك - يا محمد - إلى تبوك لأعدوا لهذا الخروج عدته اللازمة له من الزاد والراحلة ، وغير ذلك من الأشياء التى لا يستغنى عنها المجاهد فى سفره الطويل ، والتى كانت فى مقدورهم وطاقتهم . وقوله . { وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ } استدراك على ما تقدم . أى ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته ، ولكنهم لم يريدوا ذلك ، لأن الله - تعالى - كره خروجهم معك ، فحبسهم عنه ، لما يعلمه - سبحانه - من نفاقهم وقبح نواياهم ، وإشاعتهم للسوء فى صفوف المؤمنين . قال صاحب الكشاف فإن قلت . كيف موقع حرف الاستدراك ؟ قلت لما كان قوله { وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ } معطيا معنى نفى خروجهم واستعدادهم للغزو ، قيل { وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ } ، كأنه قيل ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، كما تقول . ما أحسن إلى زيد ولكن أساء إلى . وقال الجمل . وهاهنا يتوجه سؤال ، وهو أن خروج المنافقين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة ، فإن كان فيه مصلحة فلم قال { وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } وإن كان فيه مفسدة فلماذا عاتب نبيه - صلى الله عليه وسلم - فى إذنه لهم فى القعود ؟ والجواب عن هذا السؤال أن خروجهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فيه مفسدة عظيمة بدليل أنه - سبحانه - أخبر بتلك المفسدة بقوله { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } . بقى أن يقال . فلم عاتب الله نبيه بقوله { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } فنقول إنه - صلى الله عليه وسلم - اذن لهم قبل إتمام الفحص ، وإكمال التدبير والتأمل فى حالهم ، فلهذا السبب قال - تعالى - { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } وقيل إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحى إليه فى أمرهم بالقعود . وقوله . { وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ } تذييل المقصود منه ذمهم ووصفهم بالجبن الخالع ، والهمة الساقطة ، لأنهم بقعودهم هذا سيكونون مع النساء والصبيان والمرضى والمستضعفين الذين لا قدرة لهم على خوض المعارك والحروب . قال الآلوسى . وقوله { وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ } تمثيل لخلق الله داعية القعود فيهم ، وإلقائه كراهة الخروج فى قلوبهم بالأمر بالقعود أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك فليس هناك قول حقيقة . ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض أو حكاية لإِذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم فى القعود ، فيكون القول على حقيقته . هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية . أن الفعل يحسن بالنية ويقبح بها . أيضاً … وإن استويا فى الصورة ، لأن النفير واجب مع نية النصر . وقبيح مع إرادة تحصيل القبيح ، وذلك لأنه . تعالى . أخبر أنه كره انبعاثهم لما يحصل من إرادة المكر بالمسلمين . ومنها أن للإِمام أن يمنع من يتهم بمضرة المسلمين من الخروج للجهاد حماية لهم من شروره مفاسده . ومنها أن إعداد العدة للجهد أمر واجب ، وقد قال - تعالى - فى آية أخرى { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } ثم بين - سبحانه - المفاسد المترتبة على خروج المنافقين فى جيش المؤمنين فقال { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } ، وأصل الخبال . الاضطراب والمرض الذى يؤثر فى العقل كالجنون ونحوه . أو هو الاضطراب فى الرأى . أى لو خرج هؤلاء المنافقون معكم أيها المؤمنون إلى تبوك مازادوكم شيئاً من الأشياء إلا اضطراباً فى الرأى وفسادا فى العمل ، وضعفا فى القتال ، لأن هذا هو شأن النفوس المريضة التى تكره لكم الخير ، وتحب لكم الشر . قال الآلوسى . والاستثناء مفرغ متصل ، والمستثنى منه محذوف ، ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذى وقع منه الاستثناء . وقال أبو حيان إنه كان فى تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضاً اجتمعوا بهم زاد الخبال ، فلا فساد فى ذلك الاستلزام لو ترتب . وقوله { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } معطوف على قوله " ما زادوكم " . والإِيضاع . كما يقول القرطبى . سرعة السير قال الراجز . @ يا ليتنى فيها جذع أخب فيها وأضع @@ يقال وضع البعير . إذا أسرع فى السير ، وأوضعته . حملته على العدو . والخلل الفرجة بين الشيئين . والجمع الخلال ، أى الفرج التى تكون بين الصفوف وهو هنا ظرف مكان بمعنى بين ، ومفعول الإِيضاع محذوف ، أى . ولأسرعوا بينكم ركائبهم بالوشايات والنمائم والإِفساد . ففى الكلام استعارة تبعية ، حيث شبه سرعة إفسادهم لذات البين بسرعة سير الراكب ، ثم استعير لها الإِيضاع وهو للإِبل وأصل الكلام ولأوضعوا ركائبهم ، ثم حذفت الركائب . وجملة { يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ } فى محل نصب على الحال من فاعل أوضعوا . أى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا شراً وفساداً ، ولأسرعوا بينكم بالإِشاعات الكاذبة ، والأقوال الخبيثة ، حال كونهم باغين وطالبين لكم الافتتان فى دينكم ، والتشكيك فى صحة عقائدكم ، والتثبيط عن القتال ، والتخويف من قوة أعدائكم ، ونشر الفرقة فى صفوفكم . فالمراد بالفتنة هنا كل ما يؤدى إلى ضعف المسلمين فى دينهم أو فى دنياهم . وقوله { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } بيان لأحوال المؤمنين فى ذلك الوقت . أى . وفيكم . فى ذلك الوقت . يا معشر المؤمنين ، أناس كثيرو السماع لهؤلاء المنافقين ، سريعوا الطاعة لما يلقون إليهم من أباطيل . قال ابن كثير . قوله { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أى مطيعون لهم ، ومستحسنون لحديثهم وكلامهم ، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، فيؤدى إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير . وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أى عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم . وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام فى جمع الأحوال . والمعنى الأول أظهر فى المناسبة بالسياق . وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين . وقال محمد بن إسحاق كان الذين استأذنوا ، فيما بلغنى ، من ذوى الشرف ، منهم عبد الله بن أبى بن سلول ، والجد بن قيس ، وكانوا أشرافا فى قومهم ، فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا فيفسدوا عليه جنده . وكان فى جنده قوم أهل محبة لهم ، وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فقال { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } . وقوله { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } تذييل المقصود منه وعيد هؤلاء المنافقين وتهديدهم بسبب ما قدمت أيديهم من مفاسد . أى والله - تعالى - لا تخفى عليه خافية من أحوال هؤلاء الظالمين ، وسيعاقبهم بالعقاب المناسب لجرائمهم ورذائلهم . وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد وضحت أن هناك ثلاث مفاسد كانت ستترتب على خروج هؤلاء المنافقين مع المؤمنين إلى تبوك . أما المفسدة الأولى فهى زيادة الاضطراب والفوضى فى صفوف المجاهدين . وأما المفسدة الثانية فهى الإِسراع بينهم بالوشايات والنمائم والإِشاعات الكاذبة . وأما المفسدة الثالثة فهى الحرص على تفريق كلمتهم ، وتشكيكهم فى عقيدتهم . وهذه المفاسد الثلاث ما وجدت فى جيش إلا وأدت إلى انهزامه وفشله . ومن هنا كان تثبيط الله - تعالى - لهؤلاء المنافقين ، نعمة كبرى للمؤمنين . ومن هنا - أيضاً - كانت الكثرة العددية فى الجيوش لا تؤتى ثمارها المرجوة منها ، إلا إذا كانت متحدة فى عقيدتها ، وأهدافها ، واتجاهاتها … أما إذا كانت هذه الكثرة مشتملة على عدد كبير من ضعاف الإِيمان ، فإنها فى هذه الحالة يكون ضررها أكبر من نفعها . ثم ذكر الله تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطرف من الماضى المظلم لهؤلاء المنافقين فقال { لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ } . أى لقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الشرور والمفاسد فى صفوف المسلمين ، من قبل ما حدث منهم فى غزوة تبوك . ومن مظاهر ذلك أنهم ساءهم انتصاركم فى غزوة بدر ، وامتنعوا عن مناصرتكم فى غزوة أحد ، متبعين فى ذلك زعيمهم عبد الله بن أبى بن سلول ، ثم واصلوا حربهم لكم سراً وجهراً حتى كانت غزوة تبوك التى فضح الله فيها أحوالهم . فالمراد بقوله { مِن قَبْلُ } أى من قبل هذه الغزوة التى كانت آخر غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أى أن ما صدر عن هؤلاء المنافقين من مسالك خبيثة خلال غزوة تبوك ليس هو الأول من نوعه ، بل هم لهم فى هذا المضمار تاريخ مظلم بدأ منذ أوائل عهد الدعوة الإِسلامية بالمدينة . وقوله { وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ } بيان لتفننهم فى وجوه الأذى للنبى - صلى الله عليه وسلم - وتقليب الأمر تصريفه ، وترديده ، وإجالة الرأى فيه ، والنظر إليه من كل نواحيه لمعرفة أى ناحية منه توصل إلى الهدف المنشود . والمراد أن هؤلاء المنافقين قد ابتغوا الأذى للدعوة الإِسلامية من قبل هذه الغزوة ، ودبروا لصاحبها - صلى الله عليه وسلم - المكايد ، واستعملوا قصارى جهدهم ، ومنتهى اجتهادهم ، وخلاصة مكرهم ، من أجل صد الناس عن الحق الذى جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقوله { حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ … } غاية لمحذوف ، والتقدير أن هؤلاء المنافقين استمروا على حربهم للدعوة الإِسلامية { حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ } أى النصر الذى وعد الله عباده به { وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ } أى دينه وشرعه " وهم " أى المنافقون وأشباههم " كارهون " لذلك لأنهم يكرهون انتصار دين الإِسلام ، ويحبون هزيمته وخذلانه ، ولكن الله - تعالى - خيب آمالهم ، وأحبط مكرهم . قال الإِمام ابن كثير عندما قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبى ، واصحابه هذا أمر قد توجه ، فدخلوا فى الإِسلام ظاهراً ، ثم كلما أعز الله الإِسلام وأهله غاظهم وساءهم ، ولهذا قال - تعالى - { حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ } . ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين ، فحكت جانبا من أعذارهم الكاذبة ، ومن أقوالهم الخبيثة … فقال - تعالى - { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ … مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } .