Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 91-92)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذكر المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات ، منها ما جاء عن زيد بن ثابت أنه قال كنت أكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنت أكتب " براءة " ، فإنى لواضع القلم على أذنى ، إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال كيف بى يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فنزلت { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ … } الآية . وروى العوفى عن ابن عباس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه . فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مقرن المزنى ، فقالوا يا رسول الله ، احملنا . فقال لهم " والله لا أجد ما أحملكم عليه " ، فتولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملا ، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله ، أنزل عذرهم فى كتابه فقال { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } … " الآية . وقال محمد بن إسحاق - فى سياق غزوة تبوك - ثم " إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم البكاءون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم … فاستحملوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وكانوا أهل حاجة فقال " لا أجد ما أحملكم عليه " تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون " . والضعفاء جمع ضعيف ، وهو من ليس عنده القوة على القيام بتكاليف الجهاد ، كالشيوخ والنساء والصبيان . والمرضى جمع مريض ، وهم الذين عرضت لهم أمراض حالت بينهم وبين الاشراك فى القتال ، وهؤلاء عذرهم ينتهى بزوال أمراضهم . والمعنى { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ } العاجزين عن القتال لعلة فى تكوينهم ، أو لشيخوخة أقعدتهم ، { وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } الذين حالت أمراضهم بينهم وبين الجهاد { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } وهم الفقراء القادرون على الحرب ، ولكنهم لا يجدون المال الذين ينفقونه فى مطالب الجهاد ، ولا يجدون الرواحل التى يسافرون عليها أرض المعركة ، ليس على هؤلاء جميعا { حَرَجٌ } أى إثم أو ذنب بسبب عدم خروجهم مع النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك لقتال الكافرين … وقوله { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } بيان لما يجب عليهم فى حال قعودهم . قال الجمل ومعنى النصح - هنا - أن يقيموا فى البلد ، ويحترزوا عن إنشاء الأراجيف ، وإثارة الفتن ، ويسعوا فى إيصال الخير إلى أهل المجاهدين الذين خرجوا إلى الغزو ، ويقوموا بمصالح بيوتهم ، ويخلصوا الإِيمان والعمل لله ويتابعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فجملة هذه الأمور تجرى مجرى النصح لله ورسوله . وقوله { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } استئناف مقرر لمضمون ما قبله . والمحسنون . جمع محسن ، وهو الذى يؤدى ما كلفه الله به على وجه حسن . والسبيل الطريق السهل الممهد الموصل إلى البغية . ومن ، زائدة لتأكيد النفى . أى ليس لأحد أى طريق يسلكها لمؤاخذة هؤلاء المحسنين ، بسبب تخلفهم عن الجهاد ، بعد أن نصحوا لله ولرسوله ، وبعد أن حالت الموانع الحقيقية بينهم وبين الخروج للجهاد . قال الآلوسى والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق على أبلغ وجه وألطف سبك ، وهو من بليغ الكلام ، لأن معناه ، لا سبيل لعاتب عليهم ، أى لا يمر بهم العاتب ، ولا يجوز فى أرضهم ، فما أبعد العتاب عنهم ، وهو جار مجرى المثل . ويحتمل أن يكون تعليلا لنفى الحرج عنهم و { ٱلْمُحْسِنِينَ } على عمومه . أى ليس عليهم حرج ، لأنه ما على جنس المحسنين سبيل ، وهم من جملتهم . وقال صاحب المنار " والشرع الإلهى يجازى المحسن بأضعاف إحسانه ، ولا يؤاخذ المسئ إلا بقدر إساءته ، فإذا كان أولئك المعذورون فى القعود عن الجهاد محسنين فى سائر أعمالهم بالنصح المذكور . انقطعت طرق المؤاخذة دونهم والإِحسان أعم من النصح المذكور فالجملة الكريمة تتضمن تعليل رفع الحرج عنهم مقرونا بالدليل ، فكل ناصح لله ورسوله محسن ، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه فى الحرج ، وهذه المبالغة فى أعلى مكانة من أساليب البلاغة . وقوله { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى ، والله تعالى - واسع المغفرة ، كثير الرحمة ، يستر على عباده المخلصين ما يصدر عنهم من تقصير تقتضيه طبيعتهم البشرية . وقوله { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ … } معطوف على ما قبله ، من عطف الخاص على العام ، اعتناء بشأنهم ، وجعلهم كأنهم لتميزهم جنس آخر ، مع أنهم مندرجون مع الذين وصفهم الله قبل ذلك { لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } . أى لا حرج ولا إثم على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، إذا ما تخلفوا عن الجهاد ، وكذلك لا حرج ولا إثم - أيضاً - على فقراء المؤمنين ، الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل التى يركبونها لكى يخرجوا معك إلى هذا السفر الطويل قلت لهم يا محمد " لا أجد ما أحملكم عليه " . وفى هذا التعبير ما فيه من تطييب قلوب هؤلاء السائلين فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم إن ما تطلبونه أنا أسأل عنه ، وأفتش عليه فلا أجده ، ولو وجدته لقدمته إليكم . وقوله { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } بيان للآثار التى ترتبت على عدم وجود ما يحملهم من رواحل لكى يخرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك . أى أن هؤلاء المؤمنين الفقراء ، عندما اعتذرت لهم بقولك " لا أجد ما أحملكم عليه " انصرفوا من مجلسك ، وأعينهم تسيل بالدموع من شدة الحزن لأنهم لا يجدون المال الذى ينفقونه فى مطالب الجهاد ، ولا الرواحل التى يركبونها فى حال سفرهم إلى تبوك . فالجملة الكريمة تعطى صورة صادقة مؤثرة للرغبة الصادقة فى الجهاد ، وللألم الشديد للحرمان من نعمة أدائه . وبمثل هذه الروح ارتفعت راية الإِسلام ، وعزت كلمته ، وانتشرت دعوته . هذا ، ومن الأحكام والآداب التى نستطيع أن نأخذها من هاتين الآيتين ما يأتى 1 - أن التكاليف الإِسلامية تقوم على اليسر ورفع الحرج ، ومن مظاهر ذلك أن الجهاد . وهو ذروة سنام الإِسلام ، قد أعفى الله - تعالى - منه الضعفاء والمرضى والذين يجدون وسائله ومتطلباته . قال الإِمام القرطبى قوله تعالى { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ … } هذه الآية أصل فى سقوط التكليف عن العاجز ، فكل من عجز عن شئ مسقط عنه ، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال . ونظير هذه الآية قوله . تعالى { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } وقوله { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } 2 - أنه متى وجدت النية الصادقة فى فعل الخير . حصل الثواب وإن لم يكن هناك عمل ، بدليل أن المؤمنين الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر شرعى ، بشرهم النبى صلى الله عليه وسلم بأنهم مشاركون لمن خرج فى الأجر . قال الإِمام ابن كثير فى الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً . ولا سرتم سيراً إلا وهم معكم قالوا وهم بالمدينة قال نعم حبسهم العذر " . وروى الإِمام أحمد عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد خلفتم بالمدينة رجالا ، ما قطعتم وادياً ، ولا سلكتم طريقاً ، إلا شاركوكم فى الأجر ، حبسهم المرض " . 3 - أن الصحابة - رضى الله عنهم - ضربوا أروع الأمثال فى الحرص على الجهاد والاستشهاد وأن أعذارهم الشرعية لم تمنع بعضهم من المشاركة فى القتال … " فهذا عبد الله بن أم مكتوم وكان يخرج إلى غزوة أحد ويطلب أن يحمل اللواء . وهذا عمرو ابن الجموح - وكان أعرج - يخرج من مقدمة الجيوش فيقول له الرسول - صلى الله عليه وسلم - " إن الله قد عذرك " فيقول " والله لأحفرن بعرجتى هذه الجنة " - أى لأتركن آثار أقدامى فيها . ومن كان يؤتى به وهو يمشى بين الرجلين معتمدا عليهما من شدة ضعفه " ومع ذلك يقف فى صفوف المجاهدين . وبهذه القلوب السليمة ، والعزائم القوية والنفوس القوية والنفوس النقية التى خالط الإِيمان شغافها … ارتفعت كلمة الحق ، وعزت كلمة الإِسلام . وبعد أن بين - سبحانه - أحكام أصحاب الأعذار المقبولة ، أتبع ذلك ببيان أحكام الأعذار الكاذبة ، والصفات القبيحة ، فقال تعالى { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ … ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } .