Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 179-188)
Tafsir: Anwār at-tanzīl wa-asrār at-taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ } الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين في عصره ، والمعنى لا يترككم مختلطين لا يعرف مخلصكم من منافقكم حتى يميز المنافق من المخلص بالوحي إلى نبيه بأحوالكم ، أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم ، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ، ليختبر النبي به بواطنكم ويستدل به على عقائدكم . وقرأ حمزة والكسائي { حَتَّىٰ يَمِيزَ } ، هنا وفي « الأنفال » بضم الياء وفتح الميم وكسر الياء وتشديدها والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء . { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } وما كان الله ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب من كفر وإيمان ، ولكن الله يجتبي لرسالته من يشاء فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات ، أو ينصب له ما يدل عليها . { فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ } بصفة الإِخلاص ، أو بأن تعلموه وحده مطلعاً على الغيب وتعلموهم عباداً مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ولا يقولون إلا ما أوحي إليهم روي ( أن الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر ) فنزلت . عن السدي أنه عليه السلام قال : " عرضت عليَّ أمتي وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر " فقال المنافقون إن يزعم أنه يعرف من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فنزلت . { وَإِن تُؤْمِنُواْ } حق الإِيمان . { وَتَتَّقُواْ } النفاق . { فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا يقادر قدره . { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } القراءات فيه على ما سبق . ومن قرأ بالتاء قدر مضافاً ليتطابق مفعولاه أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم ، وكذا من قرأ بالياء إن جعل الفاعل ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو من يحسب وإن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفاً لدلالة يبخلون عليه أي ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيراً لهم . { بَلْ هُوَ } أي البخل . { شَرٌّ لَّهُمْ } لاستجلاب العقاب عليهم . { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } بيان لذلك ، والمعنى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق ، وعنه عليه الصلاة والسلام " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعله الله شجاعاً في عنقه يوم القيامة " { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وله ما فيهما مما يتوارث ، فما لهؤلاء يبخلون عليه بماله ولا ينفقونه في سبيله ، أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله بهلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والعقوبة . { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } من المنع والإِعطاء . { خَبِيرٌ } فمجازيهم . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الالتفات وهو أبلغ في الوعيد . { لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } قالته اليهود لما سمعوا { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [ البقرة : 245 ] وروي " أنه عليه الصلاة والسلام كتب مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإِسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً فقال فنحاص بن عازوراء : إن الله فقير حتى سأل القرض ، فلطمه أبو بكر رضي الله عنه على وجهه وقال : لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك ، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله ) فنزلت " . والمعنى أنه لم يخف عليه وأنه أعد لهم العقاب عليه . { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍ } أي سنكتبه في صحائف الكتبة ، أو سنحفظه في علمنا لا نهمله لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله عز وجل واستهزاء بالقرآن والرسول ، ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء ، وفيه تنبيه على أنه ليس أول جريمة ارتكبوها وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول . وقرأ حمزة « سيكتب » بالياء وضمها وفتح التاء وقتلهم بالرفع ويقول بالياء . { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } أي وننتقم منهم بأن نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق ، وفيه مبالغات في الوعيد . والذّوْق إدراك الطعوم ، وعلى الاتساع يستعمل لإِدراك سائر المحسوسات والحالات ، وذكره ها هنا لأن العذاب مرتب على قولهم الناشىء عن البخل والتهالك على المال ، وغالب حاجة الإِنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله به للخوف من فقدانه ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال . { ذٰلِكَ } إشارة إلى العذاب . { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } من قتل الأنبياء وقولهم هذا وسائر معاصيهم . عبر بالأيدي عن الأنفس لأن أكثر أعمالها بهن . { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ } عطف على ما قدمت وسببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء . { ٱلَّذِينَ قَالُواْ } هم كعب بن الأشرف ومالك وحيي وفنحاص ووهب بن يهوذا . { إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا } أمرنا في التوراة وأوصانا . { أَن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ } بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل وهو أن يقرب بقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية فتأكله ، أي تحيله إلى طبعها بالإِحراق . وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإِيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك . { قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } تكذيب وإلزام بأن رسلاً جاؤهم قبله كزكريا ويحيى بمعجزات أخر موجبة للتصديق وبما اقترحوه فقتلوهم ، فلو كان الموجب للتصديق هو الإِتيان به وكان توقفهم وامتناعهم عن الإِيمان لأجله فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخر واجترؤا على قتله . { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَاءوا بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُنِيرِ } تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه واليهود ، والزبر جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا حسبته ، والكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة القرآن . وقيل الزبر المواعظ والزواجر ، من زبرته إذا زجرته . وقرأ ابن عامر وبالزبر وهشام وبالكتاب بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات . { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } وعد ووعيد للمصدق والمكذب . وقرىء { ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } بالنصب مع التنوين وعدمه كقوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ } تعطون جزاء أعمالكم خيراً كان أو شراً تاماً وافياً . { يَوْمُ ٱلْقِيَـٰمَةِ } يوم قيامكم من القبور ، ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " . { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ } بعد عنها ، والزحزحة في الأصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة . { وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } بالنجاة ونيل المراد ، والفوز الظفر بالبغية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " { وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا } أي لذاتها وزخارفها . { إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ } شبهها بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ، وهذا لمن آثرها على الآخرة . فأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ والغرور مصدر أو جمع غار . { لَتُبْلَوُنَّ } أي والله لتختبرن . { فِي أَمْوٰلِكُمْ } بتكليف الإنفاق وما يصيبها من الآفات . { وأَنفُسِكُمْ } بالجهاد والقتل والأسر والجراح ، وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب . { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } من هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين . أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال ، ويستعدوا للقائها حتى لا يرهقهم نزولها . { وَإِن تَصْبِرُواْ } على ذلك . { وَتَتَّقُواْ } مخالفة أمر الله . { فَإِنَّ ذٰلِكَ } يعني الصبر والتقوى . { مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم الله عليه أي أمر به وبالغ فيه . والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيءَ نحو إمضائه . { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ } أي اذكر وقت أخذه . { مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } يريد به العلماء . { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } حكاية لمخاطبتهم . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالياء لأنهم غيب ، واللام جواب القسم الذي ناب عنه قوله : { أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ } والضمير للكتاب . { فَنَبَذُوهُ } أي الميثاق . { وَرَاء ظُهُورِهِمْ } فلم يراعوه ولم يتلفتوا إليه . والنبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد وعدم الالتفات ، ونقيضه جعله نصب عينيه وإلقاؤه بين عينيه . { وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ } . وأخذوا بدله . { ثَمَناً قَلِيلاً } من حطام الدنيا وأعراضها . { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } يختارون لأنفسهم ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار " وعن علي رضي الله تعالى عنه ( ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ) . { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ ٱلْعَذَابِ } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن ضم الباء جعل الخطاب له وللمؤمنين ، والمفعول الأول { ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ } والثاني { بِمَفَازَةٍ } ، وقوله { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } تأكيد والمعنى : لا تحسبن الذين يفرحون بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الوفاء بالميثاق وإظهار الحق والإِخبار بالصدق ، بمفازة بمنجاة من العذاب أي فائزين بالنجاة منه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني على أن الذين فاعل ومفعولاً يحسبن محذوفان يدل عليهما مفعولاً مؤكده ، فكأنه قيل ؛ ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا فلا يحسبن أنفسهم بمفازة ، أو المفعول الأول محذوف وقوله فلا تحسبنهم تأكيد للفعل وفاعله ومفعوله الأول . { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بكفرهم وتدليسهم . روي أنه عليه الصلاة والسلام " سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فأخبروه بخلاف ما كان فيها وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بما فعلوا " فنزلت . وقيل ؛ نزلت في قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به . وقيل : نزلت في المنافقين فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإِيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة .