Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 109-118)
Tafsir: Tafsīr Muqātil ibn Sulaymān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله سبحانه : { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } ، يعنى الأنبياء ، عليهم السلام ، { فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ } فى التوحيد ، { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ } ، وذلك أول ما بعثوا عند زفرة جهنم ؛ لأن الناس إذا خرجوا من قبورهم تاهت عقولهم ، فجالوا فى الدنيا ثلاثين سنة ، ويقال : أربعين سنة ، ثم ينادى مناد عند صخرة بيت المقدس : يا أهل الدنيا ، ها هنا موضع الحساب ، فيسمع النداء جميع الناس ، فيقبلون نحو الصوت ، فإذا اجتمعوا ببيت المقدس ، زفرت جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبى مرسل إلا ظن أنه لو جاء بعمل سبعين نبياً ما نجا ، فعند ذلك تاهت عقولهم ، فيقول لهم عند ذلك ، يعنى المرسلين : { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } فى التوحيد ، { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ } { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } [ آية : 109 ] ، ثم رجعت عقولهم بعد ذلك إليهم ، فشهدوا على قومهم أنهم قد بلغوا الرسالة عن ربهم ، فذلك قوله سبحانه : { وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ } يعنى الأنبياء ، { هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } [ هود : 18 ] . قوله سبحانه : { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } فى الآخرة ، { ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ } ، يعنى مريم ، عليهما السلام ، { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } ، فالنعمة على عيسى حين أيده بروح القدس ، يعنى جبريل ، عليه السلام ، { تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ } صبياً { وَ } تكلمهم { وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ } ، يعنى خط الكتاب بيده ، { وَٱلْحِكْمَةَ } ، يعنى الفهم والعلم ، { وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } ، يعنى علم التوراة والإنجيل ، وجعله نبياً ورسولاً إلى بنى إسرائيل ، { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ } ، يعنى الخفاش ، { بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا } ، يعنى فى الهيئة ، { فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ } ، يعنى الأعمى الذى يخرج من بطن أمه أعمى ، { وَ } يبرئ { وَٱلأَبْرَصَ } ، يمسحها بيده فيبرئها { بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ } أحياء ، { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ } ، أى عن قتلك ، { إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } ، وهى إحياء سام بن نوح بإذن الله . فيقوم عيسى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بهؤلاء الكلمات خطيباً على رءوس الخلائق ، ويخطب إبليس ، لعنه الله ، على أهل النار بهذه الآية : { إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ … } إلى قوله : { بِمُصْرِخِكُمْ } يعنى بمانعكم من العذاب ، { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } يعنى بمانعى من العذاب ، { إِنِّي كَفَرْتُ } يعنى تبرأت { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } [ إبراهيم : 22 ] ، أى فى الدار الدنيا ، وأما النعمة على مريم ، عليها السلام ، فهى أنه اصطفاها ، يعنى اختارها ، وطهرها من الإثم ، واختارها على نساء العالمين ، وجعلها زوجة محمد صل الله عليه وسلم فى الجنة . قوله سبحانه : { تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ } ، يعنى تكلم بنى إسرائيل صبياً فى المهد حين جاءت به أمه تحمله ، ويكلمهم كهلاً حين اجتمع واستوت لحيته ، { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ } ، يعنى خط الكتاب بيده ، { وَٱلْحِكْمَةَ } ، يعنى الفهم والعلم ، وإذ علمتك التوراة والإنجيل ، { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ } ، يعنى الخفاش ، { فَتَنفُخُ فِيهَا } ، يعنى فى الهيئة ، { فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ } الذى يخرج من بطن أمه أعمى ، فكان عيسى ، عليه السلام ، يرد إليه بصره بإذن الله تعالى ، فيمسح بيده عليه ، فإذا هو صحيح بإذن الله ، وأحيا سام بن نوح بإذن الله ، حيث كلمه الناس ، ثم مات فعاد كما كان ، { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ } ، يعنى عن قتلك حين رفعه الله عز وجل إليه ، وقتل شبيهه ، وهو الرقيب الذى كان عليه ، { إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } ، يعنى بالعجائب التى كان يصنعها من إبراء الأكمه والأبرص والموتى والطير ونحوه . { فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ } ، يعنى من اليهود من بنى إسرائيل ، { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ آية : 110 ] ، يعنى ما هذا الذى يصنع عيسى من الأعاجيب إلا سحر مبين ، يعنى بين ، نظيرها فى الصف ، { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ } ، وهم القصارون مبيضو الثياب ، وكانوا اثنى عشر رجلاً ، والوحى إليهم من الله عز وجل هو إلهام قذف فى قلوبهم التصديق بالله عز وجل ، بأنه واحد لا شريك له ، فذلك قوله عز وجل : { أَنْ آمِنُواْ بِي } أن صدقوا بأنى واحد ليس معى شريك ، { وَبِرَسُولِي } ، عيسى ابن مريم أنه نبى رسول ، { قَالُوۤاْ آمَنَّا } ، يعنى صدقنا بما جاء به من عند الله ، ونشهد أن الله عز وجل واحد لا شريك له ، وأنك رسوله ، { وَٱشْهَدْ } يا عيسى { بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ آية : 111 ] ، يعنى مخلصون بالتوحيد . { إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } ، يقول : هل يقدر على أن يعطيك ربك إن سألته { أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } ، فلا تسألوه البلاء ، { إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آية : 112 ] ، فإنها إن نزلت ثم كذبتم عوقبتم ، { قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } ، فقد جعنا ، { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } ، يعنى وتسكن قلوبنا إلى ما تدعونا إليه ، { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } بأنك نبى رسول ، { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ } [ آية : 113 ] ، يعنى على المائدة عند بنى إسرائيل ، إذا رجعنا إليهم ، وكان القوم الذين خرجوا وسألوا المائدة خمسة ألاف بطريق ، وهم الذين سألوا المائدة مع الحواريين . { قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، { ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } ، يقول : تكون عيداً لمن كان فى زماننا عند نزول المائدة ، وتكون عيداً لمن بعدنا ، { وَ } تكون المائدة { وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا } ، يعنى المائدة ، { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [ آية : 114 ] من غيرك ، يقول : فإنك خير من يرزق . { قَالَ ٱللَّهُ } عز وجل ، { إِنِّي مُنَزِّلُهَا } ، يعنى المائدة ، { عَلَيْكُمْ } ، فنزلها يوم الأحد ، { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ } نزول المائدة ، { مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ } [ آية : 115 ] ، فنزلت من السماء عليها سمك طرى ، وخبز رقاق ، وتمر ، وذكروا أن عيسى صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهم جلوس فى روضة : هل مع أحد منكم شئ ؟ فجاء شمعون بسمكتين صغيرتين ، وخمسة أرغفة ، وجاء آخر بشئ من سويق ، فعمد عيسى صلى الله عليه وسلم فقطعهما صغاراً وكسر الخبز ، فوضعها فلقاً فلقاً ، ووضع السويق فتوضأ ، ثم صلى ركعتين ، ودعا ربه عز وجل ، فألقى الله عز وجل على أصحابه شبه السبات ، ففتح القوم أعينهم ، فزاد الطعام حتى بلغ الركب ، فقال عيسى صلى الله عليه وسلم للقوم : كلوا وسموا الله عز وجل ، ولا ترفعوا ، وأمرهم أن يجلسوا حلقاً حلقاً ، فأكلوا حتى شبعوا ، وهم خمسة ألاف رجل ، وهذا ليلة الأحد ويوم الأحد . فنادى عيسى صلى الله عليه وسلم ، فقال : أكلتم ؟ قالوا : نعم ، قال : لا ترفعوا ، قالوا : لا نرفع ، فرفعوا ، فبلغ ما رفعوا من الفضل أربعة وعشرين مكتلاً ، فآمنوا عند ذلك بعيسى صلى الله عليه وسلم ، وصدقوا به ، ثم رجعوا إلى قومهم اليهود من بنى إسرائيل ، ومعهم فضل المائدة ، فلم يزالوا بهم حتى ارتدوا عن الإسلام ، فكفروا بالله ، وجحدوا بنزول المائدة ، فمسخهم الله عز وجل وهم نيام خنازير ، وليس غيهم صبى ولا امرأة . { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } ، يعنى بنى إسرائيل فى الدنيا ، { ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ } مريم { إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } ، فنزه الرب عز وجل ، أن يكون أمرهم بذلك ، فقال : { مَا يَكُونُ لِيۤ } ، يعنى ما ينبغى لى { أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } ، يعنى بعدل أن يعبدوا غيرك ، { إِن كُنتُ قُلْتُهُ } لهم { فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } ، يعنى ما كان منى وما يكون ، { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } ، يقول : ولا أطلع على غيبك ، وقال أيضاً : ولا أعلم ما فى علمك ، ما كان منك وما يكون ، { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } [ آية : 116 ] ، يعنى غيب ما كان وغيب ما يكون . { مَا قُلْتُ لَهُمْ } وأنت تعلم ، { إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } فى الدنيا ، { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } ، يعنى وحدوا الله ، { رَبِّي وَرَبَّكُمْ } ، قال لهم عيسى صلى الله عليه وسلم فى هذه السورة ، وفى كهيعص ، وفى الزخرف ، { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } ، يعنى على بنى إسرائيل بأن قد بلغتهم الرسالة ، { مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } ، يقول : ما كنت بين أظهرهم ، { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } ، يقول : فلما بلغ بى أجل الموت فمت ، { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } ، يعنى الحفيظ ، { وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ آية : 117 ] ، يعنى شاهداً بما أمرتهم من التوحيد ، وشهيد عليهم بما قالوا من البهتان ، وإنما قال الله عز وجل : { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } ، ولم يقل : وإذ يقول : يا عيسى ابن مريم ؛ لأنه قال سبحانه قبل ذكر عيسى يوم يجمع الله الرسل ، فيقول : ماذا أجبتم ؟ قالوا : يومئذ ، وهو يوم القيامة ، حين يفرغ من مخاصمة الرسل ، فينادى : أين عيسى ابن مريم ، فيقوم عيسى صلى الله عليه وسلم شفق ، فرق ، يرعد رعدة حتى يقف بين يدى الله عز وجل ، يا عيسى { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } . وكما قال سبحانه : { وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ] ، فلما دخلوا الجنة قال : { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } [ الأعراف : 50 ] ، فنسق بالماضى على الماضى ، والمعنى مستقبل ، ولو لم يذكر الجنة قبل بدئهم بالكلام الاول لقال فى الكلام الأول : { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ } [ الأعراف : 44 ] ، وكل شئ فى القرآن على هذا النحو . ثم قال عيسى صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل فى الآخرة : يا رب ، غبت عنهم وتركتهم على الحق الذى أمرتنى به ، فلم أدر ما أحدثوا بعدى ، فـ { إِن تُعَذِّبْهُمْ } فتميتهم على ما قالوا من البهتان والكفر ، { فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } ، وانت خلقتهم ، { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } ، فتتوب عليهم وتهديهم إلى الإيمان والمغفرة بعد الهداية إلى الإيمان ، { فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ آية : 118 ] فى ملكك ، الحكيم فى أمرك ، وفى قراءة ابن مسعود : " فإنك أنت الغفور الرحيم " ، نظيرها فى سورة إبراهيم ، عليه السلام ، فى مخاطبة إبراهيم : { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ، وهى كذلك أيضاً فى قراءة عبدالله بن مسعود .