Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 35-37)
Tafsir: Taysīr at-tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد عُلم مما تقدم ان حقيقة كل أمور التكوين والخلق ونشأة الانسان أمرٌ يفوضه السلَفُ الى الله تعالى ، ويكتفون بظاهر اللفظ فيه . اما الخلف فيلجأون الى التأويل ، وأمثلُ طرقه في هذا المقام التمثيل . وقد مضت سنّة الله في كتابه ان يُبرز لنا الأشياء المعنوية في قوالب العبارة اللفظية ويبين لنا المعارف المعقولة بالصور المحسوسة ، تقريباً للأفهام . ومن ذلك انه عرّفنا قيمة أنفسنا ، وما أوُدعته فطرتُنا مما تمتاز به على سائر المخلوقات . فعلينا والحال هذه ان نجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا الله مستعدّين لها من دون الملائكة وسائر الخلق … بذلك تظهر حكمته فينا ، ونشرف ، على معنى إعلام الله الملائكةَ بفضلِنا عليهم ومعنى سجودهم لأصلنا . فمجمل الآيات السابقة ان هذا العالَم لما استعدّ لوجود هذا النوع الانساني واقتضت الحكمة الإلَهية استخلافه في الارض أعلم الله تعالى الملائكةَ بذلك . وقدّر الملائكة انه يفسد النظام ويسفك الدماء ، حتى اعلمهم الله تعالى ان علمهم لم يحط بمواقع حكمته . ثم أوجد آدم وفضّله بتعليمه الأسماء كلها ، فيما كلُّ صنف من الملائكة لا يعلم الا طائفة محدودة منها . لذلك أمرهم الله بالخضوع لآدم فأطاعوه الا روحاً واحداً هو مبعث الشر ، أبى الخضوع واستكبر عن السجود . فكان بذلك من الكافرين . ومجمل الآيات هنا : ان الله تعالى لما خلق آدم وزوجته أسكنهما الجنة وقال لهما : اسكنا فيها ، وكُلا منها ما تشاءان ، من اي مكان وأي ثمر ، ولا تقربا شجرة معينة ، لتأكلا منها ، وإلا كنتما من الظالمين العاصين . لكن ابليس الحاسد لآدم ، الحاقد عليه ، أخذ يغريهما بالأكل من تلك الشجرة حتى زلاّ فأكلا منها . عند ذلك أخرجهما الله مما كانا فيه من النعم وأمرهما أن يعيشا في هذه الارض ، وذرّيتهما من بعدهما ، ويكون بعضهم لبعض عدوّا . وأبلغهم أن لهم في الأرض استقراراً ، وتيسيراً للمعيشة الى أجل معين ، لأن هذه الدنيا فانية والدار الآخرة هي الباقية . { فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } يعني ان الله تعالى ألهمه بعض الدعاء وهي قوله تعالى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } فتاب عليه ، اي رجع عليه بالرحمة والقبول { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } الذي يقبل التوبة عن العبد اذا اقترف ذنباً ثم ندم على ما فرط منه . انه هو الذي يحفّ عباده بالرحمة اذا هم أساؤوا ورجعوا اليه تائبين . وقد جاءت هذه الآيات ليعتبر الخلقُ ببيان الفطرة الآلهية التي فَطَر الله عليها الخلق ، الملائكة والبشر ، وليدركوا ان المعصية من شأن البشر ، فكأنه تعالى يقول : لا تأسَ يا محمد على القوم الكافرين ، ولا تبخع نفسك على ان لم يؤمنوا برسالتك ، إن الضعف موجود في طبائعهم . انظر ما وقع لآدم وما كان منه ، وسنّة الله لا تتبدل . وقد استقر أمر البشر على ان سعادتهم في اتّباع الهداية الإلَهية ، وشقاءهم في الانحراف عن سبلها . والجنة المرادة هنا أمرٌ اختلف فيها المفسرون . فقال بعضهم انها جنة الخُلد ، اي دار الثواب التي اعدها الله للمؤمنين يوم القيامة . قال ابن تيمية " وهذا قول أهل السنّة والجماعة ، ومن قال غير ذلك فهو من الملحِدة " ، ولا أدري كيف يجرؤ غفر الله له على هذا القول ويجعل من قال به ملحِدا ، وعلى رأس القائلين بذلك إمامان جليلان هما ابو حنيفة والماتريدي وكثيرون غيرهم . وقال كثيرون ان تلك الجنة بستان في الأرض وليست هي جنة الخلد . وعلى هَذا جرى أبو حنيفة وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره حيث قال : " نحن نعتقد ان هذه الجنة بستان من البساتين ، كان آدم وزوجته منعمين فيها وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها " . وقال الألوسي في تفسيره : روح المعاني ، " ومما يؤيد هذا الرأي : 1 - ان الله خلق آدم في الارض ليكون خليفة فيها هو وذريته . 2 - انه تعالى لم يذكر أنه بعد خلْق آدم في الارض عرج به الى السماء ، ولو حصل لذُكر ، لأنه أمر عظيم . 3 - ان الجنة الموعود بها لا يدخلها إلاَّ المتقون المؤمنون ، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة ! 4 - انها دار للنعيم والراحة ، لا دار تكليف وقد كُلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة . 5 - أنه لا يُمنع من في الجنة من التمتع بما يريد منها . 6 - انه لا يقع فيها العصيان والمخالفة لأنها دار طهر ، ولا دار رجس . وعلى الجملة ، فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على هذه الجنة التي سكنها آدم وطرد منها … " . اما الشجرة التي نُهي آدم وزجه ان يأكلا منها فلم يبيّن الله في كتابه نوعها ، ولم يَرد في السنّة الصحيحة تعيينها ، فلا نستطيع ان نعيّنها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع . وقال الاستاذ العقاد في كتابه : المرأة في القرآن " ان قصة الشجرة الممنوعة التي أكل منها آدم وحواء هي الصورة الانسانية لوسائل الذكَر والأنثى في الصلة الجنسية بين عامة الأحياء ، الرجل يريد ويطلب ، والمرأة تتصدى وتغري . وتتمثل في القصة بداهة النوع في موضعها ، أي حيث ينبغي ان تتمثل أول علاقة بين اثنين من نوع الانسان . وقد وردت القصة في القرآن في ثلاثة مواضع ، ووردت في الاصحاح الثالث من سِفر التكوين . وفي الاصحاح الحادي عشر من العهد الجديد في كتاب كورنثوس الثاني ، والاصحاح الثاني في تيموثاوس . وهي تعبّر برموزها السهلة عن بداهة النوع المتأصلة في ادراكه للمقابلة بين الجنسين ، وعن دور كل منهما في موقفه من الجنس الآخر ، على الوجه الوحيد الذي تتم به ارادة النوع ، والمحافظة على بقائه . وخلاصة القول : ان ثمرات هذه الشجرة هي ثمرات التكليف بجميع لوازمه ونتائجه ، وما كان الفارق بين آدم قبل الأكل منها وبعد الأكل الا الفارق بين الحياة في دعة وبراءة ، والحياة المكلّفة التي لا تخلو من المشقة والشقاق والامتحان بالفتنة ومعالجة النقائص والعيوب . وكلّما تكررت القصة في الآيات القرآنية كان في تكرارها تثبيت لهذا المعنى على وجه من وجوهه المتعددة . يبدو ذلك جلياً من المقابلة بين ما تقدم ، وما جاء عن هذه القصة في سورة الأعراف ، وذلك حيث يُذكر التصوير بعد الخلق ، أو اعطاء الصورة بعد اعطاء الوجود … وفيها يتبين ان من تمام التوكيد لحدود التكليف في هذه القصة ان خطاب آدم به لا يغني عن خطاب بنيه وأعقابه ، فهو مكلَّف وهم مكلَّفون ، وخطيئته لا تُلزمهم وتوبته لا تغنيهم . اما مولدهم منه فإنما يُخرجهم على سنّة الأحياء المولودين حيث يحيون وحيث يكّرمون ويموتون . واما قضية عصيان آدم ومخالفته فقد تكلم فيها المفسرون ، والمستشرقون الغربيون ، وتخبطوا في ذلك . والحق ان قليلاً من النقاد الغربيين من يفطن للخاصة الاسلامية التي تتمثل في قصة آدم هذه . اذ الغالب في أوساطهم ان يتكلموا عن زلة آدم فيسمّوها " سقوطا " ثم يرتبوا عليها ما يترتب على السقوط الملازم لطبيعة التكوين . هذا مع انه ليس في القرآن أثر قط للسقوط بهذا المعنى في حق كائن من الكائنات العلوية أو الارضية ، وانما هو انتقال الانسان من حال الى حال او من عهد البراءة والدعة الى عهد التكليف والمشقة . وجوهر المسألة في القصة ان القرآن الكريم لم يذكر قط شيئاً عن سقوط الخليقة من رتبة الى رتبة دونها ، ولا سقوط الخطيئة الدائمة بمعنى تلك التي يدان فيها الانسان بغير عمله . انه لا يعرف ارادةً معاندة في الكون لإرادة الله يكون من أثرها ان تنازعه الأرواحَ وتشاركه في المشيئة وتضع في الكون أصلاً من أصول الشر . لقد جاء الاسلام بهذه الخطوة العظمى في أطوار الأديان فقرر في مسألة الخير والشر والحساب والثواب أصحَّ العقائد التي يدين بها ضمير الانسان ، وقوام ذلك عقيدتان : أولاهما : وحدة الارادة الالَهية في الكون . والثانية : ملازمة التبعة لعمل العامل دون واسطة أخرى بين العامل وبين ضميره وربّه " .