Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 30-34)

Tafsir: Taysīr at-tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ان أمر الخليقة ، وكيفية تكوين هذا الكون على هذه الصورة . وخلق الحياة فيه . لهي من الشئون الإلَهية التي حيّرت العقول . والتي يعزّ الوقوف عليها كما هي . وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الانسانية بطريقة لطيفة . ومثّل لنا المعاني في صور محسوسة وأبرز لنا الحِكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار . ويعتبر بعض العلماء هذا النوع من القصص في القرآن من المتشابه الذي لا يمكن حمله على ظاهره . ذلك أن هذه الآيات بحسب قانون التخاطب إما ان تكون استشارة . وذلك محال على الله تعالى . واما ان تكون إخباراً منه سبحانه وتعالى للملائكة واعتراضاً منهم ومحاجّة وجدالا ، وذلك لا يليق بجلال الله ولا بملائكته الذين { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . وللعلماء في هذا النوع من المتشابه طريقتان : الاولى : طريقة السلَف وهي التنزيه كقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] وقوله تعالى : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] وتفويض الأمر الى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك ، مع العلم بأن الله يعلّمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به من أعمالنا وأحوالنا ، ويأتينا في ذلك بما يقرّب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيّلاتنا . والثانية : طريقة الخلَف وهي التأويل ، يقولون : ان قواعد الدين الاسلامي وُضعت على أساس العقل . فمن ثمَ لا يخرج شيء منها عن العقول ، فإذا ورد في القرآن أو الحديث شيء يخالف العقل حسُن تأويله حتى يقرب الى الأذهان . وعلى هذا قالوا : ان قصة الخلق انما وردت مورد التمثيل لتقريبها من أذهان الناس ، ولفْهم حالة خَلق الانسان وحال النشأة الاولى . لذا بيّن الله سبحانه انه هو الذي أحيا الانسان ومكّن له في الارض ، ثم بين بعد ذلك أصل تكوين الانسان وما أودع فيه من عِلم الأشياء وذكّره به … فاذكر يا محمد نعمةً أخرى من ربك على الانسان ، وهي أنه قال للملائكة : إني جاعل في الأرض من أمكّنه فيها وأجعله صاحب سلطان ، وهو آدم وذريته . وإنها لمنزلة عظيمة وتكريم كبير لهذا الانسان ! فاستفهم الملائكة عن سر ذلك قائلين : أتجعل في الأرض من يُفسد فيها بالمعاصي وسفك الدماء بالعدوان ، لما في طبيعته من شهوات ، بينما نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ونطهّر ذكرك ونمجّدك ؟ فأجابهم الله بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون ، من المصلحة في ذلك . لقد أودعتُ فيه من السر ما لم أودعه فيكم . وفي هذا ارشاد للملائكة وللناس ان يعلموا أنّ أفعاله تعالى كلّها بالغةٌ غايةَ الحكمة والكمال ، وإن لم يفهموا ذلك من أول وهلة . وقال فريق من المفسرين : ان قول الملائكة : " أتجعل فيها من يُفسد في الأرض ويسفك الدماء " يُشعر بأنه كان في الأرض صنفٌ أو أكثر من نوع الحيوان الناطق ، وانه كان قد انقرض يوم خلْق الانسان ، وقدّر الملائكةُ ان الصنف المستخلَف الجديد ، أي آدم وذريته ، لن يسلك الا مثل ما سلك سابقوه ، وقاسوا فعله اللاحق على فعل السلف السابق ، من إفساد وسفك دماء . . من ثم استنبطوا سؤالهم وكأنه اعتراض ، مع انه تقرير مبني على قياس . واذا صحّ هذا فليس آدم أول الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض ، وانما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق تماثل الطائفة البائدة منه في الذات والمادة ، كيما يصح القياس . وهذه الآية تجلّي حجة الرسول ودعوته من حيث أنه : اذا كان الملائكة محتاجين الى العلم ويستفيدونه بالتعلم من الله تعالى بالطريقة التي تناسب حالهم ، فإن البشر أولى منهم في إنكار ما لم يعرفوه حتى يعلموا ؛ وأن الافساد في الارض وجحود الحق ومناصبة الداعي اليه العداءَ ليس بدعاً من قريش ، وانما هو طبيعة البشر . والملائكة والملائك جمع مَلك نؤمن بوجودهم ولا نعرف عنهم الا ما ورد في الكتاب . إنهم أرواح علوية مطهّرة ، يعبدون الله ، لا يعصون الله ما أمَرَهُم ويفعلون ما يُؤمرون . ولفظة ملَك في اللغة مَعناها الرسالة . ويقول الطبري : سُميت الملائكة ملائكةً بالرسالة لأنه رُسل الله الى أنبيائه . نسبّح بحمدك : نصلّي لك ، وننزهك ونبرّئك مما يضيفه اليك أهل الشرك . ونقدس لك : نعظّمك ونمجّدك . وكل ذلك اقراراً بالفضل وشكرانا لله على خلقهم . { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا … } الآية آدم أبو البشر ، وجمعُه أوادم ، يجوز أن يكون لفظه عربيا . واشتقاقه من الأُدمة ، وهي السُّمرة الشديدة ، أو من أديم الارض اي قشرتها لأنه خُلق من تراب : " ان الله خلق آدم من قبضة قَبَضَها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر والأبيض وبين ذلك ، والسهلُ والحزن ، والخبيث والطيب " . وقال السهيلي في " الروض الأُنُف " : قيل ؛ ان آدم عربي ، أو عبراني ، أو سرياني ( وهذا ظنّ مردود ، والحقيقة لا يعلمها الا الله ) . وعلّمه اسماء جميع الأشياء وخواصها ، وأودع في نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين ( ونحن نصرف ذلك الى انه أودع فيه القدرة على الإدراك والتمييز ، لا علّمه لفظاتٍ معينة في لغة بعينها ) . وبعد أن علّمه أسماء الأشياء وخواصها ليتمكن في الأرض عرض هذه الأشياء على الملائكة وقال لهم : أخبروني بأسماء هذه الأشياء وخواصها ان كنتم صادقين في ظنّكم أنكم أحقُّ بخلافة الأرض من هذا المخلوق الجديد ، انطلاقا من واقع طاعتكم لي وعبادتكم إياي . فقالوا : سبحانك ربنا ، إننا ننزهك التنزيه اللائق بك ، ونقر ونعترف بعجزنا ، فلا علم عندنا الا ما وهبتنا إياه ، انك أنت العالم بكل شيء ، والحكيم في كل أمر تفعله . فلما اعترفوا بعجزهم قال الله تعالى لآدم : أخبرهم يا آدم بهذه الأشياء . فأجاب آدم وأظهر فضله عليهم . فقال الله تعالى مذكّراً لهم بإحاطة علمه : ألم أقل لكم إني أعلم كل ما غاب في السماوات والارض ، وأعلم ما تُظهرون في قولكم ، وما تخفون في نفوسكم ! ! وفي هذه الآية دليل على شرف الانسان على غيره من سائر المخلوقات حتى الملائكة ، وانه أفضلهم . وفيها دليل على فضل العلم على العبادة ، وان العلم أساسٌ مهم في الخلافة في هذه الارض ، فالأعلم هو الأفضل ، يؤيد ذلك قوله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] . ولقد قام الدين الإسلامي على العلم ، فلمّا تأخر المسلمون عنه تقدّمهم غيرُهم . { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ … } الآية اذكرُ يا محمد حين قلنا للملائكة اسجُدوا سجود خضوع وتحيّة لآدم ( لا سجود عبادة ، فالمعبود هو الله وحده ) فصدعوا للأمر الرباني وسجدوا . وقد جاء السجودُ في القرآن بمعنى غير العبادة كما هو هنا ، وفي سورة يوسف : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } [ يوسف : 100 ] أي تحيةً ، كما هي العادة التي كان الناس يتبعونها في تحية الملوك والعظماء . ولقد سجد الملائكة كلهم أجمعون الا أبليس أبى وامتنع . لقد استكبر ، فلم يطع أمر الحق ، ترفعاً عنه ، وزعماً بأنه خيرٌ من آدم ، كما ورد في سورة الأعراف { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الاعراف : 12 ] . وكان من الكافرين بِنِعم الله وحكمته وعلمه . وقد التبسَ على بعض الغربيّين أمرُ السجود ، وذلك ديدنُهُم في النقد كلّما وجدوا له فرصة في قصص القرآن . قال : " بابيني " الايطالي صاحب كتاب " الشيطان " : " انه يستغرب ان يؤْمر إبليس بالسجود لآدم مع غلوّ القرآن في تحريم الشِرك وتنزيه الوحدانية الإلَهية . " فهو إما أنه لا يعرف ان السجود قد يكون للتحية والتكريم . أو انه من اولئك المتعصّبين الذين لا يريدون ان يفهموا . وهؤلاء لا حيلة لنا معهم ، وهم في الغرب كثيرون . وإبليس : أشهر اسم للشيطان الأكبر ، ومن أشهر أسمائه في اللغات : " لوسيفر " و " بعلزبول " و " مغستوفليس " و " عزازيل " . وقد تقدم أن الشيطانَ كل عاتٍ ومتمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء ، وهذه الأسماء تمثل قوةَ الشر الكبرى في العالم في موقفها أمام عوامل الخير والكمال . والشيطان كلمةٌ عربية أصيلة ، لأن اللغة اشتملت على كل أصل يمكن ان يتفرع منه لفظ الشيطان ، ففيها مادة شط وشاط وشطَنَ وشَوَط ، وكل هذه الألفاظ تدل على البُعد والضلال والتلهُّب الاحتراق . وهي تستوعب أصول المعاني التي تُفهم من كلمة شيطان . وقد كان العرب يسمّون الثعبان الكبير شيطاناً ، وبذلك فسّر بعض المفسّرين قوله تعالى : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ } [ الصافات : 65 ] أي الأفاعي ، وورد كثيرا في الشعر العربي . ويرى بعضهم ان " إبليس " مأخوذ من الإبلاس ، ومعناه النَّدم والحُزن واليأس من الخير ، فيما يقول بعضهم إنه أعجمي . . لكنه على كل حال يدل على الفتنة والفساد . وإبليس من الجن ، لما ورد بصراحة في القرآن { وَإِذَ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] . قال الزمخشري : " جنّيُّ الملائكةِ والجن واحد ، لكن من خَبُثَ من الجن وتمرد شيطان ، ومن تطهّر ملَك " . وقال الراغب : " الجن يقال على وجهين احدُهما للروحانيين والمستترين عن الحواس كلها بإزاء الإنس ، فعلى هذا تدخل فيه الملائكة كلها " . ويقول في تفسير المنار : " وليس عندنا دليل على ان بين الملائكة والجن فصلاً جوهرياً يميز أحدهما عن الآخر وانما هو اختلاف أصنافٍ عندما تختلف أوصاف ، كما ترشد اليه الآيات . وعلى كل حال فانّ جميع هذه المسمّيات بهذه الأسماء من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها " فعلينا ان نؤمن بها كما وردت . ولا يهمنا ان كان ابليس من الملائكة أو من الجن ، فهذا جدلٌ لا طائل تحته ، والمهم انه عصى ربه وأصبح عنواناً على الشر والطغيان .