Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 9-15)

Tafsir: Taysīr at-tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الذين تبوَّؤا الدار : هم الانصار الذين سكنوا المدينة . ولا يجدون في صدورهم حاجة : الحاجة هنا : الحسد والغيظ . مما أوتوا : مما أُعطي المهاجرون من الفيء . ويؤثِرون : ويقدمون غيرهم على انفسهم ، ولو كان بهم خَصاصة : ولو كانوا فقراء . ومن يوقَ شح نفسه : ومن يحفظ نفسه من البخل والحرص على المال . المفلحون : الفائزون . لا تجعل في قلوبنا غِلا : بغضا وحسدا . الذين نافقوا : اظهروا الإسلام واضمروا الكفر . ليولُّنّ الادبار : ليهرُبُنَّ . بأسُهم بينهم شديد : خلافاتهم بينهم كثيرة . وقلوبهم شتى : متفرقة ومملوءة بالبغضاء على بعضهم . ثم مدح اللهُ تعالى الأنصار وأثنى عليهم ثناء عاطرا حين طابت انفسهم عن الفيء ، ورضوا أن يكون للمهاجرين من اخوانهم ، وقال : إنهم مخلصون في إيمانهم ، ذوو صفات كريمة ، وشيم جليلة ، تدلّ على كرم النفوس ، ونبل الطباع . ( 1 ) فهم يحبّون المهاجرين ، وقد أسكنوهم معهم في دورهم ، وآخَوهم ، وبعضهم نزل لأخيه من المهاجرين عن بعض ماله . روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " قال المهاجرون : يا رسول الله ما رأينا مثلَ قوم قِدمنا عليهم : حُسْنَ مواساةٍ في قليل ، وحسنَ بذل في كثير ! لقد كفونا المئونة ، وأشركونا في المهيّأ ، حتى لقد خشينا ان يذهبوا بالأجر كله ، قال : لا ، ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم " . والمهيأ : كل ما يريح الانسان من مكان او طعام . فعلّمهم الرسول الكريم ان يثنوا على اخوانهم الانصار ويدعوا لهم مقابل ما اكرموهم به . ( 2 ) وهم لا يحسّون في انفسهم شيئا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره . ( 3 ) ويؤثرون اخوانهم المهاجرين على انفسهم ويقدّمونهم ، ولو كان بهم حاجة ، وهذا منتهى الكرم والايثار ، وغاية التضحية . ولذلك ورد في بعض الروايات ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهمّ ارحم الأنصارَ وأبناء الأنصار . ثم بين الله تعالى ان الذي ينجو من البخل يفوز برضا الله ويكون من المفلحين فقال : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الشحّ ، فإن الشح قد أهلكَ من كان قَبلكم ، حَملَهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلّوا محارمهم " رواه الإمام احمد والبخاري في : الأدب المفرد ، والبيهقي . وقال الرسول الكريم : " لا يجتمعُ الإيمانُ والشحُّ في قلبِ عبدٍ أبداً " رواه الترمذي وابو يعلى عن انس بن مالك رضي الله عنه . وليس المراد من تقوى الشح الجودَ بكل ما يملك ، وانما ان يؤديَ الزكاة ، ويَقري الضيف ويعطي ما يستطيع كما روي عن الرسول الكريم انه قال : " بَرِئَ من الشحّ من أدى الزكاةَ وقَرَا الضيف ، وأعطى في النائبة " . ثم جاء المدحُ لمن تبع الانصارَ والمهاجرين ، وساروا على طريقتهم في كل زمان ومكان الى يوم القيامة فقال تعالى : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ } . وهذا يشمل المسلمين الذين اتبعوا الهدى وطبقوا الشريعة ، في كل مكان وزمان . كما جاء في سورة براءة الآية 100 { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } { وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } . هؤلاء هم المؤمنون حقا ، فهم يستغفرون لأنفسِهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان . ( ويشمل هذا جميعَ الصحابة الكرامِ وتابعيهم وكلَّ من سار على هداهم ) ، ثم يزيدون فيدْعون الى الله أن لا يجعلَ في قلوبهم حَسداً وحِقدا للمؤمنين جميعا ، فكيف ببعضِ من يسبُّ كرامَ الصحابة ، ويُبغضهم ! عافانا الله من ذلك وطهّر قلوبنا من الغل والحسد والبغضاء . فالقرآن تتجلّى عظمته في هذا الربط المتين : ربطَ أول هذه الأمة بآخرها ، وجعلها حلقة واحدةً مترابطةً في تضامن وتكافل وتعاطف وتوادّ ، ويمضي الخَلَفُ على آثار السلف ، صفاً واحدا على هدف واحد ، في مدار الزمان و اختلاف الأوطان . نسأل الله تعالى ان يجمع كلمةَ العرب والمسلمين ، ويوحّدَ صفوفهم تحت رايةِ القرآن وسنة رسوله الكريم ، انه سميع مجيب . ثم يأتي الحديث عن المنافقين ، وكَذِبهم وخداعهم ، وعدم وفائهم بما قالوا لإخوانهم اليهود الذين اتفقوا على بُغض الرسول الكريم والمؤمنين ، فيقول تعالى تعجّباً من كفرهم وكذبهم ونفاقهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } . الم تَعْجَبْ من حال هؤلاء المنافقين الذين خدعوا إخوانهم في الكفر ، اليهودَ من بني النضير ، حيث قالوا لهم اصمُدوا في دِياركم ولا تخرُجوا ، فإننا سننصركم ، وإن أُخرجْتم من المدينة لنخرجنَّ معكم ، ولا نطيعُ في شأنِكم أحدا ابدا . { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } . إن قاتلكم المسلمون قاتلنا نحن معكم . والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما وعدوا به . ثم بين كذبهم بالتفصيل فقال : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } . وقد خرج بنو النضير من ديارهم أذلاء فلم يخرج المنافقون معهم ، وقوتلوا فلم ينصروهم ، ولو نصروهم وقاتلوا معهم لانهزموا جميعاً . ثم بين الله السببَ في عدم نُصرتهم لليهود ، والدخول مع المؤمنين في قتال فقال : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } . انكم ايها المسلمون اشدّ مهابةً في صدور المنافقين واليهودِ من الله ، وذلك لأنهم قوم لا يعلمون حقيقة الإيمان . ثم أكد جُبن اليهود والمنافقين وشدة خوفهم من المؤمنين فقال : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ } . ان هؤلاء اليهود والمنافقين معهم قد ألقى اللهُ في قلوبهم الرعب ، فلا يواجهونكم بقتالٍ مجتمعين ، ولا يقاتلونكم إلا في قرى محصّنة او من وراء جدرانٍ يستترون بها . ذلك لأنهم متخاذلون ، وهم في الظاهر أقوياء متّحدون ، لكنهم في حقيقة الأمر قلوبُهم متفرقة ، وبينهم العداوةُ والبغضاءُ والحسد . { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } . ثم بين الله ان هؤلاء قد سبقهم غيرُهم قبلَهم من يهودِ بني قينقاع الذين كانوا حول المدينة وغزاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عنها { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وحالُنا اليومَ مع اليهود مثلُ حالهم في السابق ، فهم في الظاهر أقوياء ، عندهم أسلحة كثيرة وطائرات حديثة وصواريخ ودبابات ، وهذا كله ليس سرَّ قوتهم ، وانما سرُّ قوتهم خذلانُنا نحن وتفرُّقُ كلمتنا ، ومحاربة بعضنا بعضا . فلو عدنا الى ديننا وجمعْنا شملنا واتحدنا وأعددنا العدة بقدر ما نستطيع - لهزمنا اليهود ، فانّ بأسهم بينهم شديد وقلوبهم شتى ، ومجتمعهم متفكك مملوء بالجريمة والفِسق والقذارة التي ليس لها مثيل . فمتى يفيق العربُ من سباتهم ويوحدون صفوفهم ! لو اجتمعت العراق وسوريا والأردن وفلسطين اجتماعا حقيقيا لكفى هذا ، وبإمكانهم وحدهم ان يهزموا اليهود ويستعيدوا أرضهم وكرامتهم .