Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 27-33)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-ʿaẓīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك ، وأن لا تكلم أحداً من البشر ، فإنها ستكفى أمرها ، ويقام بحجتها ، فسلمت لأمر الله عز وجل ، واستسلمت لقضائه ، فأخذت ولدها ، فأتت به قومها تحمله ، فلما رأوها كذلك ، أعظموا أمرها ، واستنكروه جداً ، وقَالُواْ { يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } ، أي أمراً عظيماً ، قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد . وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله ابن أبي زياد ، حدثنا سيّار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي قال وخرج قومها في طلبها ، قال وكانت من أهل بيت نبوة وشرف ، فلم يحسوا منها شيئاً ، فلقوا راعي بقر ، فقالوا رأيت فتاة كذا وكذا نعتها ؟ قال لا ، ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط ، قالوا وما رأيت ؟ قال رأيتها الليلة تسجد نحو هذا الوادي . قال عبد الله بن أبي زياد وأحفظ عن سيّار أنه قال رأيت نوراً ساطعاً ، فتوجهوا حيث قال لهم ، فاستقبلتهم مريم ، فلما رأتهم ، قعدت وحملت ابنها في حجرها ، فجاؤوا حتى قاموا عليها ، { قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } أمراً عظيماً { يٰأُخْتَ هَـٰرُونَ } أي يا شبيهة هارون في العبادة { مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة ، فكيف صدر هذا منك ؟ قال علي بن أبي طلحة والسدي قيل لها { يٰأُخْتَ هَـٰرُونَ } أي أخي موسى ، وكانت من نسله كما يقال للتميمي يا أخا تميم ، وللمضري يا أخا مضر وقيل نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون ، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة ، وحكى ابن جرير عن بعضهم أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له هارون . ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير ، وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين الهسنجاني ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا المفضل بن فضالة ، حدثنا أبو صخر عن القرظي في قول الله عز وجل { يٰأُخْتَ هَـٰرُونَ } قال هي أخت هارون لأبيه وأمه ، وهي أخت موسى أخي هارون التي قصت أثر موسى { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } القصص 11 وهذا القول خطأ محض ، فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل ، فدل على أنه آخر الأنبياء بعثاً ، وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليهما ، ولهذا ثبت في " صحيح البخاري " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أنا أولى الناس بابن مريم ، إلا أنه ليس بيني وبينه نبي " ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي ، لم يكن متأخراً عن الرسل سوى محمد ، ولكان قبل سليمان وداود ، فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى عليهما السلام في قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْراءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِىٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } البقرة 246 وذكر القصة إلى أن قال { وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ } البقرة 251 الآية والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر وإغراق فرعون وقومه ، قال وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل ، فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى ، وهذه هفوة وغلطة شديدة ، بل هي باسم هذه ، وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم ، كما قال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن إدريس ، سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران ، فقالوا أرأيت ما تقرؤون { يٰأُخْتَ هَـٰرُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يَتَسمّون بالأنبياء والصالحين قبلهم " انفرد بإخراجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك به ، وقال الترمذي حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس ، وقال ابن جرير حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد بن سيرين قال أنبئت أن كعباً قال إن قوله { يٰأُخْتَ هَـٰرُونَ } ليس بهارون أخي موسى ، قال فقالت له عائشة كذبت ، قال يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، فهو أعلم وأخبر ، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة ، قال فسكتت ، وفي هذا التاريخ نظر . وقال ابن جرير أيضاً حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة قوله { يٰأُخْتَ هَـٰرُونَ } الآية ، قال كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد ، ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به ، وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به ، وكان هارون مصلحاً محبباً في عشيرته ، وليس بهارون أخي موسى ، ولكنه هارون آخر ، قال وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفاً ، كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل . وقوله { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } أي إنهم لما استرابوا في أمرها ، واستنكروا قضيتها ، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية ، وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة ، فأحالت الكلام عليه ، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه ، فقالوا متهكمين بها ، ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } قال ميمون بن مهران { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } قالت كلموه ، فقالوا على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبياً وقال السدي لما أشارت إليه ، غضبوا وقالوا لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره ، كيف يتكلم ؟ قال { إِنِّى عَبْدُ ٱللَّهِ } ، أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى ، وبرأه عن الولد ، وأثبت لنفسه العبودية لربه . وقوله { ءَاتَانِيَ ٱلْكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة ، قال نوف البكالي لما قالوا لأمه ما قالوا ، كان يرتضع ثديه ، فنزع الثدي من فمه ، واتكأ على جنبه الأيسر ، وقال { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ ءَاتَانِيَ ٱلْكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } إلى قوله { مَا دُمْتُ حَيّاً } وقال حماد بن سلمة عن ثابت البناني رفع أصبعه السبابة فوق منكبه ، وهو يقول { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ ءَاتَانِيَ ٱلْكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } الآية ، وقال عكرمة { ءَاتَانِيَ ٱلْكِتَـٰبَ } أي قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى ، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا يحيى بن سعيد ، هو العطار ، عن عبد العزيز بن زياد ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان عيسى بن مريم قد درس التوراة وأحكمها وهو في بطن أمه ، فذلك قوله { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ ءَاتَانِيَ ٱلْكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } يحيى بن سعيد العطار الحمصي متروك . وقوله { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري وجعلني معلماً للخير . وفي رواية عن مجاهد نفاعاً . وقال ابن جرير حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي ، سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال لقي عالم عالماً هو فوقه في العلم ، فقال له يرحمك الله ، ما الذي أعلن من عملي ؟ قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده ، وقد أجمع الفقهاء على قول الله { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } وقيل ما بركته ؟ قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان . وقوله { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } الحجر 99 . وقال عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس في قوله { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } قال أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت ، ما أثبتها لأهل القدر . وقوله { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } أي وأمرني ببر والدتي ، ذكره بعد طاعة الله ربه لأن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين كما قال تعالى { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } الإسراء 23 وقال { أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } لقمان 14 . وقوله { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } أي ولم يجعلني جباراً مستكبراً عن عبادته وطاعته وبر والدتي ، فأشقى بذلك . قال سفيان الثوري الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب . وقال بعض السلف لا تجد أحداً عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً ، ثم قرأ { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } قال ولا تجد سيىء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً ، ثم قرأ { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } النساء 36 . قال قتادة ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهن وأذن له فيهن ، فقالت طوبى للبطن الذي حملك ، وطوبى للثدي الذي أرضعت به ، فقال نبي الله عيسى عليه السلام يجيبها طوبى لمن تلا كتاب الله فاتبع ما فيه ، ولم يكن جباراً شقياً . وقوله { وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } إثبات منه لعبوديته لله عز وجل ، وأنه مخلوق من خلق الله يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق ، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد ، صلوات الله وسلامه عليه .