Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 130-132)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-ʿaẓīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تبارك وتعالى رداً على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله ، المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى ، فلم يدعُ معه غيره ، ولا أشرك به طرفة عين ، وتبرأ من كل معبود سواه ، خالف في ذلك سائر قومه حتىٰ تبرأ من أبيه ، فقال { يٰقَوْمِ إِنِّى بَرِىۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } الأنعام 78 79 وقال تعالى { وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } الزخرف 26 27 وقال تعالى { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لأَِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } التوبة 114 وقال تعالى { إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـٰنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ٱجْتَبَـٰهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَءاتَيْنَـٰهُ فِى ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } النحل 120 122 ولهذا وأمثاله قال تعالى { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال ، حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلاً ، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء ، فمن ترك طريقه هذا ، ومسلكه وملته ، واتبع طريق الضلالة والغيّ ، فأي سفه أعظم من هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا ؟ كما قال تعالى { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ، قال أبو العالية وقتادة نزلت هذه الآية في اليهود ، أحدثوا طريقاً ليست من عند الله ، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه ، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى { مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِىُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلْمُؤْمِنِينَ } آل عمران 67 68 . وقوله تعالى { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي أمره الله بالإخلاص والاستسلام والانقياد ، فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً ، وقوله { وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَٰهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } أي وصى بهذه الملة ، وهي الاسلام لله ، أو يعود الضمير على الكلمة ، وهي قوله { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } لحرصهم عليها ، ومحبتهم لها ، حافظوا عليها إلى حين الوفاة ، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم كقوله تعالى { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَـٰقِيَةً فِى عَقِبِهِ } الزخرف 28 وقد قرأ بعض السلف ويعقوب ، بالنصب ، عطفاً على بنيه ، كأن إبراهيم وصى بنيه ، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق ، وكان حاضراً ذلك ، وقد ادعى القشيري فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح ، والظاهر ، والله أعلم ، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة ، لأن البشارة وقعت بهما في قوله { فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ } هود 71 وقد قرىء بنصب يعقوب ههنا على نزع الخافض ، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما ، لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة ، وأيضاً فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ } العنكبوت 27 الآية ، وقال في الآية الأخرى { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } الأنبياء 72 وهذا يقضي أنه وجد في حياته ، وأيضاً فإنه باني بيت المقدس ، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة ، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال " المسجد الحرام " قلت ثم أي ؟ قال " بيت المقدس " ، قلت كم بينهما ؟ قال " أربعون سنة " الحديث ، فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس وإنما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه وبين إبراهيم أربعين سنة ، وهذا مما أنكر على ابن حبان ، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين ، والله أعلم ، وأيضاً فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريباً ، وهذا يدل على أنه ههنا من جملة الموصين . وقوله { يَـٰبَنِىَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي أحسنوا في حال الحياة ، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه ، فإن المرء يموت غالباً على ما كان عليه ، ويبعث على ما مات عليه ، وقد أجرى الله الكريم عادته بأنه من قصد الخير ، وفق له ويسر عليه ، ومن نوى صالحاً ، ثبت عليه . وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها . وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها " لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث " ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وبعمل أهل النار فيما يبدو للناس " وقد قال الله تعالى { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } الليل 5 10 .