Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 177-177)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-ʿaẓīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اشتملت هذه الآية على جمل عظيمة وقواعد عميمة ، وعقيدة مستقيمة ، كما قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا عبيد بن هشام الحلبي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عامر بن شفي ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإيمان ؟ فتلا عليه { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية ، قال ثم سأله أيضاً ، فتلاها عليه ، ثم سأله فقال " إذا عملت حسنة أحبها قلبك ، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك " وهذا منقطع ، فإن مجاهداً لم يدرك أبا ذر ، فإنه مات قديماً ، وقال المسعودي حدثنا القاسم بن عبد الرحمن قال جاء رجل إلى أبي ذر ، فقال ما الإيمان ؟ فقرأ عليه هذه الآية { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } حتى فرغ منها ، فقال الرجل ليس عن البر سألتك ، فقال أبو ذر جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه ، فقرأ عليه هذه الآية ، فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده " المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها " ورواه ابن مردويه ، وهذا أيضا منقطع ، والله أعلم . وأما الكلام على تفسير هذه الآية ، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولاً بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم حولهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجّه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ، ولهذا قال { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } الآية ، كما قال في الأضاحي والهدايا { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ } الحج 37 وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا ، فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ، ونزلت الفرائض والحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها ، وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك ، وقال أبو العالية كانت اليهود تقبل قبل المغرب ، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق ، فقال الله تعالى { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } يقول هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل ، وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله وقال مجاهد ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل ، وقال الضحاك ولكن البر والتقوىٰ أن تؤدوا الفرائض على وجوهها . وقال الثوري { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ } الآية قال هذه أنواع البر كلها ، وصدق رحمه الله ، فإن من اتصف بهذه الآية ، فقد دخل في عرى الإسلام كلها ، وأخذ بمجامع الخير كله ، وهو الإيمان بالله ، وأنه لا إله إلا هو ، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله والكتاب وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله ، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ، وقوله { وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } أي أخرجه ، وهو محب له راغب فيه ، نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر " وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة والثوري عن منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } أن تعطيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل العيش وتخشى الفقر " ثم قال صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، قلت وقد رواه وكيع عن الأعمش ، وسفيان عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود موقوفاً ، وهو أصح ، والله أعلم ، وقال تعالى { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً } الإنسان 8 9 وقال تعالى { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } آل عمران 92 وقوله { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الحشر 9 نمط آخر أرفع من هذا ، وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه ، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له . وقوله { ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ } وهم قرابات الرجل ، وهم أولى من أعطي من الصدقة كما ثبت في الحديث " الصدقة على المساكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة ، فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك " وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز { وَالْيَتَـٰمَىٰ } هم الذين لا كاسب لهم ، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب ، وقد قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جويبر ، عن الضحاك عن النزال بن سبرة ، عن علي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يتم بعد حلم " { وَٱلْمَسَـٰكِينِ } وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ، فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه " ، { وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته ، فيعطىٰ ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة ، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين ، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو جعفر الباقر والحسن وقتادة والضحاك والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان { وَٱلسَّآئِلِينَ } وهم الذين يتعرضون للطلب ، فيعطون من الزكوات والصدقات ، كما قال الإمام أحمد حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان عن مصعب بن محمد ، عن يعلى بن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها قال عبد الرحمن حسين بن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " للسائل حق وإن جاء على فرس " رواه أبو داود { وَفِي ٱلرِّقَابِ } وهو المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم ، وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة إن شاء الله تعالى ، وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك عن أبي حمزة عن الشعبي ، حدثتني فاطمة بنت قيس ، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أفي المال حق سوى الزكاة ؟ قالت فتلا علي { وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن أبي إياس ويحيى بن عبد الحميد ، كلاهما عن شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس ، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في المال حق سوى الزكاة " ثم قرأ { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } إلى قوله { وَفِي ٱلرِّقَابِ } وأخرجه ابن ماجه والترمذي ، وضعف أبا حمزة ميموناً الأعور ، وقد رواه سيار وإسماعيل بن سالم عن الشعبي ، وقوله { وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ } أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي ، وقوله { وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ } يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة كقوله { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } الشمس 9 10 وقول موسى لفرعون { هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ } النازعات 18 19 وقوله تعالى { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ } فصلت 6 7 ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال ، كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين ، إنما هو التطوع والبر والصلة ، ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس " أن في المال حقاً سوى الزكاة " والله أعلم . وقوله { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـٰهَدُواْ } ، كقوله { ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ ٱلْمِيثَـٰقَ } الرعد 20 وعكس هذه الصفة النفاق كما صح في الحديث " آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " وفي الحديث الآخر " وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " وقوله { وَٱلصَّابِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } أي في حال الفقر ، وهو البأساء ، وفي حال المرض والأسقام ، وهو الضراء { وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } أي في حال القتال والتقاء الأعداء ، وقاله ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومرة الهمداني ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وأبو مالك والضحاك وغيرهم ، وإنما نصب { ٱلصَّـٰبِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته . والله أعلم ، وهو المستعان وعليه التكلان ، وقوله { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا } ، أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذا الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فهؤلاء هم الذين صدقوا { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } لأنهم اتقوا المحارم ، وفعلوا الطاعات .