Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 41-44)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-ʿaẓīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما جيء سليمان عليه السلام بعرش بلقيس قبل قدومها ، أمر به أن يغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته هل تقدم على أنه عرشها ، أو أنه ليس بعرشها ؟ فقال { قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِيۤ أَمْ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ } قال ابن عباس نزع منه فصوصه ومرافقه ، وقال مجاهد أمر به فغير ما كان فيه أحمر جُعل أصفر ، وما كان أصفر جعل أحمر ، وما كان أخضر جعل أحمر ، غير كل شيء عن حاله . وقال عكرمة زادوا فيه ونقصوا . وقال قتادة جعل أسفله أعلاه ، ومقدمه مؤخره ، وزادوا فيه ونقصوا ، { فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ } أي عرض عليها عرشها ، وقد غير ونكر ، وزيد فيه ونقص منه ، فكان فيها ثبات وعقل ، ولها لب ودهاء وحزم ، فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ، ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته ، وإن غير وبدل ونكر ، فقالت { كَأَنَّهُ هُوَ } أي يشبهه ويقاربه . وهذا غاية في الذكاء والحزم . وقوله { وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } قال مجاهد يقوله سليمان ، وقوله تعالى { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَـٰفِرِينَ } هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام في قول مجاهد وسعيد بن جبير رحمهما الله ، أي قال سليمان { وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } وهي كانت قد صدها ، أي منعها من عبادة الله وحده { مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَـٰفِرِينَ } وهذا الذي قاله مجاهد وسعيد وحسنٌ . وقاله ابن جرير أيضاً ، ثم قال ابن جرير ويحتمل أن يكون في قوله { وَصَدَّهَا } ضمير يعود إلى سليمان ، أو إلى الله عز وجل ، تقديره ومنعها { مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي صدها عن عبادة غير الله { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَـٰفِرِينَ } قلت ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح كما سيأتي . وقوله { قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِي ٱلصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } وذلك أن سليمان عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصراً عظيماً من قوارير ، أي من زجاج ، وأجري تحته الماء ، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه . واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان عليه السلام إلى اتخاذه فقيل إنه لما عزم على تزوجها واصطفائها لنفسه ، ذكر له جمالها وحسنها ، لكن في ساقيها هلب عظيم ، ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة ، فساءه ذلك ، فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ هكذا قول محمد بن كعب القرظي وغيره . فلما دخلت وكشفت عن ساقيها ، رأى أحسن الناس ساقاً ، وأحسنهم قدماً ، ولكن رأى على رجليها شعراً لأنها ملكة وليس لها زوج ، فأحب أن يذهب ذلك عنها ، فقيل لها الموسى ، فقالت لا أستطيع ذلك ، وكره سليمان ذلك ، وقال للجن اصنعوا شيئاً غير الموسى يذهب بهذا الشعر ، فصنعوا له النورة ، وكان أول من اتخذت له النورة ، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والسدي وابن جريج وغيرهم . وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها ، وسلطاناً هو أعظم من سلطانها ، فلما رأته حسبته لجة ، وكشفت عن ساقيها ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير ، فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله وحده ، وعاتبها في عبادة الشمس من دون الله ، وقال الحسن البصري لما رأت العلجة الصرح ، عرفت والله أن قد رأت ملكاً أعظم من ملكها ، وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه قال أمر سليمان بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضاً ، ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها ، وسلطاناً هو أعظم من سلطانها { فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } لا تشك أنه ماء تخوضه ، قيل لها { إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ } . فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله عز وجل وحده ، وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله ، فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجداً إعظاماً لما قالت ، وسجد معه الناس ، فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع ، فلما رفع سليمان رأسه ، قال ويحك ماذا قلت ؟ قالت أنسيت ما قلت ؟ فقالت { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } فأسلمت وحسن إسلامها . وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثراً غريباً عن ابن عباس فقال حدثنا الحسين بن علي عن زائدة ، حدثني عطاء بن السائب ، حدثنا مجاهد ونحن في الأزد قال حدثنا ابن عباس قال كان سليمان عليه السلام يجلس على سريره ، ثم توضع كراسي حوله ، فيجلس عليها الإنس ، ثم يجلس الجن ، ثم الشياطين ، ثم تأتي الريح فترفعهم ، ثم تظلهم الطير ، ثم يغدون ــــ قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل ــــ شهراً ، ورواحها شهرٌ ، قال فبينما هو ذات يوم في مسير له ، إذ تفقد الطير ، ففقد الهدهد فقال { فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } قال وكان عذابه إياه أن ينتفه ، ثم يلقيه في الأرض ، فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض . قال عطاء وذكر سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } فقرأ حتى انتهى إلى قوله { سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا } وكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى بلقيس { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ، فلما ألقى الهدهد الكتاب إليها ، ألقي في روعها أنه كتاب كريم ، وأنه من سليمان ، وأن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين ، قالوا نحن أولوا قوة ، قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ، فلما جاءت الهدية سليمان قال أتمدونني بمال ؟ ارجع إليهم ، فلما نظر إلى الغبار ، أخبرنا ابن عباس قال وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها ، حين نظر إلى الغبار ، كما بيننا وبين الحيرة ، قال عطاء ومجاهد حينئذ في الأزد . قال سليمان أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن ٱلْجِنِّ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } قال وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس كما يجلس الأمراء ثم يقوم . فقال { أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } قال سليمان أريد أعجل من ذلك ، فقال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ، قال فنظر إليه سليمان ، فلما قطع كلامه ، رد سليمان بصره ، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان ، من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ثم يصعد إلى السرير ، قال فلما رأى سليمان عرشها ، قال { هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي } الآية { قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } فلما جاءت ، قيل لها أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو ، قال فسألته حين جاءته عن أمرين قالت لسليمان أريد ماء من زبد رواء ليس من أرض ولا سماء . وكان سليمان إذا سئل عن شيء ، سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين قال فقالت الشياطين هذا هين ، أجر الخيل ، ثم خذ عرقها ، ثم املأ منه الآنية . قال فأمر بالخيل فأجريت ، ثم أخذ عرقها فملأ منه الآنية ، قال وسألت عن لون الله عز وجل ، قال فوثب سليمان عن سريره فخر ساجداً ، فقال يا رب لقد سألتني عن أمر إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك ، فقال ارجع ، فقد كفيتكهم ، قال فرجع إلى سريره ، قال ما سألت عنه ؟ قالت ما سألتك إلا عن الماء ، فقال لجنوده ما سألت عنه ؟ فقالوا ما سألتك إلا عن الماء ، قال ونسوه كلهم . قال وقالت الشياطين إن سليمان يريد أن يتخذها لنفسه ، فإن اتخذها لنفسه ، ثم ولد بينهما ولد ، لم ننفك من عبوديته ، قال فجعلوا صرحاً ممرداً من قوارير فيه السمك ، قال فقيل لها ادخلي الصرح ، فلما رأته حسبته لجة ، وكشفت عن ساقيها ، فإذا هي شعراء . فقال سليمان هذا قبيح ، فما يذهبه ؟ قالوا يذهبه الموسى ، فقال أثر الموسى قبيح ، قال فجعلت الشياطين النورة . قال فهو أول من جعلت له النورة ، ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة ما أحسنه من حديث قلت بل هو منكر غريب جداً ، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم . والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب ، سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ، وما لم يكن ، ومما حرف وبدل ونسخ . وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع ، وأوضح وأبلغ ، ولله الحمد والمنة . أصل الصرح في كلام العرب هو القصر ، وكل بناء مرتفع ، قال الله سبحانه وتعالى إخباراً عن فرعون لعنه الله أنه قال لوزيره هامان { يٰهَـٰمَـٰنُ ٱبْنِ لِي صَرْحاً لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ الأَسْبَابَ } غافر 36 الآية . والصرح قصر في اليمن عالي البناء ، والممرد المبني بناء محكماً أملس { مِّن قَوَارِيرَ } أي زجاج ، وتمريد البناء تمليسه ، ومارد حصن بدومة الجندل ، والغرض أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج لهذه الملكة ليريها عظمة سلطانه وتمكنه ، فلما رأت ما آتاه الله ، وجلالة ما هو فيه ، وتبصرت في أمره ، انقادت لأمر الله تعالى ، وعرفت أنه نبي كريم ، وملك عظيم ، وأسلمت لله عز وجل وقالت { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي بما سلف من كفرها وشركها ، وعبادتها وقومها للشمس من دون الله ، { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده لا شريك له ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً .