Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 41-44)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-ʿaẓīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر ، الخارجين عن طاعة الله ورسوله ، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِأَفْوَٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } أي أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وقلوبهم خراب خاوية منه ، وهؤلاء هم المنافقون { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } أعداء الإسلام وأهله ، وهؤلاء كلهم { سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } أي مستجيبون له ، منفعلون عنه ، { سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد ، وقيل المراد أنهم يتسمعون الكلام ، وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك ، { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَٰضِعِهِ } أي يتأوّلونه على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ماعقلوه ، وهم يعلمون ، { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } قيل نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً ، وقالوا تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد ، فإن حكم بالدية ، فاقبلوه ، وإن حكم بالقصاص ، فلا تسمعوا منه ، والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم ، فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم ، والإركاب على حمارين مقلوبين ، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة ، قالوا فيما بينهم تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم ، فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم ، فلا تتبعوه في ذلك . وقد وردت الأحاديث في ذلك ، فقال مالك عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ " فقالوا نفضحهم ، ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام كذبتم ، إن فيها الرجم ، فأتوا بالتوراة ، فأتوا بالتوراة ، فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك ، فرفع يده ، فإذا آية الرجم ، فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة ، أخرجاه ، وهذا لفظ البخاري . وفي لفظ له فقال لليهود " ما تصنعون بهما ؟ " قالوا نسخم وجوههما ، ونخزيهما ، قال { فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } آل عمران 93 فجاؤوا بها فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور اقرأ ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها ، فوضع يده عليه ، فقال ارفع يدك ، فرفع ، فإذا آية الرجم تلوح ، قال يا محمد ، إن فيها آية الرجم ، ولكنا نتكاتمه بيننا ، فأمر بهما ، فرجما . وعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتي بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جاء يهود ، فقال " ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ " قالوا نسود وجوههما ونحممهما ، ونحملهما ، ونخالف بين وجوههما ، ويطاف بهما . قال { فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } آل عمران 93 قال فجاؤوا بها ، فقرؤوها ، حتى إذا مر بآية الرجم ، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم ، وقرأ ما بين يديها وما وراءها ، فقال له عبد الله بن سلام ، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُره فليرفع يده ، فرفع يده ، فإذا تحتها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما . قال عبد الله بن عمر كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه . وقال أبو داود حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال أتى نفر من اليهود ، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى القف ، فأتاهم في بيت المدراس ، فقالوا يا أبا القاسم ، إن رجلاً منا زنى بامرأة ، فاحكم . قال ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة ، فجلس عليها ، ثم قال " ائتوني بالتوراة ، فأتي بها ، فنزع الوسادة من تحته ، ووضع التوراة عليها ، وقال « آمنت بك وبمن أنزلك » ثم قال « ائتوني بأعلمكم " فأتي بفتى شاب ، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع . وقال الزهري سمعتُ رجلاً من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ، ونحن عند ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال زنى رجل من اليهود بامرأة ، فقال بعضهم لبعض اذهبوا إلى هذا النبي ، فإنه بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم ، قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، قلنا فتيا نبي من أنبيائك . قال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا يا أبا القاسم ، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدراسهم ، فقام على الباب ، فقال " أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ " قالوا يحمم ، ويجبه ، ويجلد ، والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما ، قال وسكت شاب منهم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سكت ، ألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النشدة ، فقال اللهم إذ نشدتنا ، فإنا نجد في التوراة الرجم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فما أول ما ارتخصتم أمر الله ؟ " قال زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا ، فأخر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في إثره من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه ، وقالوا لا نرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه ، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فإني أحكم بما في التوراة " فأمر بهما ، فرجما ، قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم ، رواه أحمد وأبو داود ، وهذا لفظه ، وابن جرير . قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن البراء ابن عازب ، قال مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يهودي محمم مجلود ، فدعاهم ، فقال " أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " فقالوا نعم ، فدعا رجلاً من علمائهم ، فقال " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " فقال لا والله ، ولولا أنك نشدتني بهذا ، لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنّا إذا أخذنا الشريف ، تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف ، أقمنا عليه الحد ، فقلنا تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " قال فأمر به ، فرجم ، قال فأنزل الله عز وجل { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ } إلى قوله { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ } أي يقولون ائتوا محمداً ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد ، فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم ، فاحذروا ، إلى قوله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال في اليهود ، إلى قوله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } قال في اليهود { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } قال في الكفار كلها ، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن الأعمش به . وقال الإمام أبو بكر عبد الله ابن الزبير الحميدي في مسنده حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، قال زنى رجل من أهل فدك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمداً عن ذلك ، فإذا أمركم بالجلد ، فخذوه عنه ، وإن أمركم بالرجم ، فلا تأخذوه عنه ، فسألوه عن ذلك ، فقال " أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم " فجاؤوا برجل أعور ، يقال له ابن صوريا ، وآخر ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم " أنتما أعلم من قبلكما ؟ " فقالا قد دعانا قومنا لذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما " أليس عندكما التوراة فيها حكم الله ؟ " قالا بلى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل ، وظلل عليكم الغمام ، وأنجاكم من آل فرعون ، وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل ، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم " ؟ فقال أحدهما للآخر ما نشدت بمثله قط ، ثم قالا نجد ترداد النظر زنية ، والاعتناق زنية ، والتقبيل زنية ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدي ويعيد ، كما يدخل الميل في المكحلة ، فقد وجب الرجم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو ذاك " فأمر به ، فرجم ، فنزلت { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } . ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث مجالد به نحوه . ولفظ أبي داود عن جابر ، قال جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال " ائتوني بأعلم رجلين منكم " ، فأتوه بابني صوريا ، فنشدهما " كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ " قالا نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، رجما ، قال " فما يمنعكم أن ترجموهما ؟ " قالا ذهب سلطاننا ، فكرهنا القتل ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالشهود ، فجاء أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، برجمهما ، ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلاً ، ولم يذكر فيه فدعا بالشهود فشهدوا . فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حكم بموافقة حكم التوراة ، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك ، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة ، فلما اعترفوا به . مع علمهم على خلافه ، بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعُدولُهم إلى تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم ، وشهوة لموافقة آرائهم ، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ، ولهذا قالوا { إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا } أي الجلد والتحميم ، { فَخُذُوهُ } ، أي اقبلوه ، { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } أي من قبوله واتباعه . وقال الله تعالى { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } أي الباطل ، { أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ } أي الحرام ، وهو الرشوة ، كما قاله ابن مسعود وغير واحد ، أي ومن كانت هذه صفته ، كيف يطهر الله قلبه ، وأنى يستجيب له ؟ ثم قال لنبيه { فَإِن جَآءُوكَ } أي يتحاكمون إليك ، { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم ، لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق ، بل ما يوافق أهواءهم ، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والحسن وغير واحد هي منسوخة بقوله { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } ، { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ } أي بالحق والعدل ، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } . ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة ، ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً ، ثم خرجوا عن حكمه ، وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه ، وعدم لزومه لهم ، فقال { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران ، فقال { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } أي لا يخرجون عن حكمها ، ولا يبدلونها ، ولا يحرفونها ، { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ } أي وكذلك الربانيون منهم ، وهم العلماء العباد ، والأحبار ، وهم العلماء { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به ، { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ } أي لا تخافوا منهم ، وخافوا مني ، { وَلاَ تَشْتَرُواْ بآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } فيه قولان سيأتي بيانهما . سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات قال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن العباس ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال إن الله أنزل { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } ، قال قال ابن عباس أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة ، فديته خمسون وسقاً ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة ، فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك ، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويومئذ لم يظهر ، ولم يوطئهما عليه ، وهو في الصلح ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق ، فقالت الذليلة وهل كان في حيين دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا ، وفرقاً منكم ، فأما إذ قدم محمد ، فلا نعطيكم ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، ثم ذكرت العزيزة ، فقالت والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا ، وقهراً لهم ، فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون ، حكمتموه ، وإن لم يعطكم ، حذرتم ، فلم تحكموه ، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، بأمرهم كله وما أرادوا ، فأنزل الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ } إلى قوله { ٱلْفَـٰسِقُونَ } ففيهم والله أنزل ، وإياهم عنى الله عز وجل . ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه . وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا هناد بن السري وأبو كريب ، قالا حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق ، حدثني داود بن الحصين عن عكرمة ، عن ابن عباس أن الآيات التي في المائدة قوله { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة ، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف ، تؤدى لهم الدية كاملة ، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء ، والله أعلم أي ذلك كان . ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه . ثم قال ابن جرير حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال كانت قريظة والنضير ، وكانت النضير أشرف من قريظة ، فكان إذا قتل القرظي رجلاً من النضير ، قتل به ، وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة ، ودي بمائة وسق من تمر ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة ، فقالوا ادفعوا إليه ، فقالوا بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ } ، ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه ، وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حبان وابن زيد وغير واحد . وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا كما تقدمت الأحاديث بذلك ، وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد ، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله ، والله أعلم ، ولهذا قال بعد ذلك { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } إلى آخرها ، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وقوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم نزلت في أهل الكتاب ، زاد الحسن البصري وهي علينا واجبة ، وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، عن منصور عن إبراهيم ، قال نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ، ورضي الله لهذه الأمة بها ، رواه ابن جرير . وقال ابن جرير أيضاً حدثنا يعقوب ، حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل ، عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة ، فقال من السحت ، فقالا وفي الحكم ، قال ذاك الكفر ، ثم تلا { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } وقال السدي { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } يقول ومن لم يحكم بما أنزلت ، فتركه عمداً ، أو جار وهو يعلم ، فهو من الكافرين . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال من جحد ما أنزل الله ، فقد كفر ، ومن أقرّ به ، ولم يحكم به ، فهو ظالم فاسق ، رواه ابن جرير ، ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب . أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب ، وقال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن زكريا ، عن الشعبي ، { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } ، قال للمسلمين . وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر ، عن الشعبي { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال هذا في المسلمين { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } قال هذا في اليهود { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } قال هذا في النصارى ، وكذا رواه هشيم والثوري ، عن زكريا ابن أبي زائدة ، عن الشعبي . وقال عبد الرزاق أيضاً أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قوله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } الآية ، قال هي به كفر ، قال ابن طاوس وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله . وقال الثوري ، عن ابن جريج ، عن عطاء أنه قال كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، رواه ابن جرير . وقال وكيع ، عن سعيد المكي ، عن طاوس { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال ليس بكفر ينقل عن الملة . وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن حجير ، عن طاوس ، عن ابن عباس في قوله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة ، وقال صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .