Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 4-12)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-ʿaẓīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه به من السلاسل والأغلال والسعير ، وهو اللهب والحريق في نار جهنم كما قال تعالى { إِذِ ٱلأَغْلَـٰلُ فِىۤ أَعْنَـٰقِهِمْ وٱلسَّلَـٰسِلُ يُسْحَبُونَ فِى ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِى ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ } غافر 71 ــــ 72 ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير ، قال بعده { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَـٰفُوراً } وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة ، مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة . قال الحسن برد الكافور في طيب الزنجبيل ، ولهذا قال { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } أي هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفاً بلا مزج ، ويروون بها ، ولهذا ضمن يشرب معنى يروى حتى عداه بالباء ، ونصب عيناً على التمييز ، قال بعضهم هذا الشراب في طيبه كالكافور ، وقال بعضهم هو من عين كافور ، وقال بعضهم يجوز أن يكون منصوباً بيشرب ، حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير . وقوله تعالى { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } أي يتصرفون فيها حيث شاؤوا ، وأين شاؤوا ، من قصورهم ودورهم ، ومجالسهم ومحالهم ، والتفجير هو الإنباع كما قال تعالى { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعًا } الإسراء 90 وقال { وَفَجَّرْنَا خِلَـٰلَهُمَا نَهَراً } الكهف 33 . وقال مجاهد { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } يقودونها حيث شاؤوا . وكذا قال عكرمة وقتادة ، وقال الثوري يصرفونها حيث شاؤوا . وقوله تعالى { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَـٰفُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } أي يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع ، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر . قال الإمام مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم بن مالك عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " رواه البخاري من حديث مالك . ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد ، وهو اليوم الذي شره مستطير ، أي منتشر عام على الناس ، إلا من رحم الله ، قال ابن عباس فاشياً ، وقال قتادة استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض ، قال ابن جرير ومنه قولهم استطار الصدع في الزجاجة واستطال ، ومنه قول الأعشى @ فبانَتْ وقَدْ أَسْأَرَتْ في الفُؤا دِ صَدْعاً على نَأْيِها مُسْتَطِيراً @@ يعني ممتداً فاشياً . وقوله تعالى { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ } قيل على حب الله تعالى ، وجعلوا الضمير عائداً إلى الله عز وجل لدلالة السياق عليه ، والأظهر أن الضمير عائد على الطعام ، أي ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له ، قاله مجاهد ومقاتل ، واختاره ابن جرير كقوله تعالى { وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } البقرة 177 وكقوله تعالى { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } آل عمران 92 وروى البيهقي من طريق الأعمش عن نافع قال مرض ابن عمر ، فاشتهى عنباً أول ما جاء العنب ، فأرسلت صفية ، يعني امرأته ، فاشترت عنقوداً بدرهم ، فاتبع الرسول سائل ، فلما دخل به قال السائل السائل . فقال ابن عمر أعطوه إياه ، فأعطوه إياه ، فأرسلت بدرهم آخر ، فاشترت عنقوداً ، فاتبع الرسول السائل ، فلما دخل قال السائل السائل . فقال ابن عمر أعطوه إياه ، فأعطوه إياه ، فأرسلت صفية إلى السائل ، فقالت والله إن عدت ، لا تصيب منه خيراً أبداً ، ثم أرسلت بدرهم آخر ، فاشترت به . وفي الصحيح " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر " أي في حال محبتك للمال ، وحرصك عليه ، وحاجتك إليه ، ولهذا قال تعالى { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } أما المسكين واليتيم ، فقد تقدم بيانهما وصفتهما ، وأما الأسير ، فقال سعيد بن جبير والحسن والضحاك الأسير من أهل القبلة ، وقال ابن عباس كان أسراؤهم يومئذ مشركين ، ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى ، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء ، وقال عكرمة هم العبيد ، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك ، وهكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة ، وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث ، وحتى إنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول " الصلاة وما ملكت أيمانكم " قال مجاهد هو المحبوس ، أي يطعمون الطعام لهؤلاء ، وهم يشتهونه ويحبونه قائلين بلسان الحال { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ } أي رجاء ثواب الله ورضاه { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ، ولا أن تشكرونا عند الناس . قال مجاهد وسعيد بن جبير أما والله ما قالوه بألسنتهم ، ولكن علم الله به من قلوبهم ، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } أي إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في اليوم العبوس القمطرير . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس عبوساً ضيقاً ، قمطريراً طويلاً ، وقال عكرمة وغيره عنه في قوله { يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } قال يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران . وقال مجاهد { عَبُوساً } العابس الشفتين ، { قَمْطَرِيراً } قال تقبيض الوجه بالبسور . وقال سعيد بن جبير وقتادة تعبس فيه الوجوه من الهول ، قمطريراً تقليص الجبين وما بين العينين من الهول . وقال ابن زيد العبوس ، الشر ، والقمطرير الشديد ، وأوضح العبارات ، وأجلاها ، وأحلاها ، وأعلاها وأولاها قول ابن عباس رضي الله عنه ، قال ابن جرير والقمطرير هو الشديد ، يقال هو يوم قمطرير ، ويوم قماطر ، ويوم عصيب ، وعصبصب ، وقد اقمطر اليوم يقمطر اقمطراراً ، وذلك أشد الأيام وأطولها في البلاء والشدة ، ومنه قول بعضهم @ بَني عَمِّنا هل تَذْكُرونَ بَلاءنا ؟ عليكُم إذا ما كانَ يومٌ قماطِرُ @@ قال الله تعالى { فَوَقَـٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ وَلَقَّـٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } وهذا من باب التجانس البليغ { فَوَقَـٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ } أي آمنهم مما خافوا منه ، { وَلَقَّـٰهُمْ نَضْرَةً } أي في وجوههم { وَسُرُوراً } أي في قلوبهم ، قاله الحسن البصري وقتادة وأبو العالية والربيع بن أنس ، وهذه كقوله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَـٰحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } عبس 38 ــــ 39 وذلك أن القلب إذا سر ، استنار الوجه ، قال كعب بن مالك في حديثه الطويل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر ، استنار وجهه ، حتى كأنه فلقة قمر ، وقالت عائشة رضي لله عنها دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسروراً تبرق أسارير وجهه ، الحديث . وقوله تعالى { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } أي بسبب صبرهم أعطاهم ونولهم ، وبوأهم { جَنَّةً وَحَرِيراً } ، أي منزلاً رحباً ، وعيشاً رغداً ، ولباساً حسناً . وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الداراني قال قرىء على أبي سليمان الداراني سورة { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَـٰنِ } ؟ فلما بلغ القارىء إلى قوله تعالى { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً } قال بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا ، ثم أنشد يقول