Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 36-49)

Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ } وهما غلامان كانا للملك الأكبر الوليد بن الريان ، أحدهما خبّازه صاحب طعامه واسمه مجلِث ، واالآخر ساقيه صاحب شرابه واسمه بنو غضب عليهما الملك فحبسهما ، وذلك أنّه بلغه أنّ خبازه يريد أن يسمّه وأنّ ساقيه مالا على ذلك ، وكان السبب أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فدسّوا إلى هذين ، وضمنوا لهما مالا ليسُمّا طعام الملك وشرابه فأجاباهم إلى ذلك ، ثمّ إنّ الساقي نكل عنه وقبل الخباز الرشوة فسمّ الطعام . فلمّا حضر وقته وأحضر الطعام ، قال الساقي : أيّها الملك لا تأكل فإنّ الطعام مسموم ، فقال الخباز : لا تشرب أيّها الملك فإنّ الشراب مسموم ، فقال الملك للساقي : اشرب فشربه فلم يضرّه ، وقال للخباز : كل من طعامك ، فأبى ، فجرّب ذلك الطعام على دابّة من الدواب فأكلته فهلكت ، فأمر الملك بحبسهما . وكان يوسف لمّا دخل السجن قال لأهله : إنّي أعبر الأحلام ، فقال أحد الفتيان لصاحبه : هلمّ فلنجرّب هذا العبد العبراني ، فتقرّبا له وسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئاً ، قال عبدالله بن مسعود : ما رأى صاحبا يوسف شيئاً ، إنّما كانا تحالفا أن يُجرّبا علمه . روى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أرى عينيه في المنام ما لم تَريا كُلِّف أن يعقد بين شعرتين يوم القيامة ، ومن استمع لحديث قوم وهم له كارهون صُبَّ في أُذنه الانك " . وقال قومٌ : كانا رأيا على صحّة وحقيقة ، قال مجاهد : لمّا رأى الفتيان يوسف قالا له : والله لقد أحببناك حين رأيناك فقال لهما يوسف : أنشدكما الله أن لا تحباني ؛ فإنّه ما أحبّني أحد قط إلاّ دخل عليَّ من حبّه بلاء . لقد أحبتني عمّتي فدخل عليّ في حبّها بلاء ، ثمّ أحبّني أبي فدخل عليَّ بحبه بلاء ثمّ أحبتني زوجة الملك هذا ، فدخل عليّ بحبّها إيّاي بلاء ، فلا تحبّاني بارك الله فيكما ، قال : فأبيا إلاّ حبّه وأُلفته حيث كان ، وجعلا يُعجبهما ما يريان من فهمه وعقله ، وقد كانا رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف فقال له الساقي : أيّها العالم إنّي رأيتُ كأنّي غرستُ حبّة من عنب عليها ثلاث عناقيد من عنب فحبستها ، وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه . وقال الخبّاز : إنّي رأيتُ كأنّ فوق رأسي ثلاث سِلال فيها الخبز وألوان الأطعمة فإذا سباع الطير تنهش منه ، فذلك قوله تعالى : { قَالَ أَحَدُهُمَآ } يعني بنو { إِنِّيۤ أَرَانِيۤ } أي رأيتني ، { أَعْصِرُ خَمْراً } يعني عنباً بلغة عمان ، ويدلّ عليه عليه قراءة ابن مسعود أعصرُ عنباً . قال الأصمعي : أخبرني المعتمر أنّه لقي أعرابياً معه عنب ، فقال : ما معك ؟ قال : خمر ، ومنه يُقال للخلّ العنبي خلُّ خمرة ، وهذا على قرب الجوار ، قال القتيبي : وقد تكون هي الخمر بعينها كما يُقال : عصرتُ زيتاً وإنّما عصر زيتوناً . وقال الآخر : وهو مجلِث : { إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } أخبرنا تفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا . { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي العالِمين الذين أحسنوا ، قال الفرّاء وقال ابن اسحاق : إنّا نراك من المحُسنين إلينا إن فعلت ذلك وفسّرت رؤيانا ، كما يُقال : افعل كذا وأنت مُحسن . وروى سلمة بن نبط عن الضحّاك بن مزاحم في قوله : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } ما كان إحسانه ؟ قال كان إذا مرض رجل في السجن قام إليه ، وإذا ضاق وسع له ، وإن احتاج جمع له ، وسأل له . قتادة : بلغنا أنّ إحسانه كان يُداوي مريضهم ، ويُعزّي حزينهم ، ويجتهد لربّه . قيل : لمّا انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوماً قد انقطع رجاؤهم واشتدّ بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول : أبشروا واصبروا تؤجروا ، وإنّ لهذا لأجراً وثواباً ، فقالوا له : يا فتى بارك الله فيك ، ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك لقد بورك لنا في جوارك بالحبس ، إنّا كُنا في غير هذا منذ حبسنا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والطهارة ، فمن أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله ، فقال له عامل السجن : يا فتى والله لو استطعت لخلّيت سبيلك ، ولكن ما أحسن جوارك وأحسن أخبارك فكنْ في أي بيوت السجن شئت . فكره يوسف ( عليه السلام ) أن يعبر لهما ما سألاه لِما عَلِمَ في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره ، قال لهما : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } في نومكما { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } في اليقظة . هذا قول أكثر المفسّرين ، وقال بعضهم : أراد به في اليقظة فقال : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } تطعمانه وتأكلانه { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } بتفسيرة قال : إنّه أيّ طعام أكلتم ومتى أكلتُم وكم أكلتُم ، فقالا له : هذا من فعل العَرّافين والكَهنة ، فقال لهما ( عليه السلام ) : ما أنا بكاهن وإنّما { ذٰلِكُمَا } العلم { مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } كرّرهُم على التأكيد . وقيل : هم الأوّل جماد كقوله تعالى : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] فصارت الأولى المُلغاة والثانية ابتداء ، وكافرون خبره . { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ } فتح ياءه قومٌ وسكّنها آخرون ، [ فما وفي ] أمثالها فالجزم على الأصل والفتح على موافقة الألف استقلّته لأنّها أُخت الفتحة وقرأها الأعمش آبَاي إبْرَاهِيْمَ دُعَاي إلاّ فِرَاراً مقصوراً غير مهموز وفتحَ ياءهما مثل [ … ] . { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ } ما ينبغي { أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } من صلة ، تقديره : أن نشرك بالله شيئاً . { ذٰلِكَ } التوحيد والعلم { مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } فأراهما يوسف فطنته وعلمه ثمّ دعاهما إلى الإسلام ، فأقبل عليهما وعلى أهل السجن وكان بين أيديهم أصناماً يعبودنها فقال إلزاماً للحُجّة { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ } جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه كقوله تعالى لسكّان الجنّة { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [ الأعراف : 44 ] ولسكّان النار : { أَصْحَابَ ٱلنَّارِ } [ الأعراف : 44 ] . { ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ } آلهة شتى لا تنفع ولا تضرّ { خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ } الذي لا ثاني له { ٱلْقَهَّارُ } قد قهر كلّ شيء ، نظيرها ، قوله : { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 59 ] ثمّ بين الحجر والأصنام وضعفها فقال : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ } أي ممّن دون الله ، وإنّما قال ما تعبدون وقد ابتدأ الكلام بخطاب الإثنين لأنّه قصد به جميع من هو على مثل حالهما من الشرك ، { إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ } وذلك تسميتهم أوثانهم آلهةً وأرباباً من غير أن تكون تلك التسمية حقيقة ، { أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } حجّة وبرهان { إِنِ ٱلْحُكْمُ } القضاء والأمر والنهي ، { إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } نظيره { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [ البينة : 5 ] ، { ذٰلِكَ } الذي دعوتكم إليه من التوحيد وترك الشرك ، { ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } المُستقيم ، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } . ثمّ فسّر رؤياهما فقال : { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا } وهو الساقي ، { فَيَسْقِي رَبَّهُ } سيّده يعني الملك { خَمْراً } وأمّا العناقيد الثلاثة التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام ، يبقى في السجن ثمّ يُخرجه الملك ويكون على ما كان عليه ، { وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ } وأمّا السلال الثلاث التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام ، يبقى في السجن ثمّ يخرجه الملك [ في ] اليوم الرابع فيصلبه ، فتأكل الطير من رأسه . قال ابن مسعود : لمّا سمعا قول يوسف قالا : ما رأينا شيئاً إنّما كنا نلعب ، فقال يوسف ( عليه السلام ) : { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أي فُرغ من الأمر الذي عنه تسألان ، ووجب حكم الله عليكما بالذي أخبرتكما به . معلّى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه " أبي رزين العقيلي قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إنّ الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعبر فإذا عُبِّرت وقعت ، وإنّ الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوة ، فأحسبه قال : لا تقصّه إلاّ على ذي رأي " . وأخبرنا عبدالله بن حامد عن إسماعيل بن محمد عن الحسن بن علي بن عفان عن ابن نمير عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرؤيا لأول عابرة " . { وَقَالَ } يوسف عند ذلك ، { لِلَّذِي ظَنَّ } علم ، { أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا } وهو الساقي ، هذا قول أكثر المفسّرين ، وفسّره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين ، وقال : إنّما عبارة الرؤيا بالظنّ ويخلق الله ما يشاء ، والقول الأوّل أولى وأشبه بحال الأنبياء ، { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } سيّدك يعني الملك ، وقيل له : إنّ في السجن غلاماً محبوساً ظُلماً { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه عزّ وجل حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بالمخلوق ، وتلك غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان ، ونسي لهذا ربّه عزّ وجلّ الذي لو به استغاث لأسرع خلاصه ولكنّه [ غفل ] وطال من أجلها حبسه . وقال محمد بن إسحاق : الهاء راجعة في قوله { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ } إلى الساقي فنقول : أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك وعلى هذا القول يكون معنى الآية : فأنساه الشيطانُ ذكره لربه كقوله : خوف { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } [ آل عمران : 175 ] أي يخوّفكم بأوليائه . { فَلَبِثَ } مكث ، { فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } اختلف العُلماء في معنى بضع فقال أبو عُبيدة : هو ما بين الثلاثة إلى الخسمة ، ومجاهد : ما بين الثلاث إلى التسع ، الأصمعي : ما بين الثلاث إلى التسع ، وابن عباس : ما دون العشرة ، وزعم الفرّاء أنّ البضع لا يذكر إلاّ مع العشرة والعشرين إلى التسعين ، وهو نيف ما بين الثلاثة إلى التسعة ، وقال : كذلك رأيتُ العرب تعمل ولا يقولون : بضع ومائة ولا بضع وألف ، وإذا كانت للذكران قيل : بضعة ، وأكثر المفسّرين على أنّ البضع في هذه الآية سبع سنين ، قال وهب : أصاب أيوب ( عليه السلام ) البلاء سبع سنين ، وتُرك يوسف في السجن سبع سنين ، وعذّب بخت نصّر فحُوِّل في السباع سبع سنين . روى يونس عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله يوسف ، لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث " ، يعني قوله : { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } قال : ثمّ بكى الحسن وقال : نحن إذا نزل بنا أمر نزعنا إلى الناس ، وقال مالك بن دينار : لما قال يوسف للساقي : اذكرني عند ربّك ، قيل له : يا يوسف اتّخذتَ من دوني وكيلا لأطيلنّ حبسك ، فبكى يوسف ( عليه السلام ) قال : يا ربّ إننّي رابني كثرة الطوى فقلت كلمة ، فويلٌ لأخوتي . وحُكي أنّ جبرئيل دخل على يوسف ( عليهما السلام ) ، فلمّا رآه يوسف عرفه وقال : يا أخا المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين ؟ ، ثمّ قال له جبرئيل : يا طاهر الطاهرين ، يقرأ عليك السلام ربّ العالمين ويقول : مالَكَ ؟ أما استحييت منّي إذ استغثت بالآدميين ؟ ، فوعزّتي لألبثنّك في السجن بضع سنين ، قال يوسف : وهو في ذلك عليّ راض ؟ قال : نعم ، قال إذاً لا أُبالي . وقال كعب : قال جبرئيل ليوسف : إنّ الله تعالى يقول : من خلقك ؟ قال : الله ، قال : فمن حبّبكَ إلى أبيك ؟ قال : الله ، قال فمن أنيسك في البئر إذ دخلته عريان ؟ قال : الله ، قال : فمن نجّاك من كُرب البئر ؟ قال : الله ، قال : فمن علّمك تأويل الرؤيا ؟ قال : الله ، قال فكيف استشفعت بآدمي مثلك ؟ فلمّا انقضت سبع سنين ، قال الكلبي وهذه السبعة سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك ولمّا دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الأكبر رؤياً عجيبة هائلة وذلك أنّه رأى ، { إِنِّيۤ أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ } خرجن من نهر يابس وَسَبْعُ بَقَرَات عِجَاف أيّ مهازيل فابتلعت العجاف السمان ، أكلنهنّ حتى أتين عليهنّ فلم يُرَ منهنّ شيئاً ، وَأَرَى سَبْع سُنْبُلات خُضْر قد انعقد حبّها وسبعاً أُخَر يَابِسَات قد استحصدت وأفركت والتفّت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فجمع السحرة والكهنة والحازة والقافة وقصّها عليهم وقال : { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ } أي الأشراف { أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ } فا عبروها ، { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } تفسّرون ، والرؤيا : الحلم وجمعها رؤى . { قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } أي أحلام مختلطة مُشتبهة ، أهاويل بأباطيل ، واحدها ضغث ، وأصله الحزمة من الزرع والحشيش ، قال الله تعالى { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } [ ص : 44 ] قال ابن مقبل : @ خُود كأنّ فراشها وضعت أضغاث ريحان غداه شمال @@ وقال آخر : @ بحُمى ذمار حين قلّ مانعه طاو كضغث الخلا في البطن مُكتمنِ @@ والأحلام جمع الحُلم وهو الرؤيا والفعل منه حُلمتُ وأحلمُ ، بفتح العين في الماضي ، وحلمتها في الغابرة لها وحُلماً فعاد فحذف يا من حالم . { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ٱلأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } ، { وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا } من القتل ، منهما : من الفتيين وهو الساقي ، { وَٱدَّكَرَ } : أي وتذكر حاجة يوسف قوله : { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } ، { بَعْدَ أُمَّةٍ } : بعد حين ، قراء ابن عباس وعكرمة والضحّاك [ بعد أَمَة ] أي بعد نسيان ويُقال أَمَة ، يأمَهُ ، أمَهاً ، إذا نسي ، ورجل [ ماهو ] أي ذاهب العقل . وأنشد أبو عبيدة : @ أمِهتُ وكنت لا أنسى حديثاً كذاك الدّهر يودي بالعقول @@ وقرأ مجاهد : أمْه ، بسكون الميم وفتح الألف وهاء لخالصة ، وهو مثل الأمه أيضاً وهما لغتان ومعناهما النسيان ، { أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } : أخبركم بتفسيره وما ترون { فَأَرْسِلُونِ } : فأطلقوني ، وأذنوا لي أمضي وأتكم بتأويله وفي الآية أختصار تقديرها فأرسلون ، فأتي السجن ، قال ابن عباس لم يكن السجن في المدينة فقال { يُوسُفُ } يعني يا يوسف ، { أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ } : فيما عبّرت لنا من الرؤيا والصدّيق الكثير الصديق ولذلك سُمّي أبو بكر صدّيقاً ، وفعيّل للمبالغة والكثرة مثل الفسيّق الضليل والشريب والخمير ونحوها . { أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ } : الآية فإنّ الملك رأى هذه الرؤيا . { لَّعَلِّيۤ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ } أهل مصر ، { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } ، تأويلها ، وقيل : لعلّهم يعلمون فضلك وعلمك ، فقال لهم يوسف مُعلّماً ومعبّراً : أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات ، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات السنون المهولة المجدبة ، وذلك قوله تعالى : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً } أي كعادتكم ، وقال : بعضهم أراد بجدَ واجتهاد وقرأ بعضهم دأباً بفتح الهمزة وهما لغتان ، يقال دبت في الأمر أدأب دأباً ودأَبَاً إذا اجتهد ، قال الفرّاء : وكذلك كلّ حرف فُتح أوّله وسكن ثانية فتثقيله جائز إذ كان ثانيه همزة أو عيناً أوحاء أو خاء أو هاء . { فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } في [ بذره ] { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } وإنّما أشار عليهم بذلك بذلك ليبقى ولا يفسد ، { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ } يعني سبع سنين جدد بالقحط { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } يعني يُؤكل ، فيهنّ ما أعددتم لهنّ من الطعام في السنين الخصبة ، وهذا كقول القائل : @ نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلة وليلك نومٌ والردى لك لازمُ @@ والنهار لا يسهو والليل لا ينام ، وإنّما يُسهى في النهار ويُنام في الليل . { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } أي : تخزنون وخزنون وتدّخرون . { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ } وهذا خبر من يوسف ( عليه السلام ) عمّا لم يكن في رؤيا الملك ، ولكنّه من علم الغيب الذي آتاه الله عزَّ وجلَّ ، كما قال قتادة : زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها ، فقال : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ } أي يمطرون بالغيث وهو المطر ، وقيل : يُغاثون ، من قول العرب استغثتُ بفلان وأغاثني ، { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } قرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً تعصرون ، بالتاء لأنّ الكلام كلّه بالخطاب ، وقرأ الباقون بالياء ردّاً إلى الناس ، قال أكثر المفسّرين يعصرون العنب خمراً ، الزيتون زيتاً ، والسمسم دُهناً ، وإنّما أراد بعض الأعناب والثمار والحبوب كثرة النعم والخير ، وروى الفرج بن فضالة عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : تعصرون تحلبون ، وقال أبو عبيدة : ينجون من الجدب والكرب ، والعصر : المنجى والملجأ ، وقال أبو زبيد الطائي : @ صادياً يستغيثُ غير مُغاث ولقد كان عصرة المنجود @@ وأخبرني أبو عبدالله بن فنجويه الدينوري ، أبو علي بن حبش المقرئ ، أبو القاسم بن الفضل المقرئ ، حدّثني أبو زرعة ، حدّثني حفص بن عمر ، حدّثني أبو جميلة عن عيسى بن عُبيد قال : سمعتُ عيسى بن الأعرج يقرأها فيهِ يُغاثُ الناسُ وفيهِ يُعْصِرُون ، برفع الياء قال : قلت : ما يُعصرون ؟ قال : المطر أي تمطرون وقرأ { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً } [ النبأ : 14 ] .