Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 16-40)

Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ } القرآن { مَرْيَمَ } وهي ابنة عمران بن ماثان { إِذِ ٱنتَبَذَتْ } . قال قتادة : انفردت . الكلبي : تنحّت وأصله من النبذة بفتح النون وضمّها وهي الناحبة ، يعني إنها اعتزلت وجلست ناحية { مَكَاناً شَرْقِياً } يعني مشرقة ، وهي مكان في الدار مما يلي المشرق ، جلست فيها لأنها كانت في الشتاء . قال الحسن : اتّخذت النصارى المشرق قبلة لأنّ مريم انتبذت مكاناً شرقياً { فَٱتَّخَذَتْ } فضربت { مِن دُونِهِم حِجَاباً } قال ابن عباس : ستراً ، قال مقاتل : جعلت الجبل بينها وبين قومها ، قال عكرمة : إن مريم كانت تكون في المسجد ما دامت طاهراً ، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينا هي تغتسل من الحيض إذ عرض لها جبرئيل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سويّ الخلْق . فذلك قوله { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } يعني جبرئيل ( عليه السلام ) وقيل : روح عيسى ابن مريم اضافة إليه على التخصيص والتفضيل { فَتَمَثَّلَ } فتصور لها بشراً آدمياً سويّاً لم ينقص منه شيء وإنما أرسله في صورة البشر لتثبت مريم عليها السلام وتقدر على استماع كلامه ، ولو نزّله على صورته التي هو عليها لفزعت ونفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه ، فلمّا رأته مريم { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } مؤمنا مطيعاً . قال علي بن أبي طالب : علمت أن التقيّ ذو نهية ، وقيل : كان تقي رجل من أعدل الناس في ذلك الزمان فقالت : إنْ كنت في الصلاح مثل التقي فإني أعوذ بالرحمن منك ، كيف يكون رجل اجنبي وامرأة اجنبية في حجاب واحد ؟ قال لها جبرئيل { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ } أي يقول لأهب لك ، وقرأ أبو عمرو ليهب بالياء ولداً { غُلاَماً زَكِيّاً } صالحاً تقياً { قَالَتْ } مريم { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } ولم يقربني روح { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } فاجرة وإنما حُذفت الهاء منه لأنه مصروف عن وجهه . قال جبرئيل { كَذٰلِكَ } كما قلتِ يا مريم ولكن قال ربّك وقيل هكذا { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } خلْق ولد من غير أب { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً } علامة هذه { لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا } لمن تبعه على دينه . { وَكَانَ } ذلك { أَمْراً مَّقْضِيّاً } معدوداً مسطوراً في اللوح المحفوظ . { فَحَمَلَتْهُ } وذلك أن جبرئيل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبسته ، وقيل : نفخ جبرئيل من بعيد نفخاً فوصل الريح إليها فحملت ، فلمّا حملت { فَٱنْتَبَذَتْ } خرجت وانفردت { مَكَاناً قَصِيّاً } بعيداً من أهلها من وراء الجبل ، ويقال اقصى الدار . قال الكلبي : قيل لابن عمّ لها يقال له يوسف : إن مريم حملت من الزنا لأن يقتلها الملك وكانت قد سميت له فأتاها فاحتملها ، فهرب بها ، فلما كان ببعض الطريق أراد يوسف ابن عمّها قتلها فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال له : إنّه من روح القدس فلا تقتلها ، فتركها ، ولم يقتلها فكان معها . واختلفوا في مدّة حملها ووقت وضعها ، فقال بعضهم : كان مقدار حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء ، ومنهم من قال : ثمانية أشهر وكان ذلك آية أُخرى لأنّه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غير عيسى ، وقيل : ستّة أشهر ، وقيل : ثلاث ساعات ، وقيل : ساعة واحدة . قال ابن عباس : ما هو إلاّ أن حملت فوضعت ولم يكن بين الحمل والانتباذ إّلا ساعة : لأنّ الله تعالى لم يذكر بينهما فصلاً . وقال مقاتل بن سليمان : حملته مريم في ساعة وصوّر في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها ، وهي بنت عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى . { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ } ألجأها وجاء بها المخاض ، وفي قراءة عبد الله آواها المخاض يعني الحمل ، وقيل : الطلق . { إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } وكانت نخلة يابسة في الصحراء في شدةّ الشتاء ولم يكن لها سعف . وروى هلال بن خبّاب عن أبي عبيد الله قال : كان جذعاً يابساً قد جيء به ليبنى به بيت يقال له بيت لحم . { قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } قرأ يحيى بن وتاب والأعمش وحمزة : نسياً بفتح النون ، والباقون بالكسر ، وهما لغتان مثل : الوَتر والوِتَر والحَجر والحِجر والجَسر والجِسر ، وهو الشيء المنسي . قال ابن عباس : يعني شيئاً متروكاً ، وقال قتادة : شيئاً لا يذكر ولا يعرف ، وقال عكرمة والضحاك ومجاهد : حيضة ملقاة . قال الربيع : هو السقط وقال مقاتل : يعني كالشىّ الهالك . قال عطاء بن أبي مسلم : يعني لم أُخلق ، وقال الفرّاء : هو ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها ، وقال أبو عبيد : هو ما نُسي واغفل من شئ حقير . قال الكميت : @ اتجعلنا جسراً لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل @@ أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا حاجب بن محمد قال : حدَّثنا محمد بن حمّاد قال : حدَّثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها قالت : لوددت أني إذا متُ كنت نسياً منسياً . { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي : من تحتها بكسر الميم وهو جبرئيل ( عليه السلام ) ناداها من سفح الجبل ، وقرأ الباقون من تحتها بفتح الميم وهو عيسى لما خرج من بطنها ناداها : { أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } قال الحسن : يعني عيسى كان والله عبداً سرياً أي رفيعاً ، وقال سائر المفسّرين : هو النهر الصغير ، وقيل معنى قوله سبحانه { تَحْتَكِ } إنّ الله تعالى جعل النهر تحت أمرها إن أمرته أن يجري جرى وإن أمرته بالإمساك أمسك ، كقوله عزّ وجلّ فيما أخبر عن فرعون { وَهَـٰذِه ِٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } [ الزخرف : 51 ] أي من تحت أمري ، قال ابن عباس : فضرب جبرئيل : ويقال عيسى : برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى وحييت النخلة بعد يبسها فأورقت وأثمرت وأرطبت ، وقيل لمريم { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ } أي حرّكي { بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } يقول العرب : هزّه وهزّ به كما يقال : خذ الخطام وخذ بالخطام ، وتعلّق بزيد وتعلق زيداً ، وخذ رأسه وخذ برأسه ، وامدد الحبل ، وامدد بالحبل ، والجذع : الغصن ، والجذع : النخلة نفسها . { تُسَاقِطْ } قرأ البراء بن عازب ويعقوب وأبو حاتم وحمّاد ونصير : يساقط بالياء ، وقرأ حفص تُساقِط بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف ، وقرأ الأعمش وحمزة وأبو عبيد : تَسّاقَط بفتح التاء والقاف وتشديد السين ، فمن أنَّث ردَّه إلى النخلة ومن ذكّر ردّه ألى الجذع والتشديد على الإدغام والتخفيف على الحذف . { رُطَباً جَنِيّاً } غصناً رطباً ساعة جُني . وقال الربيع بن خيثم : ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض من العسل . وقال عمرو بن ميمون : ما أدري للمرأة إذا عسُر عليها ولدها خير من الرطب لقول الله سبحانه { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } . وقالت عائشة رضي الله عنه : إنَّ من السنّة أن يمضغ التمر ويدلك به فم المولود ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمضغ التمر ويحنّك به أولاد الصحابة . { فَكُلِي } يا مريم من الرطب { وَٱشْرَبِي } من النهر { وَقَرِّي عَيْناً } وطيبي نفساً { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً } فسألك عن ولدكِ أو لامكِ عليه { فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } يقال : إنّ الله أمرها أن تقول هذا اشارة ويقال : أمرها أن تقوله نطقاً ثم تمسك عن الكلام بعد هذا . { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } يقال : كانت تكلّم الملائكة ولا تكلّم الإنس . { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } قال الكلبي : احتمل يوسف النجّار مريم وابنها عيسى ( عليه السلام ) إلى غار فأدخلهما فيه أربعين يوماً حتى تعالت من نفاسها ثم جاء بها { فَأَتَتْ } مريم { بِهِ } بعيسى تحمله بعد أربعين يوماً ، فكلّمها عيسى في الطريق فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه ، فلمّا دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا ، وكانوا أهل بيت صالحين . { قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } فظيعاً منكراً عظيماً ، قال أبو عبيدة : كل من عجب أو عمل فهو فري ، " قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه : فلم أر عبقرياً يفري فريه " أي يعمل عمله ، قال الراجز : @ قد أطعمتني دقلاً حوليا مسوسا مدوداً حجرياً @@ قد كنت تفرين به الفريا . أي كنت تكثيرن فيه القول وتعظمينه . { يٰأُخْتَ هَارُونَ } قال النبي صلى الله عليه وسلم " انّما عنوا هارون النبي اخا موسى لأنها كانت من نسله " . وقال قتادة وغيره : كان هارون رجلاً صالحاً من أتقياء بني إسرائيل وليس بهارون أخي موسى ، ذُكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون الفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل ، وقال المغيرة بن شعبة : قال لي أهل نجران قوله : { يٰأُخْتَ هَارُونَ } وقد كان بين موسى وعيسى من السنين ما قد كان ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى اللّه عليه وآله فقال : ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بالانبياء والصالحين من قبلهم . وقال الكلبي : كان هارون أخا مريم من أبيها ليس من أُمها وكان أمثل رجل في بني إسرائيل ، وقيل : إن هارون كان من أفسق بني إسرائيل وأظهرهم فساداً فشبّهوها به ، وعلى هذا القول الأُخت ها هنا بمعنى الشبه لا بمعنى النسبة ، والعرب تسمي شبه الشيء أُخته وأخاه ، قال الله سبحانه { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [ الزخرف : 48 ] أي شبهها . { مَا كَانَ أَبُوكِ } عمران { ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ } حنّة { بَغِيًّا } زانية فمن أين لك هذا الولد ؟ { فَأَشَارَتْ } مريم إلى عيسى أن كلّموه فقالوا { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } أي من هو في المهد وهو حجرها ، وقيل : هو المهد بعينه وقد كان حشواً للكلام ولا معنى له كقوله { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] أي أنتم خير أُمة وكقوله { هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] أي هل أنا ، وكقول الناس إن كنتَ صديقي فصلني ، قال زهير : @ أجرت عليه حرّة أرحبيّة وقد كان لون الليل مثل الأرندج @@ وقال الفرزدق : @ فكيف إذا رأيت ديار قومي وجيران لنا كانوا كرام @@ أي وجيران لنا كرام ، قال وهب : فأتاها زكريا عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى : انطق بحجّتك إن كنت أُمِرْتَ بها ، فقال عند ذلك وهو ابن أربعين يوماً . وقال مقاتل : هو يوم ولد . { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } فأقرّ على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم تكذيباً للنصارى وإلزاماً للحجة عليهم . قال عمرو بن ميمون : إن مريم لما أتت قومها بعيسى اخذوا لها الحجارة ليرموها فلمّا تكلّم عيسى تركوها ، قالوا : ثم لم يتكلّم عيسى بعد هذا حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خمسة تكلّموا قبل إباّن الكلام : شاهد يوسف ، وولد ماشطة بنت فرعون ، وعيسى ، وصاحب جريح ، وولد المرأة التي أحرقت في الأُخدود . فأمّا شاهد يوسف فقد مرَّ ذكره ، وأمّا ولد الماشطة ، فأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال : حدَّثنا داود بن سليمان قال : حدَّثنا عبد بن حميد قال : حدَّثنا الحسن بن موسى قال : حدَّثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أُسري به مرّت به رائحة طيبة فقال : يا جبرئيل ما هذه الرائحة ؟ قال : ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فوقع المشط من يدها ، فقالت : بسم الله ، فقالت ابنته : أبي ؟ فقالت : لا بل ربّي وربّك وربّ أبيك . فقالت : أخبر بذلك أبي قالت : نعم ، فأخبرته فدعا بها فقال : من ربّك ؟ قالت : ربّي ورّبك في السماء ، فأمر فرعون ببقرة من نحاس فأُحميت فدعا بها وبولدها فقالت : إن لي إليك حاجة قال : ما هي ؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها جميعاً فقال : ذلك لك علينا من الحق ، فأمر بأولادها فألقى واحداً واحداً حتى إذا كان آخر ولدها وكان صبيّا مرضعاً فقال : اصبري يا أُماه فإنّا على الحق ، قال : ثم أُلقيت مع ولدها " . وأمّا صاحب جريح فأخبرنا عبد الله بن حامد الاصبهاني قال : أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني قال : حدَّثنا أحمد بن الخليل قال : حدَّثنا يونس بن محمد المؤدب ، قال : حدَّثنا الليث ابن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرنا عبد الله [ بن حامد ] قال : أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال : حدَّثنا راشد بن سليمان قال : حدَّثنا عبد بن حميد قال : حدَّثنا هاشم بن القاسم قال : حدَّثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنّ رجلاً يقال له جريح كان راهباً يتعبّد في صومعته فأتته أُمّه لتسلّم عليه فنادته : يا جريح اطلع إليّ انظر إليك ، فوافقته يصلّي فقال : أُمّي وصلاتي لرّبي ، أُوثر صلاتي لربّي على أُمّي ، فانصرفت ثم جاءت الثانية فنادته : يا جريح كلّمني فوافقته يصلّي فاختار صلاته ، ثمّ جاءته الثالثة فاختار صلاته فقالت : إنّه أبى أن يكلّمني ، اللهمّ لا تمته حتى تنظر في وجهه زواني المدينة ، قال : ولو دعت عليه أن يفتن لفتن " . قال : وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره ، فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلاماً فقيل لها : ممّن هذا ؟ فقالت : من صاحب الصومعة ، فأتوه وهدّموا صومعته وانطلقوا به إلى ملكهم ، فلمّا مرَّ على حوانيت الزواني خرجن ، فتبسم وعرف أنّه دعاء أُمّه ، فقالوا : لم يضحك حين مرَّ على الزواني ؟ فلمّا أُدخل على ملكهم قال جريح : أين الصبي الذي ولدت ؟ فأتي به فقال له جريح : مَنْ أبوك ؟ قال : أبي فلان الراعي ، فابرأ الله سبحانه جريحاً وأعظمه الناس ، وقالوا : نبني لك ديرك بالذهب والفضة قال : لا ولكن أعيدوه كما كان ، ثمّ علاه . وأمّا ولد صاحبة الأُخدود فسنذكرها في موضعها إن شاء الله . { آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ } يعني يؤتيني الكتاب لفظه ماض ومعناه مستقبل ، وقيل : إنه أخبر عمّا كتب له في اللوح المحفوظ كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم متى كُتبتَ نبياً ؟ قال : " كُتبتُ نبياً وآدم بين الروح والجسد " . وقيل : معناه علمني وألهمني التوراة في بطن أُمّي . { وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً } معلماً للخير { أَيْنَ مَا كُنتُ } وقيل : مباركاً على من اتّبع ديني وأمري { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً } أي وجعلني براً { بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } . أخبرنا شعيب بن محمد البيهقي وعبد الله بن حامد قالا : أخبرنا مكّي بن عبدان ، قال : حدَّثنا أحمد بن الأزهر قال : حدَّثنا روح بن عبادة قال : حدَّثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا ان امرأة رأت عيسى ابن مريم يُحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات أذن اللّه له فيهنّ فقالت : طوبى للبطن الذي حملك والثدي الذي أُرضعت به ، فقال ابن مريم يجيبها : طوبى لمن تلا كتاب الله واتّبع ما فيه ولم يكن جباراً شقيّاً ، وكان يقول : سلوني فإنّ قلبي ليَّن وإنيّ صغير في نفسي ، ممّا أعطاه الله سبحانه من التواضع . { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ } يعني هو قول الحق ، وقيل : رفع على التكرير يعني ذلك عيسى ابن مريم وذلك قول الحق ، وقيل : هو نعت لعيسى يعني ذلك عيسى بن مريم كلمة الله ، والحق هو الله سبحانه . وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب قول بالنصب يعني قال قول الحق { ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ } يشكّون ويقولون غير الحق ، فقالت اليهود : ساحر كذّاب ، وقالت النصارى : ابن الله وثالث ثلاثة ، ثمّ كذّبهم فقال : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } أي ما كان من صفته اتّخاذ الولد ، وقيل : اللام منقولة يعني ما كان الله ليتخذ من ولد { سُبْحَانَهُ } نزّه نفسه { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً } كان في علمه { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ ٱللَّهَ } يعني وقضى أن الله ، وقرأ أهل الكوفة إنّ الله بالكسر على الاستيناف { رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا } الذي ذكرت { صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } يعني النصارى ، وانّما سمّوا أحزاباً لأنهّم تجزأوا ثلاث فرق في أمر عيسى : النسطورية والملكانيّة والمار يعقوبية . { فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني يوم القيامة { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } يعني ما أسمعهم وأبصرهم ، على التعجّب ، وذلك أنهم سمعوا يوم القيامة حين لم ينفعهم السمع ، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر . قال الكلبي : لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر حين يقول الله سبحانه وتعالى لعيسى { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } الآية [ المائدة : 116 ] . { يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } أي فرغ من الحساب وأُدخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار وذبح الموت { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } من الدنيا . أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال : أخبرنا مكّي بن عبدان قال : حدَّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : " يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنّة والنار فيقال : يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبّون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت فيؤمر به فيذبح ثمّ ينادي المنادي : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى زنهم " ، ثمَّ قرأ رسول الله صلى اللّه عليه وسلم { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } وأشار بيده في الدنيا . قال مقاتل : لولا ما قضى الله سبحانه وتعالى من تخليد أهل النار وتعميرهم فيها لماتوا حسرة حين رأوا ذلك . { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } أي نميتهم ويبقى الرب عزّ وجلّ فيرثهم . { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } فنجزيهم بأعمالهم .