Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 1-7)
Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { الۤمۤ } : اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور ، فذهب كثير منهم إلى أنّها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها ، فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها . قال أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) : في كل كتاب سر ، وسر القرآن أوائل السور . وقال علي بن أبي طالب عليه السلام : إنّ لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي . وفسّره الآخرون ، فقال سعيد بن جبير : هي أسماء الله مقطّعة ، لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم ، ألا ترى أنّك تقول : { الۤرَ } [ الحِجر : 1 ] وتقول : { حمۤ } [ الدُخان : 1 ] وتقول : { نۤ } [ القلم : 1 ] فيكون الرحمن ، وكذلك سائرها على هذا الوجه ، إلاّ أنّا لا نقدر على وصلها والجمع بينها . وقال قتادة : هي أسماء القرآن . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي أسماء للسور المفتتحة بها . وقال ابن عباس : هي أقسام أقسم الله بها ، وروي أنّه ثناء أثنى الله به على نفسه . وقال أبو العالية : ليس منها حرف إلاّ وهو مفتاح لإسم من أسماء الله عز وجل ، وليس منها حرف إلاّ وهو في الآية وبلائه ، وليس منها حرف إلاّ في مدّة قوم وآجال آخرين . وقال عبد العزيز بن يحيى : معنى هذه الحروف أنّ الله ذكرها ، فقال : اسمعوها مقطعة ، حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك ، وكذلك تعلم الصبيان أولا مقطعة ، وكان الله أسمعهم مقطعة مفردة ، ليعرفوها إذا وردت عليهم ، ثم أسمعهم مؤلّفة . وقال أبو روق : إنّها تكتب للكفار ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها ، وكان المشركون يقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . فربما صفّقوا وربما صفّروا وربما لفظوا ليغلّطوا النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا رأى رسول الله ذلك أسرَّ في الظهر والعصر وجهر في سائرها ، وكانوا يضايقونه ويؤذونه ، فأنزل الله تعالى هذه الحروف المقطعة ، فلمّا سمعوها بقوا متحيرين متفكّرين ، فاشتغلوا بذلك عن إيذائه وتغليطه ، فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً إلى انتفاعهم . وقال الأخفش : إنّما أقسم الله بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ، ولأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسن المختلفة ، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وأصول كلام الأُمم بما يتعارفون ويذكرون الله ويوحّدونه ، وكأنّه أقسم بهذه الحروف إنّ القرآن كتابه وكلامه لا ريب فيه . وقال النقيب : هي النبهة والاستئناف ليعلم أنّ الكلام الأول قد انقطع ، كقولك : ولا إنّ زيداً ذهب . وأحسن الأقاويل فيه وأمتنها أنّها إظهار لإعجاز القرآن وصدق محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك أنّ كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين . والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه كقوله تعالى : { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَْ } [ المرسلات : 48 ] أي صلّوا لا يصلّون ، وقوله : { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } [ العلق : 19 ] فعبر بالركوع والسجود عن الصلاة إذ كانا من أركانها ، وقال : { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [ آل عمران : 182 ] أراد جميع أبدانكم . وقال : { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } [ القلم : 16 ] أي الأنف فعبّر باليد عن الجسد ، وبالأنف عن الوجه . وقال الشاعر في امرأته : @ لما رأيت امرها في خطي وفنكت في كذب ولط أخذت منها بقرون شمط فلم يزل ضربي بها ومعطي @@ فعبّر بلفظة " خطي " عن جملة حروف أبجد . ويقول القائل : ( أ ب ت ث ) وهو لا يريد هذه الأربعة الأحرف دون غيرها ، بل يريد جميعها وقرأت الحمد لله ، وهو يريد جميع السورة ، ونحوها كثير ، وكذلك عبّر الله بهذه الحروف عن جملة حروف التهجّي ، والإشارة فيه أنّ الله تعالى نبّه العرب وتحدّاهم ، فقال : إنّي قد نزّلت هذا الكتاب من جملة الثمانية والعشرين التي هي لغتكم ولسانكم ، وعليها مباني كلامكم ، فإن كان محمد هو النبي يقوله من تلقاء نفسه ، فأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله ، فلمّا عجزوا عن ذلك بعد الإجهاد ثبت أنّه معجزة . هذا قول المبرّد وجماعة من أهل المعاني ، فإن قيل : فهل يكون حرفاً واحداً عوداً للمعنى ؟ وهل تجدون في كلام العرب أنْ يقال : الم زيد قائم ؟ وحم عمرو ذاهب ؟ قلنا : نعم ، هذا عادة العرب يشيرون بلفظ واحد إلى جميع الحروف ويعبّرون به عنه . قال الراجز : @ قلت لها قفي فقالت قاف لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف @@ أي قف أنت . وأنشد سيبويه لغيلان : @ نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعاً كلّهم ألا فا @@ أي لا تركبون فقالوا : ألا فاركبوا . وأنشد قطرب في جارية : @ قد وعدتني أم عمرو أن تا تدهن رأسي وتفليني تا أراد أن تأتي وتمسح @@ وأنشد الزجّاج : @ بالخير خيرات وإن شرّاً فا ولا أريد الشرّ إلاّ أن تا @@ أراد بقوله ( فا ) : وإن شراً فشر له ، وبقوله : تا إلا أن تشاء . قال الأخفش : هذه الحروف ساكنة لأنّ حروف الهجاء لا تعرب ، بل توقف على كلّ حرف على نيّة السكت ، ولا بدّ أن تفصل بالعدد في قولهم واحد اثنان ثلاثة أربعة . قال أبو النجم : @ أقبلت من عند زياد كالخرف تخط رجلاي بخط مختلف @@ تكتبان في الطريق لام الألف فإذا أدخلت حرفاً من حروف العطف حركتها . وأنشد أبو عبيدة : @ إذا اجتمعوا على ألف وواو وياء هاج بينهم جدال @@ وهذه الحروف تُذكّر على اللفظ وتؤنّث على توهم الكلمة . قال كعب الأحبار : خلق الله العلم من نور أخضر ، ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفاً من أصل الكلام ، وهيّأها بالصوت الذي سمع وينطق به ، فنطق بها العلم فكان أوّل ذلك كلّه ( … ) فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربّها تعالى ، وتمايلت هيبة له ، فسجدت فصارت همزة ، فلمّا رأى الله تعالى تواضعها مدّها وطوّلها وفضّلها ، فصارت ألفاً ، فتلفظه بها ، ثم جعل القلم ينطق حرفاً حرفاً إلى ثمانية وعشرين حرفاً ، فجعلها مدار الكلام والكتب والأصوات واللغات والعبادات كلّها إلى يوم القيامة ، وجميعها كلّها في أبجد . وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول أسمائه ، ومقدّماً على الحروف كلّها ، فأمّا قوله عزّ وجلّ : { الۤمۤ } فقد اختلف العلماء في تفسيرها . عطاء بن السايب عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : { الۤمۤ } قال : أنا الله أعلم . أبو روق عن الضحاك في قوله { الۤمۤ } : أنا الله أعلم . مجاهد وقتادة : { الۤمۤ } اسم من أسماء القرآن . الربيع بن أنس : ( ألف ) مفتاح اسم الله ، و ( لام ) مفتاح اسمه لطيف ، و ( ميم ) مفتاح اسمه مجيد . خالد عن عكرمة قال : { الۤمۤ } قسم . محمد بن كعب : ( الألف ) آلاء الله ، و ( اللام ) لطفه ، و ( الميم ) ملكه . وفي بعض الروايات عن ابن عباس : ( الألف ) الله ، و ( اللام ) جبرئيل ، أقسم الله بهم إنّ هذا الكتاب لا ريب فيه ، ويحتمل أن يكون معناه على هذا التأويل : أنزل الله هذا الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم . وقال أهل الإشارة : ( ألف ) : أنا ، ( لام ) : لي ، ( ميم ) : منّي . وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر الصادق ، وقد سئل عن قوله : { الۤمۤ } فقال : في الألف ست صفات من صفات الله : الابتداء ؛ لأنّ الله تعالى ابتدأ جميع الخلق ، و ( الألف ) . إبتداء الحروف ، والاستواء : فهو عادل غير جائر ، و ( الألف ) مستو في ذاته ، والانفراد : والله فرد والألف فرد ، وإتصال الخلق بالله ، والله لا يتصل بالخلق ، فهم يحتاجون إليه وله غنىً عنهم . وكذلك الألف لا يتصل بحرف ، فالحروف متصلة : وهو منقطع عن غيره ، والله باينَ بجميع صفاته من خلقه ، ومعناه من الإلفة ، فكما أنّ الله سبب إلفة الخلق ، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب إلفتها . وقالت الحكماء : عجز عقول الخلق في ابتداء خطابه ، وهو محل الفهم ، ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلاّ بعلمهم ، فالعجز عن معرفة الله حقيقة خطابه . وأما محل { الۤمۤ } من الإعراب فرفع بالابتداء وخبره فيما بعده . وقيل : { الۤمۤ } ابتداء ، و { ذَلِكَ } ابتداء آخر و { ٱلْكِتَابُ } خبره ، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول . { ذَلِكَ } : قرأت العامة { ذلك } بفتح الذال ، وكذلك هذه وهاتان ، وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه ، ( ذ ) للاسم ، واللام عماد ، والكاف خطاب ، وهو إشارة إلى الغائب . و { ٱلْكِتَابُ } : بمعنى المكتوب كالحساب والعماد . قال الشاعر : @ بشرت عيالي إذ رأيت صحيفةً أتتك من الحجج تتلى كتابها @@ أو مكتوبها ، فوضع المصدر موضع الاسم ، كما يقال للمخلوق خلق ، وللمصور تصوير ، وقال : دراهم من ضرب الأمير ، أي هي مضروبة ، وأصله من الكتب ، وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض ، مأخوذ من قولهم : كتب الخرز ، إذا خرزته قسمين ، ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب . قال ذو المرّجة : @ وفراء غرفية أثاي خوارزها مشلشل ضيعته فبينها الكتب @@ ويقال : كتبت البغل ، إذا حرمت من سفرتها الخلقة ، ومنه قيل للجند كتيبة ، وجمعها كتائب . قال الشاعر : @ وكتيبة جاءوا ترفل في الحديد لها ذخرٌ @@ واختلفوا في هذا { ٱلْكِتَابُ } قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل : هو القرآن ، وعلى هذا القول يكون ( ذلك ) بمعنى ( هذا ) كقول الله تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ } [ الأنعام : 83 ] أي هذه . وقال خفاف بن ندبه السلمي : @ إن تك خيلي قد أُصيب صميمها فعمداَ على عين تيممت مالكا أقول له الرمح يأطر متنه تأمل خفافاً إنني أنا ذالكا @@ يريد ( هذا ) . وروى أبو الضحى عن ابن عباس قال : معناه ذلك الكتاب الذي أخبرتك أن أوجّه إليك . وقال عطاء بن السائب : { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } الذي وعدتكم يوم الميثاق . وقال يمان بن رئاب : { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } الذي ذكرته في التوراة والإنجيل . وقال سعيد بن جبير : هو اللوح المحفوظ . عكرمة : هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدمّة . وقال الفراء : إنّ الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يَخْلَق على كثرة الردّ ، فلمّا أنزل القرآن قال : هو الكتاب الذي وعدتك . وقال ابن كيسان : تأويله أنّ الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة كذّب بكلهّا المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال : { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } يعني ما تقدم البقرة من القرآن . وقيل : ذلك الكتاب الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي . { لاَ رَيْبَ فِيهِ } : لا شكّ فيه ، إنّه من عند الله . قال : { هُدَى } : أي هو هدىً ، وتم الكلام عند قوله فيه ، وقيل : " هو " نصب على الحال ، أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين . قال أهل المعاني : ظاهره نفي وباطنه نهي ، أي لا ترتابوا فيه ، كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } [ البقرة : 197 ] : أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى ، والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان . فصل في التقوى { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } : اعلم أنّ التقوى أصله وقى من وقيت ، فجعلت الواو تاء ، كالتكلان فأصله وكلان من وكلت ، والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ . واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جماع التقوى في قول الله تعالى : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ … } الآية " [ النحل : 90 ] . قال ابن عباس : المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش . وقال ابن عمر : التقوى أن لا يرى [ نفسه ] خيراً من أحد . وقال الحسن : المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خيرٌ مني . وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار : حدِّثني عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شوك ؟ قال : نعم ، وقال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت وتشمّرت ، فقال كعب : ذلك التقوى ، ونظمه ابن المعتز فقال : @ خلّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واضع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحتقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصا @@ وقال عمر بن عبد العزيز : ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله ، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير . وقيل لطلق بن حبيب : أجمل لنا التقوى ؟ فقال : التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله ، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله . وقال بكر بن عبد الله : لا يكون الرجل تقياً حتى يكون يتقي الطمع ، ويتقي الغضب . وقال عمر بن عبد العزيز : المتقي لمحرم لا تحرم ، يعني في الحرم . وقال شهر بن حوشب : المتقي الذي يترك مالا يأتمن به حذراً لما به بأس . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : إنّما سمي المتقون ؟ لتركهم ما لا بأس به حذراً للوقوع فيما به بأس . وقال سفيان الثوري والفضيل : هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه . وقال الجنيد بن محمد : ليس المتقي الذي يحب للناس ما يحب لنفسه ، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه ، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس ؟ سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه ، وهو عابس لم يبشَّ له ، فقلت له في ذلك فقال : بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة ، فتسعون لأجلهما ، وعشرة للآخر فأحببت أنْ يكون له التسعون . محمد بن علي الترمذي : هو الذي لا خصم له . السري بن المفلّس : هو الذي يبغض نفسه . الشبلي : هو الذي يبغي ما دون الله . قال جعفر الصادق : أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد : @ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل @@ الثوري : هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها . محمد بن يوسف المقري : مجانبة كل ما يبعدك عن الله . القاسم بن القاسم : المحافظة على آداب الشريعة . وقال أبو زيد : هو التورّع عن جميع الشبهات . وقال أيضاً : المتقي من إذا قال قال لله ، وإذا سكت سكت لله ، وإذا ذكر ذكر لله تعالى . الفضيل : يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه . وقال سهل : المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته . وقال : التقوى أنْ لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك من حيث أمرك . وقيل : هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات ، وبنفسك من الشهوات ، وبحلقك من اللذات ، وبجوارحك من السيئات ، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسماوات . أبو القاسم ( حكيم ) : هو حسن الخلق . وقال بعضهم : يستدل على تقوى الرجل بثلاث : بحسن التوكّل فيما لم ينل ، وحسن الرضا فيما قد نال ، وحسن الصبر على ما فات . وقيل : المتقي من اتّقى متابعة هواه . وقال مالك : حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها : الصبر عند البلاء ، والرضا بالقضاء ، والشكر عند النعمة ، والتذلل لأحكام القرآن . وقال ميمون بن مهران : لا يكون الرجل تقياً حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر . وقال أبو تراب : بين يدي التقوى عقبات ، من لا يجاوزها لا ينالها ، اختيار الشدة على النعمة ، واختيار القول على الفضول ، واختيار الذلّ على العزّ ، واختيار الجهد على الراحة ، واختيار الموت على الحياة . وقال بعض الحكماء : لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلاّ إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق ، فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها . وقيل : التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ ، كما تزيّن علانيتك للخلق . وقال أبو الدرداء : @ يريد المرء أنْ يعطى مناه ويأبى الله إلاّ ما أرادا يقول المرء فائدتي وذخري وتقوى الله أفضل ما استفادا @@ فصل في الإيمان { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } اعلم أنّ حقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب ، لأن الخطاب الذي توجّه عليها بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب ، ولم يكن العرب يعرفون الإيمان غير التصديق ، والنقل في اللغة لم يثبت فيه ، إذ لو صح النقل عن اللغة لروي عن ذلك ، كما روي في الصلاة التي أصلها الدعاء . إذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم ، كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السلام وبنيه { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] : أي بمصدق لنا ولو كنّا صادقين ، ويدل عليه من هذه الآية أنّه لما ذكر الإيمان علّقه بالغيب ، ليعلم أنّه تصديق الخبر فيما أخبر به من الغيب ، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات اللازمة للأبدان وفي الأموال فقال : { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } والدليل عليه أيضاً أنّ الله تعالى حيث ما ذكر الإيمان [ نسبه ] إلى القلب فقال : { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [ المائدة : 41 ] ، وقال : { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } [ النحل : 106 ] ، وقال : { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] ، ونحوها كثير . فأما محل الإسلام من الإيمان فهو كمحل الشمس من الضوء : كل شمس ضوء ، وليس كل ضوء شمساً ، وكل مسك طيب ، وليس كل طيب مسكاً ، كذلك كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً ، إذا لم يكن تصديقاً ؛ لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع ، يدل عليه قوله تعالى : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] من خوف السيف ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإيمان سراً " وأشار إلى صدره " والإسلام علانية " ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يا معشر من أسلم بلسانه ، ولم يدخل الإيمان في قلبه " . وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في الإسلام والإيمان ، فأجاب في الإيمان بالتصديق ، وفي الإسلام بشرائع الإيمان ، وهو ما روى أبو بريده ، وهو يحيى بن معمر قال : أول من قال في القدر بالبصرة سعيد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هو : ما في القدر ؟ فوافقنا عبد الله ابن عمر بن الخطاب داخلا المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي ، فقلت : أبا عبد الرحمن ، إنّه قد ظهر قبلنا أناس يقرأون القرآن ويفتقرون [ إلى ] العلم وذكر من لسانهم أنّهم يزعمون أن لا قدر ، وأنّ الأمر أنفٌ ، فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنّهم برءاء مني ، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحد ذَهَباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر . ثم قال : أخبرنا أبي عمر بن الخطاب قال : " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بيّاض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبته إلى ركبته ، ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " ، قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأله ويصدّقه قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " . قال : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك " ، قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال : " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " ، قال : فأخبرني عن إماراتها ؟ قال : " أن تلد الأَمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان " ، قال : ثم انطلق ، فلبث علينا ثم قال : يا عمر من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : " فإنّه جبرائيل عليه السلام أتاكم ليعلمكم دينكم " . ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال الأبدان إيماناً بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة ؛ لأنها من شرائعه وتوابعه وعلاماته وإماراته كما نقول : رأيت الفرح في وجه فلان ، ورأيت علم زيد في تصنيفه ؛ وإنّما الفرح والعلم في القلب ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون باباً ، أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله " . وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان " . الحسن بن علي قال : حدثني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرارٌ باللسان ، وعمل بالأركان " . وعن علي بن الحسين زين العابدين قال : حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال : حدثنا أبي سيد الأوصياء قال : حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال : " الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول " . وامّا الغيب فهو ما كان مغيّباً عن العيون محصّلاً في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب ، كما قيل للصائم : صوم ، وللزائر : زَور ، وللعادل : عدل . الربيع بن أبي العالية { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قال : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث ، فهذا غيب كلّه . عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح : { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قال : بالله ، من آمن بالله فقد آمن بالغيب . سفيان عن عاصم بن أبي النجود في قوله { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قال : الغيب : القرآن . وقال الكلبي : بما نزل من القرآن وبما لم يجىء بعد . الضحاك : الغيب لا إله إلاّ الله وما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم وقال زرّ بن حبيش وابن جريج وابن واقد : يعني بالوحي ، نظيره قوله تعالى : { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } [ النجم : 35 ] وقوله : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } [ الجن : 26 ] وقوله : { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ } [ التكوير : 24 ] . الحسن : يعني بالآخرة . عبد الله بن هاني : هو ما غاب عنهم من علوم القرآن . وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) انه قال : " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فقال : " أتدرون أي أهل الأيمان أفضل ؟ " قالوا : يا رسول الله الملائكة ، قال : " هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله تعالى بالمنزلة التي أنزلهم ، بل غيرهم " . قلنا : يا رسول الله الأنبياء ؟ قال : " هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم ، بل غيرهم " ، قلنا : يا رسول الله فمن هم ؟ قال : " أقوام يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني ، يجدون الورق المعلَّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً " . وروى حسن إن الحرث بن قيس عن عبد الله بن مسعود : عند الله يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن مسعود : نحن عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم تروه ، ثم قال عبد الله : إنّ أمر محمد كان بيّناً لمن رآه والذي لا اله الاّ هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب ، ثمّ قرأ : { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها وسجودها وحقوقها وحدودها ، وكل من واظب على شيء وقام به فهو مقيم له يقال أقام فلان الحجّ بالناس ، وأقام القوم [ سوقهم ] ولم يعطلوها قال الشاعر : @ فلا تعجل بأمرك واستدمه فما صلّى عصاك [ كمستديم ] @@ أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس ، فذكرها بلفظ الواحد ، كقوله : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } أراد الكتب [ البقرة : 213 ] ، وأصل الصلاة في اللغة : الدّعاء ، ثمّ ضمّت إليها [ عبادة ] سُميت مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدّعاء . وقال أبو حاتم الخارزمي : اشتقاقها من الصِلا وهو النار ، فأصله من الرفق وحُسن المعاناة للشيء ؛ وذلك إنّ الخشبة المعْوّجة إذا أرادوا تقويمها [ سحنوها بالنار ] قوموها [ بين خشبتين ] فلذلك المصلّي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهراً وباطناً ولا يعجّل فيها ولا يخفّ [ ولا يعرف ] قال الشاعر : @ فلا تعجّل بأمرك واستدمه فما صلّى عصاك كمستديم @@ أي ما قوّم أمرك كالمباني . { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أعطيناهم ، والرزق عند أهل السنّة : ما صحّ الإنتفاع به ، فإن كان طعاماً فليتغدّى به ، وان كان لباساً فلينقى والتوقي ، وإن كان مسكناً فللانتفاع به سكنى ، وقد ينتفع المنتفع بما هيّئ الانتفاع به على الوجهين : حلالا وحراماً ، فلذلك قُلنا إنّ الله رزق الحلال والحرام ، [ وأصل الرزق ] في اللغة : هو الحظ والبخت . { يُنْفِقُونَ } يتصدقون ، وأصل الإنفاق : الإخراج عن اليد أو عن الملك . يُقال : نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه ، ونفقت الدآبة إذا خرجت روحها ، ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه ، والنفق : سُرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر يخرج إليه . { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } : أي يصدّقون { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } : يا محمد يعني القرآن { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } : يعني الكتب المتقدمة مثل صحف إبراهيم وموسى والزّبور والأنجيل وغيرها . { وَبِٱلآخِرَةِ } أي بالدار الآخرة ، وسميّت آخرة لأنّها تكون بعد الدُّنيا ولأنّها أُخّرت حتى تفنى الدنيا ثم تكون . { هُمْ يُوقِنُونَ } يعلمون ويتيقّنون أنها كائنة ، ودخل ( هم ) تأكيداً ، يُسمّيه الكوفيون عماداً والبصريون فصلا . { أُوْلَـٰئِكَ } أهل هذه الصفة ، وأولاء : أسم مبني على الكسر ، ولا واحد لهُ من لفظه ، والكاف خطاب ، ومحل أولئك رفع بالابتداء وخبره في قوله : { عَلَىٰ هُدًى } رشد وبيان وصواب . { مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ } ابتدائان و { هُمُ } عماد { ٱلْمُفْلِحُونَ } خبر الابتداء وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنّة ونجوا من النار ، وقيل : هم الباقون في الثواب والنعيم المقيم . وأصل الفلاح في اللغة : البقاء . قال لبيد : @ نحلُّ بلادا كلها حل قبلنا ونرجو فلاحاً بعد عاد وحمير @@ وقال آخر : @ لو كان حي مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرماح أبو براء يدرة المسياح @@ وقال مجاهد : أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين ، وآيتان بعدهما نزلت في الكافرين ، وثلاث عشرة آيةً بعدها نزلت في المنافقين . { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } : يعني مشركي العرب ، وقال الضحّاك : نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته . وقال الكلبي : يعني اليهود ، وقيل : المنافقون . والكفر : هو الجحود والإنكار . وأصله من الكفر وهو التغطية والسّتر ، ومنه قيل للحراث : كافر ؛ لأنّه [ يستر البذر ] ، قال الله تعالى : { أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [ الحديد : 20 ] : يعني الزرّاع ، وقيل للبحر : كافر ، ولليل : كافر . قال لبيد : @ حتى إذا ألقت يداً في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها في ليلة كفر النجوم غمامها @@ ومنه : المتكفّر بالسلاح ، وهو الشاكي الذي غطّى السلاح جميع بدنه . فيسمى الكافر كافراً لأنه ساترللحق ولتوحيد الله ونعمه ولنبوّة أنبيائه . { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ } : أي واحد عليهم ومتساوي لديهم ، وهو اسم مشتق من التساوي . { أَأَنذَرْتَهُمْ } : أخوّفتهم وحذّرتهم . قال أهل المعاني : الإنذار والإعلام مع تحذير ، يُقال : أنذرتهم فنذروا ، أي أعلمتهم فعلموا ، وفي المثل : وقد أُعذر من أنذر ، وفي قوله : { أَأَنذَرْتَهُمْ } وأخواتها أربع قراءات : تحقيق الهمزتين وهي لغة تميم وقراءة أهل الكوفة ؛ لأنها ألف الإستفهام دخلت على ألف القطع وحذف الهمزة التي وصلت بفاء الفعل وتعويض مده منها كراهة الجمع بين الهمزتين وهي لغة أهل الحجاز ، وادخال ألف بين الهمزتين وهي قراءة أهل الشام في رواية هشام وإحدى الروايتين عن أبي عمرو . قال الشاعر : @ تطاولت فاستشرقت قرابته فقلن له : أأنت زيد لا بل قمر @@ والأخبار اكتفاء بجواب الإستفهام ، وهي قراءة الزهري . { أَمْ } : حرف عطف على الإستفهام . { لَمْ } : حرف جزم لا يلي إلاّ الفصل ؛ لأنّ الجزم مختص بالأفعال . { تُنْذِرْهُمْ } : تحذرهم { لاَ يُؤْمِنُونَ } وهذه الآية خاصّة فيمن حقّت عليه كلمة العذاب في سابق علم الله ، وظاهرها إنشاء ومعناها إخبار ، ثمّ ذكر سبب تركهم للإيمان فقال : { خَتَمَ ٱللَّهُ } : أي طبع { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } والختم والطبع بمعنى واحد وهما التغطية للشيء [ والاستيثاق ] من أن يدخله شيء آخر . فمعنى الآية : طبع الله على قلوبهم وأغلقها وأقفلها فليست تعي خبراً ولا تفهمه . يدل عليه قوله : { أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] . وقال بعضهم : معنى الطبع والختم : حكم الله عليهم بالكفر والشقاوة كما يُقال للرجل : ختمت عليك أن لا تفلح أبداً . { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } : فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به ، وإنما وحّده لأنه مصدر ، والمصادر لا تُثنّى ولا تجمع ، وقيل : أراد سمع كل واحد منهم كما يُقال : آتني برأس كبشين ، أراد برأس كل واحد منهما ، قال الشاعر : @ كلوا في نصف بطنكم تعيشوا فإن زمانكم زمن خميص @@ وقال سيبويه : توحيد السمع يدل على الجمع لأنه لا توحيد جمعين كقوله تعالى : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] يعني الأنوار . قال الراعي : @ بها جيف الحسري فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب @@ وقرأ ابن عبلة : وعلى أسماعهم ، وتم الكلام عند قوله { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } . ثم قال : { وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ } : أي غطاء وحجاب ، فلا يرون الحق ، ومنه غاشية السرج ، وقرأ المفضل بن محمد الضبي : { غِشَاوَةٌ } بالنصب كأنّه أضمر له فعلا أو جملة على الختم : أي وختم على أبصارهم غشاوة . يدل عليه قوله تعالى : { وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] . وقرأ الحسن : { غُشَاوَةٌ } بضم الغين ، وقرأ الخدري : { غَشَاوَةٌ } بفتح الغين ، وقرأ أصحاب عبد الله : غشوة بفتح الغين من غير ألف . { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } : القتل والأسر في الدنيا ، والعذاب الأليم في العقبى ، والعذاب كلّ ما يعنّي الإنسان ويشقّ عليه ، ومنه : عذّبه السواط ما فيها من وجود الألم ، وقال الخليل : العذاب ما يمنع الانسان من مراده ، ومنه : الماء العذب لأنه يمنع من العطش ، ثم نزلت في المنافقين : عبد الله بن أُبي بن سلول الخزرجي ، ومعتب بن بشر ، وجدّ بن قيس وأصحابهم حين قالوا : تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونكون مع ذلك مستمسكين بديننا ، فأجمعوا على أن يقرّوا كلمة الإيمان بألسنتهم واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود . فقال الله : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ … } .