Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 1-11)

Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ الۤـمۤ * أَحَسِبَ } أظن وأصله من الحساب { ٱلنَّاسُ } يعني الذين جزعوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين { أَن يُتْرَكُوۤاْ } بغير اختبار ولا ابتلاء بأن قالوا : { آمَنَّا } كلا لنختبرنهم لنتبين الصادق من الكاذب ، ( إن ) الأولى منصوبة بـ { أَحَسِبَت } والثانية خفض بنزع الخافض ، أي لأن يقولوا ، والعرب لا تقول : تركت فلاناً أن يذهب ، إنّما تقول : تركته يذهب ، معه جوابان : أحدهما يشتركوا لأن يقولوا ، والثاني : على التكرير تقديره : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ } أحسبوا { أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } لا يبتلون ليظهر المخلص من المنافق ، وقيل : { يُفْتَنُونَ } يصابون بشدائد الدنيا ، يعني : أنّ البلاء لا يدفع عنهم في الدنيا لقولهم : { آمَنَّا } . واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فقال ابن جريج وابن عمير : نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذّب في الله . وقال الشعبي : نزلت هاتان الآيتان في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إنّه لا يقبل منكم إقرار بإسلام حتى تهاجروا ، فخرجوا عائدين إلى المدينة ، فاتبعهم المشركون فردوهم ، فنزلت فيهم هذه الآية ، فكتبوا إليهم إنّه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا ، فقالوا : نخرج ، فإن اتبعنا أحد قاتلناه . فخرجوا ، فاتبعهم المشركون ، فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا ، فأنزل الله سبحانه فيهم هاتين الآيتين ، وقال مقاتل : نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل يوم بدر رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يومئذ سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة " ، فجزع عليه أبواه وامرأته ، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية وأخبر أنّه لابد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله تعالى ، وقيل : { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } بالأوامر والنواهي . ثم عزّاهم ، فقال عز من قائل : { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } والله تعالى عالم بهم قبل الإختبار ، وعلمه قديم تام ، وإنّما معنى ذلك : فليظهرنّ الله تعالى ذلك حتّى يوجد معلومة . قال مقاتل : فليرين الله ، الأخفش : فليميزنّ الله . وقال القتيبي : علم الله سبحانه نوعان : أحدهما : علم شيء كان يعلم إنّه كان ، والثاني : علم شيء يكون ، فعلم إنّه يكون وقت كذا ولا يعلمه كائناً واقعاً إلاّ بعد كونه ووقوعه ، بيانه قوله سبحانه : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ } [ محمد : 31 ] أي نعلم المجاهدين منكم مجاهدين ونعلم الصابرين صابرين ، فكذلك هاهنا فليعلمنّ الله ذاك موجوداً كائناً وهذا سبيل علم الله في الإستقبال . { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } الشرك { أَن يَسْبِقُونَا } يعجزونا ويقولوا ما بأنفسهم فلا يقدر على الإنتقام منهم { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي ساء حكمهم الذي يحكمون { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ ٱللَّهِ } قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث . سعيد بن جبير : من كان يطمع في ثواب الله { فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ } يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب الكائن { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } له ثوابه . { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ * وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة . { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } اختلف النحاة في وجه نصب الحسن ، فقال أهل البصرة : على التكرير تقديره ووصيناه حسناً أي بالحسن ، كما يقول : وصيته خيراً ، أي بخير ، وقال أهل الكوفة : معناه ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً ، فحذفه لدلالة الكلام عليه كقول الراجز : @ عجبت من دهماء إذ تشكونا ومن أبي دهماء إذ يوصينا خيراً بها كأنّنا جافونا @@ أي يوصينا أن نفعل بها خيراً ، وهو مثل قوله : { فَطَفِقَ مَسْحاً } [ ص : 33 ] أي يمسح مسحاً . وقيل معناه : وألزمناه حسناً ، وقرأ العامة { حُسْناً } بضم الحاء وجزم السين ، وقرأ أبو رجاء العطاردي بفتح الحاء والسين . وفي مصحف أبي { إِحْسَانًا } نزلت في سعد بن أبي وقاص الزهري . واسم أبي وقاص : مالك بن وهبان ، وذلك إنّه لما أسلم قالت له أمه جمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف : يا سعد بلغني إنّك صبوت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد وترجع إلى ما كنت عليه ، وكان أحب ولدها إليها ، فأبى سعد وصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل بظل ، فأتى سعد النبي ( عليه السلام ) وشكا ذلك إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية والتي في لقمان والأحقاف ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يترضاها ويحسن إليها ولا يطيعها في الشرك وذلك قوله سبحانه : { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } إنّه لي شريك { فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . أخبرنا عبد الله بن حامد قراءة قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا نمير بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : " قلت : يا رسول الله من أبرّ ؟ قال : " أمّك " ، قلت : ثم من ؟ قال : " أمّك " ، قلت : ثم من ؟ قال : " ثم أمّك " ، قلت : ثم من ؟ قال : " ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب " . وأخبرنا عبد الله إجازة قال : أخبرنا عثمان بن أحمد قال : حدثنا علي بن إبراهيم الواسطي قال : حدثنا منصور بن مهاجر قال : حدثنا أبو النصر الأبار ، عن أنس بن مالك قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الجنة تحت أقدام الأمهات " . { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ } أي في زمرتهم وجملتهم ، وقال محمد بن جرير : أي في مدخل الصالحين وهو الجنة ، وقيل : { فِي } بمعنى مع ، والصالحون هم الأولياء والأنبياء . { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ } أي أذاهم وعدائهم { كَعَذَابِ ٱللَّهِ } في الآخرة فارتد عن إيمانه { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ } هؤلاء المرتدون { إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } وهم كاذبون { أَوَ لَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ } أي ليميّزنهم ويظهر أمرهم بالإبتلاء والاختبار والفتن والمحن . واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية : فقال مجاهد : نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا . الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون ، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك . عكرمة عن ابن عباس : نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر ، فارتدوا وهم الذين نزلت فيهم { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 97 ] … الآية ، وقد مضت القصة . قتادة : نزلت هذه الآية في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة . وهذه الآيات العشر مدنية إلى هاهنا ، وسائرها مكي ، وقال مقاتل والكلبي : نزلت في العياش بن أبي ربيعة بن مغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي ، وذلك إنّه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي ( عليه السلام ) ، فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة ابن أبي جندل بن نهشل التميمي أن لاتأكل ولا تشرب ولا تغسل لها رأساً ولا تدخل لبيتاً حتى يرجع إليها ، فلما رأى ابناها أبو جهل والحارث ابنا هشام وهما أخوا عيّاش لأُمّه جزعها وحلفها رهبا في ظلمة حتى أتيا المدينة فلقياه ، فقال أبو جهل لأخيه عياش بن أبي ربيعة : قد علمت أنّك أحبّ إلى أمّك من جميع ولدها وكنت بها باراً ، وقد حلفت أمك إنّها لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل بيتاً حتى ترجع إليها ، وأنت تزعم أنّ في دينك بر الوالدين ، فارجع إليها فإنّ ربّك الذي تعبده بالمدينة هو ربك بمكة فاعبده بها ، فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق لا يحركاه ولا يصرفاه عن دينه ، فأعطياه ما سأل من المواثيق فتبعهما ، وقد صبرت أمه ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت ، قالا : فلما خرجوا من أهل المدينة أخذاه فأوثقاه وجلده كلّ واحد منهما مائة جلدة حتى تبرأ من دين محمّد ( رحمهما الله ) جزعاً من الضرب وقال ما لا ينبغي ، فأنزل الله سبحانه فيه : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ } … الآية . قالا : وكان الحارث أشدهما عليه وأسوأهما قولا ، فحلف عياش بالله لئن قدر عليه خارجاً من الحرم ليضربنّ عنقه ، فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حيناً ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى المدينة ، فهاجر عياش وأسلم وحسن إسلامه . ثم إنّ الله تعالى قذف الإيمان في قلب الحارث بن هشام ، فهاجر إلى المدينة وبايع النبي ( عليه السلام ) على الإسلام ولم يحضر عياش ، فلقيه عياش يوماً بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه ، فضرب عنقه ، فقيل له : إنّ الرجل قد أسلم ، فاسترجع عياش وبكى ، ثم أتى النبي ( عليه السلام ) وأخبره بذلك ، فأنزل الله سبحانه وتعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] … الآية .