Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 15-22)

Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ } : أُخبركم . { بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } : الذي ذكرت تم الكلام ههنا : ثم ابتدأ فقال : { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ } : تقع خبر حرف الصلة . { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ } : قرأ العامة بكسر الراء . وروى أبو بكر عن عاصم : بضم الراء من الرضوان في جميع القرآن وهو لغة قيس وغيلان ، وهما لغتان كالعِدوان والعُدوان والطِغيان والطُغيان . زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عزَّ وجل لأهل الجنة : " يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربَّنا وسعديك والخير في يديك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقول : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحد من خلقك " . فيقول : " ألا أعطكم أفضل من ذلك " فيقولون : وأيُّ شيءٌ أفضل من ذلك ؟ قال : " أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً " . { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ } : إن شئت جعلته محل ( الذين ) على الجر رداً على قوله { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا } . وإن شئت رفعته على الابتداء كقوله { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } [ التوبة : 111 ] . ثم قال في صفتهم مبتدئاً { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ } [ التوبة : 112 ] . { رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا } صدَّقنا . { فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } : أسترها علينا وتجاوزها عنا . { وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } { ٱلصَّابِرِينَ } : في اداء الامر ، وعن ارتكاب الزنى وعلى البأساء والضرَّاء وحين البأس . وإن شئت نصبتها وأخواتها على المدح ، وإن شئت خفضتها على النعت . { وَٱلصَّادِقِينَ } : في إيمانهم ، قال قتادة : هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية { وَٱلْقَانِتِينَ } : المطيعين المصلين . { وَٱلْمُنْفِقِينَ } : أموالهم في طاعة الله . وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ للهِ ملكاً ينادي : اللهم اعط مُنفقاً خلفاً ، واعطِ ممسكاً تلفاً " . { وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ } : قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والكلبي ، والواقدي : يعني المصلين بالاسحار . نظير قوله : { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 18 ] أي يصلَّون . وقال يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي الزهري قال : قلت لزيد بن اسلم : من المستغفرين بالأسحار ؟ قال : هم الذين يشهدون الصبح . وكذلك قال ابن كيسان : يعني صلاة الصَّبح في المسجد . وقال الحسن : صلَّوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا . قال نافع : كان ابن عمي يُحيي الليل ، ثم يقول : يا نافع أسحرنا ؟ فأقول : لا ، فيعاود الصلاة ، وإذا قلت : نعم ، فيستغفر الله ويدعوا حتى الصبح . وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعتُ رجلاً في السحر يتهجّد في المسجد وهو يقول : ربَّ أمرتني فأطعتك ، وهذا سَحَر فاغفر لي . فنظرتُ فإذا هو ابن مسعود ( رضي الله عنه ) . وروى صالح وحماد بن سلمة عن ثابت وأبان وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال : " سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنَّ الله عزَّ وجل يقول : " إني لأهمَّ بأهل الأرض عذاباً ؛ فإذا نظرتُ الى عمَّار بيوتي والى المتهجدين والى المتحابين فيَّ ، والى المستغفرين بالاسحار صرفت عنهم " . محمد بن راذان عن أم سعد قالت : " سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ ثلاثة أصوات يحبهم الله عزَّ وجلَّ ؛ صوت الديك ، وصوت الذي يقرأ القرآن ، وصوت المستغفرين بالاسحار " . حمّاد بن سلمة عن سعيد الجريري قال : بلغنا أنَّ داود نبي الله سأل جبرائيل ( عليه السلام ) : أي الليل أفضل ؟ فقال : ما أدري إلا أنَّ العرش يهتز من السَحَر . وقال سفيان الثوري : إنَّ لله ريحاً يقال لها : الصبَّحية تهب وقت الأسحار تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبّار . قال سفيان أنَّهُ إذا كان من أوّل الليل ، نادى مناد : ألا ليقم العابدون ، فيقومون فيصلّون ما شاء الله ، ثم ينادي منادي في شطر الليل : ليقم القانتون ، فيقومون كذلك يصلَّون إلى السَحَر . فإذا كان نادى مناد : ألا ليقم المستغفرون ، فيقومون فيستغفرون ، ويقوم آخرون يصلَّون فيلحقون بهم . فإذا طلع الفجر نادى مناد : اللهم ليقم الغافلون فيقومون ، من فراشهم كأنهم نشروا من قبورهم . وقال لقمان لإبنهِ : " يا بُني لا يكون الديك أكيس منك ، ينادي بالأسحار وأنت نائم " . { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } . عن غالب القطان قال : أتيتُ الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش وكنت أختلف إليه . فلما كنتُ ذات ليلة اردتُ أنْ أنحدر إلى البصرة قام من الليل يتهجد ؛ فمر بهذه الآية { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } الآية . ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ، أن الدين عند الله الإسلام فقالها مراراً . قلت : لقد سمع . فما شيئاً فصلَّيتُ معهُ وودعته ، ثم قلت : آية سمّعتك تردِّدها فما بلغك فيها ؟ قال : والله لا أحدث بها إلى سنة . فلبثت على بابه ذلك اليوم ، واقمت سنة ، فلما مضت السنة قلتُ : يا أيا محمد مضت السنة ، فقال : حدثنا أبو وائل عن عبد الله قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجيء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : عبدي عهد إليّ وأنا أحقُ من وفى بالعهد . أدخلوا عبدي الجنة " . خالد بن زيد عن يزيد الرقاسي عن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } الآية … عند منامهِ خلق الله عزَّ وجلَّ له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة " . وعن الزبير بن العوام قال : قلت : لأدنونَّ هذه [ العشية ] من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي عشية عرفه حتى أسمع ما يقول ، فحبست ناقتي من ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناقة رجل كان إلى جنبه . فسمعتهُ يقول : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } الآية . فما زال يردَّدها حتى دفع . يعقوب عن جعفر عن سعيد بن جبير قال : كان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنماً . فلما نزلت { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } الآية ، خرَّوا سجّداً . قال الكلبي : قدم حبران من أهل الشام على النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرا المدينة ، قال أحدهما لصاحبهِ : ما أشبه هذه المدينة صفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج آخر الزمان فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاهُ بالصفة والنعت . فقالا لهُ : أنت محمد ؟ قال : نعم . قالا : وأنت أحمد ؟ قال : إنا محمد وأحمد قالا : إنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنَّا بك وصدَّقناك . فقال : بلى . قالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب اللَّه ؟ فأنزل اللَّه هذه الآية { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } الآية … فأسلم الرجلان . واختلف القرّاء في هذه الآية . فقرأ أبو نهيك وأبو الشعثاء : { شَهِدَ ٱللَّهُ } بالرفع والمدَّ على معنى : هم شهداء يعني : الذين مرَّ ذكرهم . وروى المهلّب عن محارب بن دثار : { شَهِدَ ٱللَّهُ } منصوبة على الحال والمدح . وقرأ الآخرون : { شَهِدَ ٱللَّهُ } على الفعل أي بيَّن ؛ لأن الشهادة تبيين . وقال مجاهد : حكم اللَّه ، الفرّاء وأبو عبيدة : قضى اللَّه ، المفضَّل : لعلم اللَّه . ابن كيسان : شهد اللَّه بتدبيره العجيب ، وصنعه المتقن ، وأُموره المحكمة من خلقه أنه لا اله إلا هو ، وهذا كقول القائل : @ وللَّهِ في كل تحريكة وتسكينة أبداً شاهد وفي كل شيء لهُ آية تدلُ على أنَّهُ واحد @@ وقيل لبعض الأعراب : ما الدليل على أنَّ للعالم صانعاً ؟ فقال : إنَّ البعرة تدلُ على البعير ، وآثار القدم تدلُ على المسير ، وهيكل علَّوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة ؛ أما يدلاَّن على الصانع الخبير . قال ابن عباس : " خلق اللَّه الارواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة ، وشهد بنفسه لنفسهِ قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا برَّ ولا بحر ، فقال : شهد اللَّه أنَّهُ لآ اله إلا هو " . وقرأ ابن مسعود : ( أنَّ لا آله إلا هو … ) وقرأ ابن عباس : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } : بكسر الألف جعلهُ خبراً مستأنفاً معترضاً في الكلام على توهم الفاء ، كأنهُ قال : فإنَّه لآ اله إلاَّ هو ، قاله أبو عبيدة والمفضَّل ، وقال بعضهم : كسره ؛ لأن الشهادة قول وما بعد القول يكون مكسوراً على الحكاية فتقديرهُ قال اللَّه : أنَّهُ لآ اله إلاَّ هو . { وَٱلْمَلاَئِكَةُ } : قال المفضّل : معنى شهادة اللَّه للإخبار والإعلام ، ومعنى شهادة ملائكة اللَّه والمؤمنين الإقرار كقوله : { قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا } [ الأنعام : 130 ] أي أقررنا فنسق شهادة الملائكة ، { وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } على شهادة اللَّه تعالى . والشهادتان مختلفتان معنى لا لفظاً كقوله عزَّ وجل : { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 56 ] والصلاة من اللَّه " الرحمة " ومن الملائكة " الاستغفار والدعاء " ، وأولوا العلم : يعني الانبياء ( عليهم السلام ) . وقال ابن كيسان : يعني المهاجرين والأنصَّار . مقاتل : مؤمني أهل الكتاب ، عبد اللَّه بن سلام : وأصحابه : نظيره قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } [ الإسراء : 107 ] ، وقوله : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } [ الرعد : 43 ] . وقال السدي والكلبي : يعني علماء المؤمنين كلهم . فقرّب اللَّه تعالى شهادة العلماء بشهادته ؛ لأن العلم صفة اللَّه العليا ونعمته العظمى . والعلماء أعلام الإسلام والسابقون الى دار السلام وسرج الامكنة وحجج الأزمنة . وروى صفوان عن سُليم عن جابر بن عبد اللَّه ، قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " ساعة من عالم متّكئ على فراشهِ ينظر في علمهِ خير من عبادة العابد سعبين عاماً " . المسيب بن شريك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " تعلَّموا العلم ؛ فإنَّ تعلَّمهُ للَّهِ حسنة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنهُ جهاد ؛ وتعليمهُ من لا يعلمهُ صدقة ، وتذكره لأهله قربة ؛ لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبل الجنة والنار ، والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة ، والميراث في الخلوة ، والدليل على السرَّاء والضرَّاء ، والسلاح على الأعداء ، والقرب عند الغرباء ، يرفع اللَّه به أقواماً ويجعلهم في الخير قادةً يُقتدى بهم ، ويُبيّن اثارهم ، ويرموا أعمالهم ، ويُنهى الى رأيهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، وفي صلواتهم تستغفر لهم ، وكل رطب ويابس يستغفر لهم حتى حيتان البحر وسباع الأرض وأنعامها والسماء ونجومها ، ألا فإن العلم خير أنقاب عن الصمى ، ونور الأبصار من الظلم ، وقوة الأبدان من الضعف ، يبلغ بالعبد منازل الأحرار ، ومجالس الملوك ، والفكرُ فيه يُعدل بالصيام ومدارسته بالقيام ، به يُعرف الحلال والحرام ، وبه توصَّل الأرحام ، إمام العمل والعقل تابعهُ ، يُلهم السعد أو يُحرم إذا شقى " . { قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } : أي بالعدل ونظام الآية " شهد اللَّه قائماً بالقسط " . وهو نصب على الحال . وقال الفرّاء : هو نصب على القطع كأن أصله القائم ، وكذلك هو في ( عبد اللَّه ) فلما قطعت الألف واللام نصب لقوله تعالى : { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً } [ النحل : 52 ] . وقال أهل المعاني في قوله : { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } : أي مدبّر ، رازق ، مُجازي بالاعمال كما يقال : فلان قائم بأمري : أي مدبّر له متعهد لأسبابه ، وقائم بحق فلان : أي بحاله . { إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } : كرّر ؛ لأنّ الأولى حلت محل الدعوى ، والشهادة الثانية حلت في محل الحكم . وقال جعفر الصَّادق : الأُولى ( وصف وتوحيد ) والثانية رسمٌ وتعليم يعني قولوا : { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } . { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } : يعني ( بالدين الطاعة والملّة ) لقوله : { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } . وفتح الكسائي ومحمد بن عيسى الاصفهاني ألف ( إنَّ ) رداً على ( أنَّ ) الأُولى في قوله : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ } يعني : شهد اللَّه أنَّه ، وشهد أن الدين عند اللَّه الإسلام ، وكسر الباقون على الإبتداء . والإسلام ( من السلم : الإيمان و ) الطاعة يُقال : أسلم أي : دخل في السلم . وذلك كقولهم : استى وأربع وأمحط واخبت : أي دخل فيها . سفيان : قال قتادة : في قولهِ : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } قال : ( شهادة ) أن لا اله إلا اللَّه . والإقرار بأنَّها من عند اللَّه ، وهو دين اللَّه الذي شرع لنفسهِ ، وبعث به رسله ودلَّ عليه أولياءه ولا يُقبل غيره ولا جزى إلاَّ بهِ . { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } الآية ، قال الربيع : إنَّ موسى ( عليه السلام ) لما حضرته الوفاة دعا سبعين حبراً من أحبار بني إسرائيل ، واستودعهم التوراة ، وجعلهم أمناء عليها ، واستخلف يوشع بن نون . فلمّا مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم ، وهم الذين أوتوا الكتاب من أبْنَاء أولئك السبعين حتى أوقعوا بينهم الدماء ، ووقع الشر والإختلاف وذلك { مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } يعني : بيان ما في التوراة { بَغْياً بَيْنَهُمْ } : أن طلبها للملك والرئاسة والتحاسد والمناقشة ؛ فسلط اللَّه عليهم الجبابرة . وقال بعضهم : أراد { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } : في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم ، يعني : بيان نعته وصفته في كتبهم . وقال محمد بن جعفر عن الزبير : نزلت هذه الآية في نصارى نجران ومعناها : { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } هو الإنجيل في أمر عيسى ( عليه السلام ) ، وفرَّقوا القول فيه إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم ، بأن اللَّه واحد ، وأنَّ عيسى عبدهُ ورسوله { بَغْياً بَيْنَهُمْ } : أي للمعاداة والمخالفة . { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } : لا يحتاج الى عقد وقبض يد . وقال الكلبي : نزلت في يهوديين تركوا اسم الإسلام وتسمَّوا باليهودية والنصرانية ، قال اللَّه تعالى : { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } قال : دين اللَّه هو الإسلام بغياً منهم فلمّا وجدا نظيره قوله : { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } [ البينة : 4 ] فقالت اليهود والنصارى : لسنا على ما سميتنا بهِ يا محمد إنَّ اليهودية والنصرانية سبّ هو الشرك ، والدين هو الإسلام ونحن عليه . { فَإنْ حَآجُّوكَ } : خاصموك يا محمد في الدين ، { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ } : أي انقدت ( لأمر الله ) { للَّهِ } : وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي ، إنَّما خص الوجه لإنَّهُ ؛ أكرم جوارح الإنسان ، وفيه بهاؤه وتعظيمه ، فإذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له سائر جوارحه التي هي دون وجهه . وقال الفرّاء : معناه أخلصت عملي للَّه . يُقال : أسْلمت الشيء لفلان وسلمتهُ له ، أي دفعته إليه ( … ) ومن هذا يُقال : أسلمتُ الغلام إلى ( … ) وفي صناعة كذا . أي أخلصت لها . والوجه : العمل كقوله : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } : أي قصده وعمله . وقوله : { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } [ الليل : 20 ] . { وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ } : " من " في محل الرفع عطفاً على التاء في قوله : { أَسْلَمْتُ } أي : ومن اتبعني أسْلم كما أسلمت . وأثبت بعضهم ياء قوله : { اتبعني } على الأصل ، وحذفهُ الآخرون على لفظ ينافي المصحف ( إذا وقعت فيه بغير ياء ) . وأنشد : @ كفاك كفَّ ما تليق درهماً جوداً وأخرى تعط بالسيف دماً @@ وقال آخر : @ ليس تخفى يسارتي قدر يوم ولقد يخفِ شيمتي إعساري @@ { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَٱلأُمِّيِّينَ } : يعني العرب ( ءأسْلمتم ) : لفظ استفهام ومعناهُ أمر ، أي أسلموا كقوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] : أي نهوا ، { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ } : فقرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فقال أهل الكتاب : أسلمنا . فقال للنصارى : أتشهدون أنَّ عيسى كلمة من اللَّه وعبدهُ ورسوله ، فقالوا : معاذ اللَّه . وقال لليهود : إنّ عزير هو عبدالله ورسوله ، قالوا : معاذ الله فذلك قوله : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ } . بتبليغ الرسالة ، { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } : عالم بمن يؤمن بالله ومن لا يؤمن باللهِ وبأهل الثواب وبأهل العقاب . { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ } : يجحدون ، { بِآيَاتِ ٱللَّهِ } : بحجّة وأعلامه ، وقيل : هي القرآن ، وقيل : هم اليهود والنصارى { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قرأ الحسن { وَيَقْتُلُونَ } بالتشديد فهما على تكَّثر . وقرأ حمزة : ( وتقاتلون الذَّين يأمرون ) اعتباراً بقراءة مسعود ( وقاتلوا الذين يأمرون به ) ، ووجه هذه القراءة { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ } وقد " قاتلوا الذين يأمرون " ؛ لأنهُ غير جائز عطف الماضي على المستقبل وفي حرف . أي : { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ } قال مقاتل : أراد بهِ ملوك بني اسرائيل . وقال معقل بن أبي سكين ، وابن جريج : كان الوحي يأتي الى أنبياء بني إسرائيل ، ولم يكن يأتيهم كتاب فيُذكِّرون قومهم فيقتلون . فيقوم رجال فمن اتّبعهم وصدقهم فيذَّكرون قومهم فيُقتلون أيضاً . فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس . وعن قبيصة بن دويب الخزاعي عن أبي عبيدة الجرّاح قال : قلتُ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيُ الناس أشدُ عذاباً يوم القيامة ؟ قال : " رجلٌ قتل نبياً ، أو رجلٌ أمر بالمنكر ونهى عن المعروف " ، ثم قرأ رسول لله صلى الله عليه وسلم { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ } إلى قوله : { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً في أول النهار ساعة واحدة ، فقام مائة وإثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني إسرائيل فأمروا من قبلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقُتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم ، فهم الذين ذكرهم اللَّه تعالى في كتابه فأنزل الآية فيهم " . وعن عبد اللَّه بن مسعود قال : " قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " بئس القوم قومٌ يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، وبئس القوم قومٌ يمشي المؤمن فيهم بالتقية والكتمان " . { فَبَشِّرْهُم … } أخبرهم بعذاب أليم ، وإنما أُدخل الفاء ( في خبرها ) ؛ لأنهُ قوله : ( الذين ) موضع الجزاء ( " وإنّ " لا تبطل معنى الجزاء ؛ لأنّها بمزلة الابتداء عكس : ليت ) . وقيل : أُدخل الفاء على الغاء أن وتقديرهُ : " الذين يكفرون ويقتلون فبشّرهم بعذاب أليم رجيح . { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ } : ذهبت وبطلت . وقرأ أبو واقد والجرّاح : " حبطت " بفتح التاء مستقبلة " تحبِط " بكسر الباء وأصلهُ من " الحبط " وهو أن ترعى الماشية ( بلا دليل ورديع ) فتنتفخ من ذلك بطونها ، وربَّما ماتت منهُ ، ثم جعل كل شيء يهلك حبطاً . ومنهُ قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنَّ مما يُنبت الربيع ما يقتل حبطاً إذ يلم " . { أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا } : أي نصيباً وحظاً من الكتاب . يعني : اليهود يُدعون الى كتاب اللَّه . واختلفوا في هذا الكتاب الذي أخبر اللَّه تعالى إنَّهم يُدعون إليه فيعرضون عنه . فقال قوم : هو القرآن . وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال : إنَّ اللَّه عزَّ وجل جعل القرآن حَكَماً فيما بينهم وبين رسول اللَّه ، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنَّهم على غير دين الهدى فأعرضوا عنه . وقال قتادة : هم أعداء اللَّه اليهود . دُعوا الى حكم القرآن واتباع محمد صلى الله عليه وسلم فأعرضوا ، وهم يجدونهُ مكتوباً في كتبهم . السَّديَّ : " دعا النبي صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ، فقال لهُ النعمان بن أبي أوفى : هلَّم يا محمَّد نخاصمك إلى الأحبار ، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بل الى كتاب اللَّه . فقال : بل الى الأحبار . فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية " . وقال الآخرون : هي التوراة . روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس ، قال : دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيت المقدس على جماعة من اليهود ، فدعاهم الى اللَّه عزَّ وجل . فقال له نعيم بن عمر وابن الحارث بن فهد : على أيَّ دين أنت يا محمد ؟ فقال : على ملّة إبراهيم . قالا : إنَّ إبراهيم كان يهودياً . فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأسلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم ، فأبيا عليه ، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : " إنَّ رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا ، وكانا في شرف منهم ، وكان في كتابهم الرجم . فكرهوا رجمهما لحالهما وشرفهما ، ورجوا أن يكون عند رسول اللَّه رحمة في أمرهما ، فُرفعِوا الى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فحكم عليهما بالرجم ، فقال له النعمان ابن أبي أوفى ونخري بن عمر : جُرتَ علينا يا محمد . ليس عليهما الرجم ، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم . قالوا : قد أنصفتنا . قال فمن أعلمكم ؟ فقالوا : رجل أعمى يسكن فدك ، يُقال له ابن صوريا ، فأرسلوا إليه ، فقدم المدينة وكان جبرائيل ( عليه السلام ) قد وصفهُ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال له رسول اللَّه : لأنت ابن صوريا ؟ قال : نعم . قال : أنت أعلم اليهود ؟ قال كذلك يزعمون ، قال : فدعا رسول اللَّه بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب . فقال له : أقرأ . فلما أتى آية الرجم وضع كفهُ عليه وقرأ ما بعدها . فقال ابن سلام : يا رسول اللَّه قد جاوزها ووضع كفهُ عليها ، وقام ابن سلام الى ابن صوريا فرفع كفهُ عنها ، ثم قرأ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " اليهوديان المحصنان إذا زنيا ، وقامت عليهما البينة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها " . فأمر رسول اللَّه باليهوديين فرُجماً ، فغُضِب اليهود لذلك غضباً شديداً ، وانصرفوا " فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية .