Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 1-6)
Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يعني حواء ، ونظيرها في سورة الأعراف والزّمر { وَبَثَّ } نشر وأظهر { مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ } تسألون به ، وخففه أهل الكوفة على حذف إحدى التائين تخفيفاً كقوله : { وَلاَ تَعَاوَنُواْ } [ المائدة : 2 ] ونحوها ، { وَٱلأَرْحَامَ } . قراءة العامة : نصب أي واتقوا الأرحام إن تقطعوها . وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وقتادة والأعمش وحمزة : بالخفض على معنى وبالأرحام ، كما يقال : سألتك بالله والرحمن ، ونشدتك بالله والرحمن ، والقراءة الأولى أصح وأفصح ، لأن العرب لا يكلأ بنسق بظاهر على المعنى ، إلاّ أن يعيدوا الخافض فيقولون : مررت به وبزيد ، أو ينصبون . كقول الشاعر : @ يا قوم مالي وأبي ذويب @@ إلاّ أنه جائز مع قوله ، وقد ورد في الشعر . قال الشاعر : @ فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا اذهب فمالك والأيام من عجب @@ وأنشد الفراء لبعض الأنصار : @ نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف @@ وقرأ عبد الله بن يزيد المقبري : ( والأرحام ) رفعاً على الابتداء ، كأنه نوى تمام الكلام عند قوله { تَسَآءَلُونَ بِهِ } ثم ابتدأ كما يقال : زيد ينبغي أن يكرم ، ويحتمل أن يكون إغراء ، لأن العرب من يرفع المغري . وأنشد الفراء : @ أين قوماً منهم عمير وأشباه عمير ومنهم السفاح لجديرون باللقاء إذا قال أخو النجدة السلاح السلاح @@ { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } أي حافظاً ، قيل : بمعنى فاعل { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ } الآية . قال مقاتل والكلبي : " نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب المال ، فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من يوق شح نفسه ويطع ربّه هكذا فإنه يحل داره " يعني جنته ، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ثبت الأجر وبقي الوزر " . فقالوا : يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر ؟ وهو بقي في سبيل الله . فقال : " يثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده ، وآتوا خطاب لأولياء اليتيم والأوصياء " . وقوله تعالى : { ٱلْيَتَامَىٰ } فلا يتم بعد البلوغ ، ولكنه من باب الاستعارة ، كقوله : { وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } [ الأعراف : 120 ] ولا سحرة مع السجود ، ولكن سمّوا بما كانوا عليه قبل السجود ، وقوله : { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ } أي من كانوا يتامى إذا بلغوا وآنستم منهم رشداً ، نظيره : { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ } [ النساء : 2 ] ، { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ } يعني لا تستبدلوا مالهم الحرام عليكم بأموالكم الحلال لكم ، نظيره قوله : { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ } [ المائدة : 100 ] واختلفوا في معنى هذا التأويل وكيفيته : فقال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي والضحاك : كان أولياء اليتامى وأوصيائهم يأخذون الجيد والرفيع من مال اليتامى ، ويجعلون مكانه الرديء والخسيس ، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : درهم بدرهم ، فذلك تبدلهم فنهاهم الله تعالى عنها . عطاء : لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير . ابن زيد : كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث . وقال ابن زيد : ( وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان ) لا يورثوهن شيئاً فنصيبه من الميراث طيب وهذا الذي أخذه خبيث . مجاهد وباذان : لا تعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال . { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } أي مع أموالكم ، كقوله : { مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } [ آل عمران : 52 ، الصف : 14 ] . وأنشد المفضل سلمة بن الخرشب الأنصاري : @ يسدون أبواب القباب بضمر إلى عنن مستوثقات نقاب الأواصر @@ أي مع غنن . { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } أي إثماً عظيماً ، وفيه ثلاث لغات : قرأه العامة : حُوباً بالضم ، وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الحجاز ، يدل عليه ما روى أبو عبيد عن عباد بن عباد عن واصل مولى ابن عيينة قال : قلت لابن سيرين كيف يُقرأ هذا الحرف : إنه كان حوباً أو حَوباً ؟ فقال : " إن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن طلاق أم أيوب حُوب " " . وقرأ الحسن : ( حَوباً ) بفتح الحاء وهي لغة تميم . [ وقال مقاتل : لغة الحبش ] . وقرأ أُبي بن كعب : ( حاباً ) على المصدر ، مثل القال ، ويجوز أن يكون اسماً مثل الراد والنار ، ويقال للذنب حُوب وحَوب وحاب وللأذناب ، كذلك يكون مصدراً واسماً ، فقال : حاب يحوب حُوباً وحوباً وحاباً وحباية إذا أثم . قال أبو معاذ : نزلنا منزلا قريباً من مدينة ، فرمى رجل غطاية صغيرة ( فقيل له ) : يا حاج لا تقتلها فتصيب حوباً إنها لا تؤذي ، ومنه قيل للقاتل حائب ، حكاه الفراء عن بني أسد . وقال أمية بن الأسكن الليثي وكان ابنه قد هاجر بغير إذنه : @ وإن مهاجرين تكنفاه غداتئذ لقد خطئا وحابا @@ وقال آخر : @ عض على شبدعه الأريب فظل لا يلحي ولا يحوب @@ وقال آخر : @ وابن ابنها منا ومنكم وبعلها خزيمة والأرحام وعثاء حوبها @@ أي شديد إثمها . وقال آخر : @ فلا تبكوا عليَّ ولا تحنوا بقول الإثم إن الإثم حوب @@ { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ } الآية ، اختلف المفسرون في تنزيلها وتأويلها : فقال بعضهم : معناها وإن خفتم ألاّ تعدلوا يا معشر أولياء اليتامى فيهن ، إذا تزوجتم بهن فانكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم . وروى الزهري عن عروة عن عائشة قال : قلت لها ما قول الله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ } فقالت : يابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها فنهي أن تنكحوهن إلاّ أن تقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأُمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء . قال الحسن : كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له تزويجها فيقول لها : لا أدخل في رباعي أحداً كراهة أن يدخل غريب فيشاركه في مالهنّ ، فربما يتزوجهن لأجل مالهن ومن لا يعجبنه ثم نسى صحبتهن ويتربص بهن أن يمتن فيرثهن ، فعاب الله عزّ وجلّ ذلك وأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية . عكرمة : كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل ، فإذا صار معدما لما يلزمه من مؤن نسائه ، مَالَ على مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم : امسكوا عن النساء ولا تزيدوا على أربع حتى لا يخرجكم إلى أخذ أموال اليتامى ، وهذه رواية طاوس عن ابن عباس ، ومعنى رواية عطية عنه . وقال بعضهم : كانوا يتحرجون ويتحوبون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء ولا يتعددون فيهن ويتزوجون ما شاؤا ، فربما عدلوا وربما لم يعدلوا ، فلما سألوا عن حال مال اليتامى أنزل الله { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ } الآية ، وأنزل أيضاً هذه الآية { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ } يقول : كما خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى وهمّكم ذلك ، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ولا تتزوجوا أكثر ممّا يمكنكم امساكهنّ والقيام بحقهن ، لأن النساء كاليتيم في الضعف والعجز ، فما لكم تراقبون الله عزّ وجلّ في شيء وتعصونه في مثله ، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي ، ورواية الوالبي عن ابن عباس . وقال الحسن أيضاً : تحرجوا من نكاح اليتامى كما تحرجوا من أموالهم ، فأنزل الله هذه الآية ، ورخص فيهن وقصر بهن على عدد ، فعليكم العدل فيهن ، فإن خفتم يا معشر الأولياء في اليتامى التي أنتم ولاتهن ألاّ تقسطوا ، فأنكحوهن ولا تزيدوا على أربع ، لتعدلوا ، فإن خفتم ألاّ تعدلوا فيهن فواحدة . قال ابن عباس : قصر الرجال على أربع من النساء من أجل اليتامى . مجاهد : معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى فأموالهم إيماناً وتصديقاً ، فكذلك تحرجوا عن الزنا ، فانكحوا النساء الحلال نكاحاً طيباً ، ثم بيّن لهم عدداً محصوراً وكانوا يتزوجون ما شاؤا من غير عدد ، فأنزل الله { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ } أي أن لا تعدلوا . وقرأها إبراهيم النخعي : ( تَقسطوا ) بفتح التاء وهو من العدل أيضاً . قال الزجاج : قسط واقسط واحد ، إلاّ أن الأفصح اقسط إذا عدل ، وقسط إذا جار ، وإن حملت قراءة إبراهيم على الجور وجعلت لا لغواً صحّ الكلام ، واليتامى جمع لذكران الأيتام . { فَٱنكِحُواْ مَا } . قرأ إبراهيم بن أبي عبلة : ( مَن ) لأن ما لما لا يعقل ومَن لما يعقل ، ومن قرأ ( ما ) فله وجهان : أحدهما : أن ردّه إلى الفعل دون العين تقديره : فانكحوا النكاح الذي يحل لكم من النساء ، وهذا كما تقول : خذ من رفيقي ما أردت والإخوان ، تجعل ( ما ) بمعنى ( من ) ، والعرب يعقب ما من ومن ما . قال الله تعالى { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] وأخواتها ، وقال : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ } [ النور : 45 ] الآية . وحكى أبو عمرو بن العلاء : أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا : ( سبحان ما يسبّح له الرعد ) ، وقال الله : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] . { طَابَ } حل { لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } . وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش ( طاب ) : بالإمالة وفي مصحف أُبيّ : ( طيب ) بالياء ، وهذا دليل الإمالة . { مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } معدولات عن اثنين وثلاث وأربع ، فلذلك لا يصرفن ، وفيها لغات موحد ومثنى ومثلث ومربع ، وأحاد وثناء وثلاث ورباع ، وأحد وثنى وثلث وربع ، مثل عمر وزفر . وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية ، ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلاّ بيتاً جاء عن الكميت : @ فلم يستريثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشاراً @@ يعني طعنت عشرة . قالوا : وهاهنا بمعنى ( لو للتحقيق ) كقوله { إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ } [ سبأ : 46 ] وقوله { أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] وهذا إجماع الأمة ، وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم غير مشتركة . الكلبي عن خميصة بنت الشمردل : أن قيس بن الحرث حدثها أنه كان تحته ثمان نسوة حرائر ، قال : فلما نزلت هذه الآية قلت : " يا رسول الله قد أنزل الله عليك تحريم تزوج الحرائر إلاّ أربع حرائر وأن تحتي ثمان نسوة ، قال : " فطلّق أربعاً وأمسك أربعاً " . قال : فرجعت إلى منزلي فجعلت أقول للمرأة التي ما تلد مني يا فلانة أدبري وللمرأة التي قد ولدت يا فلانة أقبلي ، فيقول للتي طلق أنشدك الله والمحبة قال : فطلقت أربعاً وأمسكت أربعاً " . { فَإِنْ خِفْتُمْ } خشيتم ، وقيل : علمتم { أَلا تَعْدِلُوا } بين الأربع { فَوَاحِدَةً } . قرأ العامة : بالنصب . وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر : ( فواحدةٌ ) بالرفع ، أي فليكفيكم واحدة ، أي واحدة كافية ، كقوله عزّ وجلّ : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } [ البقرة : 282 ] . { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني الجواري والسراري ، لأنه لا يلزمكم فيهن من الحقوق والذي يلزمكم في الحرمة ، ولا قسمة عليكم فيهن ولا وقت عليكم في عددهن ، وذكر الإيمان بيان تقديره { أَوْ مَا مَلَكَتْ } . وقال بعض أهل المعاني : ( أو ما ملكت أيمانكم ) أي ما ينفذ فيه أقسامكم جعله من يمين الحلف لا يمين الجارحة ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " . { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ } أقرب { أَلاَّ تَعُولُواْ } . عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجلّ : { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ } قال : " ألاّ تجوروا " . وروى هشام بن عروة عن عائشة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجلّ : { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ } أن لا تميلوا ، وأكثر المفسرين على هذا . قال مقاتل : هو لغة جرهم ، يقال : ميزان عائل ، أي مائل . وكتب عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : أني لست بميزان لا أعول . وأنشد عكرمة لأبي طالب : @ بميزان صدق لا يغل شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل @@ وقال مجاهد : ذلك أدنى ألاّ تضلوا . وقال الفراء والأصم : أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم ، وأصل العول المجاوزة ، ومنه عول الفرائض . وقال الشافعي : أن لا تكثر عيالكم وما قال هذا أحد غيره وإنما يقال : أعال يعيل إذا كثر عياله . قال أبو حاتم : كان ( الشافعي ) أعلم بلغة العرب منّا ولعله لغة . قال الثعلبي : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمرو الدوري عن هذا وكان إماماً في اللغة غير مدافع فقال : هي لغة حمير . وأنشد : @ وإنّ الموت يأخذ كل حيّ بلاشك وإن أمشى وعالا @@ أي كثرت ماشيته وعياله . قال أبو عمرو بن العلاء : لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحناً . وقرأ طلحة بن مصرف : ألاّ تعيلوا ، وهو قوة قول الشافعي . وقرأ بعضهم : ألاّ تعيلوا من العيلة أي لا تفتقروا . قال الشاعر : @ ولا يدري الفقير متى غناه ولا يدري الغني متى يعيل @@ وقرأ طاووس : لا تعيلوا من العلة . روى بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " . { وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } . قال الكلبي وجماعة من العلماء : هذا خطاب للأولياء ، وذلك أن ولي المرأة كان إذا زوّجها غريباً حملوها إليه على بعير ولا يعطونها من مهرها شيء ، فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيراً ، وان كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئاً غير ذلك البعير ، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئاً لك النافجة ، يريدون أنه يأخذ مهرها إبلا فيضمها إلى إبله فينتفجها أي يعظمها ويكثرها . قال بعض النساء في زوجها : @ لا تأخذ الحلوان من بناتها @@ تقول : لا يفعل ما يفعله غيره ، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك وأمرهم بأن يدفعوا الحق إلى أهله . قال الحضرمي : كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته لا مهر بينهما ، فنهوا عن ذلك وأمرهم بتسميته وأمروا المهر عند العقد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا شغار في الإسلام " . وقال آخرون : الخطاب للأزواج أُمروا بإيفاء نسائهن مهورهنّ التي هي أثمان فروجهنّ ، وهذا أصح وأوضح بظاهر الآية وأشبه ، لأن الله تعالى خاطب الناكحين فيما قبله ، وهذا أصل خطابهم . والصَدُقات المهور واحدها صدقة بفتح الصاد وضم الدال على لفظ الجمع ، وهي لغة أهل الحجاز وتميم . يقول صُدقة بضم الصاد وجزم الدال ، فإذا جمعوا قالوا : صُدقات بضم الصاد وسكون الدال ، وصُدُقات بضم الصاد والدال مثل ظلمة وظلمات ، وظلمات نظيرها المثلات ، لغة تميم مثلة ومثلات ومَثُلات بفتح الميم وضم الثاء واحدتها مثلة على لفظ الجمع لغة الحجاز . { نِحْلَةً } قال قتادة : فريضة واجبة ، ابن جريج وابن زيد : فريضة مسمّاة . قال أبو عبيد : ولا تكون النحلة مسماة معلومة ، الكلبي : عطية وهبة ، أبو عبيدة : عن طيب نفس ، الزجاج : تديناً ، وفيه لغتان : نِحلة ونَحلة ، وأصلها من العطاء وهي نصب على التفسير وقيل على المصدر . روى مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج " . وعن يوسف بن محمد بن عبد الحميد بن زياد بن صهيب عن أبيه عن جده صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أدان بدين وهو مجمع أن لا يفي به لقي الله عزّ وجلّ سارقاً ، ومن أصدق امرأة صداقاً وهو مجمع على أن لا يوفيها لقى الله عزّ وجلّ زانياً " . { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا } يعني فإن طابت نفوسهنّ بشيء من ذلك فوهبن منكم فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها ، فخرجت النفس مفسرة ، ولذلك وحَدَّ النفس ، كما يقال : ضاق به ذرعاً وقرَّ به عيناً ، قال الله تعالى : { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } [ العنكبوت : 33 ] . وقال بعض نحاة الكوفة : لفظها واحد ومعناها جمع ، والعرب تفعل ذلك كثيراً . قال الشاعر : @ بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب @@ وقال آخر : @ في حلقكم عظم وقد شجينا @@ وقال بعض نحاة البصرة : @ إذا ما دنا الليل المضى بذي الهوى @@ والهوى مصدر ، والمصادر لا تجمع { فَكُلُوهُ } أي خذوه واقبلوه { هَنِيئاً مَّرِيئاً } قال الحضرمي : إن أُناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء ممّا ساق إلى امرأته ، فقال الله : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً } من غير إكراه ولا خديعة فكلوه هنيئاً مريئاً أي سائغاً طيباً ، وهو مأخوذ من هنّات البعير إذا عالجته بالقطران من الجرب ، معناه فكلوه هنيئاً شافياً معافياً ، هنأني الطعام يهنيني بفتح النون في الماضي وكسره في الغابر يهنيني يهناني على الضد وهي قليلة ، والمصدر منهما هنؤ يقال : هنأني ومرأني بغير ألف فيها ، فإذا أفردوا قالوا : أمرأني بالألف وقيل الهنى الطيب المتاع الذي لا ينغصه شيء ، والمرىء المحمود العاقبة التام الهظم الذي لا يضر ولا يؤذي ، يقول : لا تخافون في الدنيا مطالبة ولا في الآخرة تبعة ، يدل عليه ما روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل عن هذه الآية { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً } قال : " إذا جادت لزوجها بالعطية غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة " . روى إبراهيم بن عيسى عن علي بن علي عن أبي حمزة قال : ( هنيئاً ) لا إثم فيه ( مريئاً ) لاداء فيه في الآخرة . وروى شعبة عن علي قال : إذا ابتلى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم يشتر به عسلاً ، فليشربه بماء السماء فيجمع الله له الهنيء المريء والشفاء والماء المبارك . { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً } الآية . اختلفوا في هؤلاء السفهاء من هم ؟ فقال قوم : هم النساء . قال الحضرمي : عمد رجل فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . مجاهد : نهى الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم وبين سفهاء من كن أزواجاً أو كن أو بنات أو أُمهات . جويبر عن الضحاك : النساء من أسفه السفهاء ، يدل على صحة هذا التأويل ما روى علي بن زيد عن القاسم عن أبي أُمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إنما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثاً ألا وإن السفهاء النساء إلاّ امرأة أطاعت قيّمها " . أبان عن ابن عياش عن أنس بن مالك قال : " جاءت امرأة سوداء جريئة المنطق ذات ملح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله قُل فينا خيراً مرة واحدة ، فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شرّ . قال : " أي شيء قلت لكُنّ ؟ " قالت : سمّيتنا السفهاء في كتابه وسمّيتنا النواقص . فقال : " وكفى نقصاناً أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيهنَّ ، أما يكفي إحداكنَّ إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله ، وإذا وضعت كانت كالمتشحط بدمه في سبيل الله ، وإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل ، وإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل ، وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن بالعشير " . قالت السوداء : يا له فضلاً لولا ما تبعه من الشرط " . وروى عاصم عن مورق قال : مرّت امرأة بعبد الله بن عمر لها شارة وهيبة فقال لها ابن عمر : { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ } . وقال معاوية بن قرة : عوّدوا نساءكم فإنهن سفيهات ، إن أطعت المرأة أهلكتك . وقال آخرون : هم الأولاد ، وهي رواية عطية عن ابن عباس . قال الزهري وأبو مالك يقول : لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قوامك بعد الله فيفسده ، وقال بعضهم : هم النساء والصبيان . قال الحسن : هي امرأتك السفيهة وابنك السفيه . قتادة : أمر الله بهذا المال أن يُخزن فيحسن خزائنه ولا تملكه المرأة السفيهة ولا الغلام السفيه فيبذره ، قال الله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } [ البقرة : 188 ] . عبيد عن الضحاك : ولا تعطوا نساءكم وأبناءكم أموالكم فيكونوا عليكم أرباباً . ابن عباس : لا تعمد إلى مالك الذي خوّلك الله تعالى وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك ، فيكونوا هم الذين يقومون عليك ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم . الكلبي : إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد ، فلا ينبغي له أن يسلط واحداً منهما على ماله ليفسده . وقال السدي : لا تُعط المرأة مالها حتى تتزوج وإن قرأت التوراة والإنجيل والقرآن ، ولا تعط الغلام ماله حتى يحتلم . وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو مال اليتيم يكون عندك ، يقول : لا تؤته إياه ، وأنفق عليه حتى يبلغ ، فإن قيل على هذا القول : كيف أضاف المال إلى الأولياء فقال : ( أموالكم ) وهي أموال السفهاء ؟ قيل : إنما أضاف إليهم لأنها الجنس الذي جعله الله أموالا للناس كقوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ } [ التوبة : 128 ] وقوله : { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] ردّها إلى الجنس ، أي الجنس الذي هو جنسكم . وقال محمد بن جرير : إنما أضيفت إلى الولاة لأنهم قوامها ومدبروها ، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله ، هو المستحق للحجر بتضييعه ماله وإفساده وسوء تدبيره . روى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشهد عليه ، ورجل أعطى سفيهاً ماله وقد قال الله { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ } أي الجهال بموضع الحق . { أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي } . قرأ الحسن والنخعي : اللاتي ، وهما بمعنى واحد . وأنشد : @ من اللواتي والتي واللاتي زعمن أني كبرت لذاتي @@ فجمع بين ثلاث لغات . قال الفراء : العرب تقول في جمع النساء : اللاتي ، أكثر مما تقولون : التي ، ويقولون في جمع الأموال وسائر الأشياء : التي ، أكثر ممّا يقولون : اللاتي ، وهما جائزان . { جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً } قرأ ابن عمر ( قَواما ) بالواو وفتح القاف كالدوام ، وقرأ عيسى بن عمر ( قِواما ) بكسر القاف على الفعل ، لأن الأصل الواو . وقال الكسائي : هما لغتان ومعناهما واحد ، وكان أبو حاتم يفرّق بينهما فيقول : القوام بالكسر الملاك ، والقوام بالفتح امتداد القامة . وقرأ الأعرج ونافع : ( قِيّما ) بكسر القاف . الباقون : ( قياماً ) وأصله قواماً فانقلب الواو ياءً ، لانكسار ما قبلها ، مثل صيام ونيام ، وهن جميعاً ملاك الأمر وما يقوم به الإنسان ، يقال : فلان قوام أهل بيته ، وأراد هاهنا قوام عيشكم الذي تعيشون به . وقال الضحاك : به يقام الحج والجهاد وأعمال البر ، وهي فكاك الرقاب من النار . وقال بعضهم : أموالكم التي تقومون بها قياماً . { وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا } أي أطعموهم { وَٱكْسُوهُمْ } لمن يجب عليكم رزقه ويلزمكم نفقته ، والرزق من الله عزّ وجلّ عطية غير محدودة ، ومن الناس الاجراء الموظف بوقت محدود ، يقال : رزق فلان عياله كذا وكذا ، أي أجرى عليهم ، وإنما قال : فيها ، ولم يقل : منها ، لأنه أراد أن يجعل لهم فيها رزقاً ، كأنه أوجب عليهم ذلك . { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } عدة جميلة . وقال عطاء : ( قولا معروفاً ) إذا ربحت أعطيتك كذا وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً . الضحاك : ردوا عليهم رداً جميلا . وقيل : هو الدعاء . قال ابن زيد : إن كان ليس من ولدك ولا ممّن يجب عليك نفقته فقل له قولا معروفاً ، قل له عافانا الله وإيّاك بارك الله فيك . وقال المفضل : قولا ليناً تطيب به أنفسهم ، وكلما سكنت إليه النفس أحبته من قول أو عمل فهو معروف ، وما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ } الآية ، نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه ، وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه ثابتاً وهو صغير ، فأتى عمُ ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ، ومتى أدفع إليه ماله ، فأنزل الله تعالى { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ } أي اختبروهم في عقولهم وأبدانهم وحفظهم أموالهم { فَإِنْ آنَسْتُمْ } أبصرتم ، قال الله : { آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً } [ القصص : 1 ] . قال الشاعر : @ آنست نبأة وأفزعها القناص عصراً وقد دنا الإمساء @@ وفي مصحف عبد الله : فإن أحسنتم بمعنى أحسستم ، فحذف إحدى السينين كقولهم : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [ الواقعة : 65 ] . قال الشاعر : @ خلا إن العتاق من المطايا أحسن به فهنّ إليه شوس @@ { مِّنْهُمْ رُشْداً } . قرأه العامة : بضم الراء وجزم الشين . وقرأ السلمي وعيسى : بفتح الراء والشين ، وهما لغتان . قال المفسرون : يعني عقلا وصلاحاً وحفظاً للمال وعلماً بما يصلحه . قال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي : إن الرجل يأخذ بلحيته وما بلغ رشده فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخاً ، حتى يؤنس منه رشده . قال الضحاك : لا يُعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله . ذكر حكم الآية : اعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن اليتيم الصغير وجواز دفع ماله إليه بشيئين : البلوغ والرشد ، بعد أن أمر الأولياء بالابتلاء . ومعنى الابتلاء على ما ذكره جماعة من الفقهاء : الصغير لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون غلاماً أو جارية ، فإن كان غلاماً رُدَّ النظر في نفقة الدار إليه شهراً أو إعطائه شيئاً نزراً يتصرف فيه ليعرف كيف تدبيره وتصرفه فيه ، وإن كان جارية رُدَّ إليها ما يُرد إلى ربّة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه ، وفي الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته واستيفاء الغزل وجودته ، فإن رشدا وإلاّ بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما ، فأما البلوغ فإنه يكون بأحد خمسة أسباب ، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء واثنان يختص بهما النساء ، والتي يشترك فيها الرجال والنساء : فالاحتلام وهو إنزال المني ، فمتى أنزل واحد منهما فقد بلغ ، سواء كان من جُماع أو احتلام أو غيرهما ، والدليل عليه قوله : { وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } [ النور : 59 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : " خذ من كل حالم ديناراً أوعدله من المعافر " . واختلف العلماء فيه ، فقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : إذا استكمل الصبي خمس عشرة سنة أو أنبت حكمنا ببلوغه . وقال أبو حنيفة : إن كانت جارية فبلوغها سبع عشرة سنة ، وعنه في الغلام روايتان : أحدهما : تسع عشرة سنة ، وهي الأشهر وعليها النظر . وروى اللؤلؤي عنه : ثمان عشرة سنة . وقال مالك وداود : لا يبلغ بالسن ثم اختلفا ، فقال داود : لا يبلغ بالسن مالم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة ، وقال مالك : بلوغه بأن يغلظ صوته أو تنشق أرنبته . والدليل على أن حدّ البلوغ بالسن خمس عشرة سنة حديث عبد الله بن عمر قال : " عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أُحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني فلم يرني بلغت أي ، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني الله في المقاتلة " . والإنبات وهو أن ينبت : في الغلام أو الجارية الشعر الخشن حول الفرج . وللشافعي في الإنبات قولان : أحدهما : أنه بلوغ ، والثاني : دلالة البلوغ . وقال أبو حنيفة : لا يتعلق بالإنبات حكم ، وليس هو ببلوغ ولا دلالة عليه . والدليل على أن البلوغ بالإنبات متعلق بما روى عطية القرظي عن سعد بن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم حكّمه في بني قريظة قال : فمكثت أكشف عنهم فكل من أنبت قتلته ، ومن لم ينبت جعلته في الذرّية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " . قال عطية : فكنت ممّن لم ينبت فجعلني في الذرّية . وأما ما يختص به النساء : فالحيض والحبل ، يدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يقبل صلاة حائض إلاّ بخمار " فجعلها مكلفة بالحيض ، وهذا القول في حدّ البلوغ . فأما الرشد : فقد اختلف الفقهاء فيه ، فقال الشافعي : هو أن يكون صالحاً في دينه مُصلحاً في ماله ، والصلاح في الدين أن يكون متجنباً للفواحش التي يفسق بها ، وتسقط عدالته كالزنا واللواط والقذف وشرب الخمر ونحوها . وإصلاح المال : أن لا يضيّعه ولا يبذّره ولا يغبن في التصرف غبناً فاحشاً ، فالرشد شيئان : جواز الشهادة وإصلاح ، المال وهذا قول الحسن وربيعة ومالك . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إذا بلغ عاقلا مصلحاً لماله ، زال الحجر عنه بكل حال ، سواء كان فاسداً في دينه أو صالحاً فيه . فاعتبروا صلاح المال ولم يعتبروا صلاح الدين . ثم اختلفوا فيه إذا بلغ عاقلا مفسداً لماله : فقال أبو يوسف ومحمد : لا يزول الحجر عنه ويكون تصرفه باطلا إلاّ النكاح والعتق ، ويبقى تحت الحجر أبداً إلى أن يظهر رشده . وقال أبو حنيفة : إذا بلغ عاقلا زال الحجر عنه ، فإن كان مفسداً لماله منع من تسليم ماله إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة ، فإذا بلغها يسلّم المال إليه بكل حال ، سواء كان مفسداً له أو غير مفسد . وقيل : إنّ في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسداً ينفذ تصرفه على الإطلاق ، وإنما منع من تسليم المال إليه احتياطاً لماله ، فقال : وجه تحديده بخمس وعشرين سنة أنه قد يُحبل منه لاثني عشرة سنة ثم يولد له لستة أشهر ثم يُحمل لولده بأثني عشر سنة ثم يولد له لستة أشهر فيصير جداً . قال : وأستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدّاً ، وإذا حصل البلوغ والرشد دفع المال إليه سواء تزوج أو لم يتزوج . وقال مالك : إن كان صاحب المال جارية وتبلغ رشيدة ، فالحجر باق عليها ، وتمنع من مالها حتى تتزوج ، وإذا تزوجت يسلّم مالها ، إليها ولا يجوز لها أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها حتى تكبر وتجرّب ثم حينئذ يبعد تصرفها بغير إذنه ، واطلاق في الغلام . والذي يدل على فساد هذا المذهب ما " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد ثم نزل فذهب إلى النساء فوعظهن فقال : " تصدقن ولو من حليكنَّ " فكنَّ تتصدقنَّ فجعلت المرأة تلقي حرصها وسخائها ، فأمرهنَّ عليه السلام بالصدقة وقبلها منهنَّ ، ولم يفصل بين متزوجة وغير متزوجة ولا بين من تصدقت بإذن زوجها أو بغير إذنه ، فهذا القول في الحجر على الصغير ، وبيان حكم قوله : { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ } ، فأما قوله : { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ } الآية . حكم الكلام في الحجر على السفيه فاختلف العلماء فيه : فقال أبو حنيفة ونفر : لا حجر على حر بالغ عاقل بوجه ، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيراً . وهو مذهب النخعي ، واحتجوا في ذلك بما روى قتادة عن أنس : " أن حيان بن منقذ كان يخدع في البيع فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن حيان بن منقذ يعقد وفي عقده ضعف فأحجر عليه . فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : " لا تبع " فقال : لا أصبر عن البيع ، فقال له : " إذا بايعت فقل لا خلابه ولك الخيار ثلاثاً " " . فلما سأله القوم الحجر عليه على ما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل ، ثبت أنه لا يجوز . قال الشافعي : إن كان مفسداً لماله ودينه أو كان مفسداً لماله دون دينه حجر عليه ، وإن كان مفسداً لدينه مصلحاً لماله فعلى وجهين : أحدهما : يحجر عليه ، وهو اختيار أبي العباس بن شُريح . والثاني : لا يحجر عليه ، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي ، والأظهر من مذهب الشافعي ، وهو الذي ذكرناه من الحجر على السفيه ، قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد الله بن جعفر ، ومن التابعين شُريح وبه قال من الفقهاء : مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وادّعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة ، ما روى هشام بن عروة عن أبيه : أنّ عبد الله بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة بستين ألف درهم ، فغبن فيها فأراد عليّ أن يحجر عليه ، فأتى ابن جعفر إلى الزبير فقال : إني اشتريت وأن علياً يريد أن يأتي حبر المؤمنين فيسأله أن يحجر عليَّ . فقال الزبير : أنا شريكك في البيع ، فقال : عليَّ عثمان . وقال علي : إن ابن جعفر اشترى كذا وكذا أحجر عليه . وقال الزبير : أنا شريكه في البيع ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير . فثبت من هذه القصة إجماع الصحابة على جواز الحجر ، لأن عبد الله بن جعفر خاف من الحجر ، والزبير احتال له فيما يمنعه منه ، وعليّ سأل ذلك عثمان ، وعثمان اعتذر إليه في الامتناع منه . { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ } يا معشر الأوصياء والأولياء بغير حقها { إِسْرَافاً } والإسراف مجاوزة الحد والإفراط والخطأ ووضع الشيء في غير موضعه ، يقال : مررت بكم فسرقتكم ، أي فسهوت عنكم وأخطأتكم . قال جرير : @ أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم منَ ولا سرف @@ أي خطأ ، يعني أنهم يصيبون مواضع العطاء { وَبِدَاراً } مبادرة { أَن يَكْبَرُواْ } أن في محل النصب يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذراً أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم ، ثم بيّن ما يحل لهم من مالهم ، فقال عز من قائل : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً } عن مال اليتيم { فَلْيَسْتَعْفِفْ } عن مال اليتيم ، فلا يجوز له قليلا ولا كثيراً ، والعفة الامتناع ممّا لا يحل ولا يجد فعله ، قال الله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } [ النور : 33 ] . { وَمَن كَانَ فَقِيراً } محتاجاً إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده { فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } واختلف العلماء فيه : فقال بعضهم : المعروف القرض ، نظيره قوله : { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ } [ النساء : 114 ] يعني القرض ، ومعنى الآية : تستقرض من مال اليتيم فإذا أيسر قضاه ، فإن لم يقدر على قضائه فلا شيء عليه . وقال به سعيد بن جبير وعبيدة السلماني وأبي العالية ، وأكثر الروايات عن ابن عباس . قال مجاهد : ليستسلف منه فيتجر فيه فإذا أيسر أدى ، ودليل هذا التأويل ما روى إسرائيل وسفيان عن إسحاق عن حارثة بن مصرف قال : قال عمر بن الخطاب : ألا إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت فإن افتقرت أكلت بالمعروف وإن أيسرت قضيت . وقال الشعبي : لا تأكله إلاّ أن تضطر إليه كما تضطر إلى الميتة . وقال آخرون : ( بالمعروف ) هو أن يأكله من غير إسراف ولا قضاء عليه فيما يأكل ، ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف : فقال عطاء وعكرمة والسدي : يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف في الأكل ، ولا يكتسي منه . وقال النخعي : لا يلبس الحلل ولا الكتان ، ولكن ما سدَّ الجوعة ووارى العورة . وقال بعضهم : هو أن يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه ، فأما الذهب والفضة فلا ، فإن أكله فلابد من أن يرده ، وهذا قول الحسن وجماعة . قال قتادة : كان اليتيم يكون له الحائط من النخل فيقوم وليّه على صلاحه وسقيه فيصيب من ثمرته ويكون له الماشية ، فيقوم وليه على صلاحها وعلاجها فيصيب من جزازها وعوارضها ، فأما رقاب المال وأصولها فليس له أن يستهلكها . وقال الضحاك : المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم وليس له أن يأكل من ماله شيئاً . وروى بكر بن عبد الله بن الأشج عن القاسم بن محمد قال : حضرت ابن عباس ، فجاءه رجل فقال : يابن عباس إن لي أيتاماً ولهم ماشية ، فهل عليَّ جُناح في رسلها وما يحل لي منها ؟ فقال : إن كنت ترد نادتها وتبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتفرط لها يوم وردها ، فاشرب من فضل ألبانها عنهم غير مضر بأولادها ولا تنهكها في الحلب . قال بعضهم : المعروف هو أن يأخذ من جميع ماله ، إذا كان يلي ذلك بقدر قيامه ( وخدمته ) وعمله وأُجرته ، وإن أتى على جميع المال ولا قضاء عليه ، وهذا طعمة من الله تعالى له وبه . قالت به عائشة وجماعة من العلماء ، وقال محمد بن كعب القرظي { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } : عن مال اليتيم ولا تأكل منه شيئاً وأجره على الله { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } يتقرم بتقرم البهيمة ، وينزل نفسه بمنزلة الأجير فيما لابد له منه والتقرم : الالتقاط من نبات الأرض وبقلها ، ودليل هذا التأويل ما روى ابن أبي نجيح عن المحسن العوفي عن ابن عباس قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن في حجري يتيماً أفأضربه ؟ فقال : " ممّا كنت ضارباً منه ولدك " قال : يا رسول الله أفآكل من ماله ؟ قال : " بالمعروف غير متأثل من ماله ولا واقياً مالك بماله " " . وأصل المعروف ما تيسر على الإنسان فطابت نفسه به ، قال الله تعالى : { مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 241 ] . { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } هذا أدب من الله تعالى ، ليعلم أن الولي قد أدى الأمانة وينقطع عنه الظنّة وتزول عنه الخصومة وليس بفريضة { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } محاسباً ومجازياً وشاهداً .