Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 28-33)

Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } قال الضحاك وأبو عبيدة : قذر ، وقال ابن الأنباري : خبيث يقال : رجل نجس وامرأة نجس ورجلين وأمرأتان نجس ورجال ونساء نُجُس بفتح النون والجيم أو نجُس بضم الجيم ورجس في هذه الأحوال لايثنّى ولا يجمع لأنّه مصدر ، وأما النجس بكسر النون وجزم الجيم فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس ، فإذا أُفرد قيل : نَجِس بفتح النون وكسر الجيم أو نجُس بضم الجيم . وقرأ ابن السميقع : إنما المشركون أنجاس ، كقولك أخباث على الجمع ، واختلفوا في معنى النجس والسبب الذي من أجله سمّاهم بذلك ، فروي عن ابن عباس : ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب ، وهذا قول غير مرضي لمعنيين أحدهما أنه روي عنه من وجه غير حميد فلا يصح عنه ، والآخر أن هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين ؛ لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام ، ولا يستوي في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد ، واحتج من قال أعيانهم نجسة بما روي أن عمر بن عبد العزيز كتب أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، وأتبع نهيه بقول الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } . وكما روي عن الحسن أنه قال : لا تصافحوا المشركين . فمن صافحهم فليتوضّأ ، وقال قتادة : سمّاهم نجساً لأنهم يجنبون ولايغتسلون ، ويحدثون ولا يتوضؤون ، فمنعوا من دخول المسجد لأن الجنب لاينبغي أن يدخل المسجد . وقال الحسين بن الفضل : هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين فسموا نجساً على الذّم ، يدلّ عليها ما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى حذيفة فأخذ صلى الله عليه وسلم بيده ، فقال حذيفة : يارسول الله إنّي جنب ، فقال : " إن المؤمن لا ينجس " " . { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } قال أهل المعاني : أراد بهذا منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام ، قال عطاء الحرم كلّه قبلة ومسجد وتلا هذه الآية . جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الحرم إلا أهل الجزية أو عبد لرجل من المسلمين ، ونساؤهم حل لكم ، وقرأ : { بعد عامهم هذا } يعني العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه عنه بالناس ، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة وهو سنة تسع في الهجرة { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } الآية . قال المفسرون : وكان المشركون يجلبون إلى البيت الطعام ويتّجرون ويتبايعون ، فلمّا منعوا من دخول الحرم شقّ ذلك على المسلمين ، والقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال لهم : من أين تأكلون وتعيشون وقد بقي المشركون وانقطعت عنهم العير . فقال المؤمنون : يارسول الله قد كنّا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم فالآن تنقطع عنّا الأسواق ويملك التجارة ، ويذهب ما كنّا نصيب منها من المرافق ، فأنزل الله عز وجل { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } . وقال عمرو بن فايد : معناه وإذا خفتم ؛ لأن القوم كانوا قد خافوا ، وذلك هو قول القائل : إن كنت أبي فأكرمني يعني ( إن خفت ) عيلة فقراً وفاقة . يقال عال يعيل عيلة وعيولا . قال الشاعر : @ فلا يدري الفقير متى غناه ولايدري الغني متى يعيل @@ وفي مصحف عبد الله : وإن خفتم عايلة أي ( حصلة ) يعول عليكم أي يشق { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } وذلك أنه أنزل عليهم مطراً مدراراً فكثر خيرهم حين ذهب المشركون . وقال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وطهوا الطعام إلى مكة على ظهور الإبل والدواب ، وكفاهم الله عز وجل ما كانوا يتخوّفون . قال الكلبي : اخصبت [ … ] ، وكفاهم الله ما أهمّهم ، وقال الضحاك وقتادة : قسم الله منها ماهو خير لهم وهو الجزية فأغناهم الله وذلك قوله : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } قال مجاهد : نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرب الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك . وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود واراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أخذ الجزية فأنزل الله ) عز وجل : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِر } . { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ } أراد الدين الحق فأضاف الاسم إلى الصفة . قال قتادة : الحق هو الله عز وجل ، ودينه الإسلام ، وقال أبو عبيدة معناه : طاعة أهل الإسلام ، وكل من أطاع ملكاً أو ذا سلطان فقد دان له ديناً . قال زهير : @ لئن حللت بجو في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدك @@ أي في طاعة عمرو . { مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } يعني اليهود والنصارى يؤخذ منهم الجزية وألاّ يقاتلوا ، ويؤخذ الجزية أيضاً من الصابئين والسامرة ؛ لأن سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فيها ، ويؤخذ الجزية أيضاً من المجوس ، وقد قيل : إنهم كانوا من أهل الكتاب فرفع كتابهم . أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الوزان ، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين ، حدّثنا محمد بن يحيى و [ … ] قالا : حدّثنا عثمان بن صالح ، حدّثنا ابن وهب ، أخبرنا يوسف عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر " ، وأن عمر أخذها من مجوس السواد وأن عثمان بن عفان أخذها من بربر . ابن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين ، حدّثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا : حدّثنا أبو عاصم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : " قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا أدري كيف أصنع المجوس ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سنّوا بهم سنة أهل الكتاب " . قال أبو عاصم : مشيت ميلاً وهرولت ميلاً حتى سمعت من جعفر بن محمد ، حدّثنا ، يعني هذا الحديث ، وإنما منعنا من نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم ( وإتيان ) الفروج والاطعمة على الخطر ، ولا يجوز الإقدام عليها بالشك . قال الحسن : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذه الجزيرة على الإسلام لا يقبل منهم غيره ، وكان أفضل الجهاد ، وكان بعده جهاد آخر على هذه الطعمة في شأن أهل الكتاب . { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } ألاّ يتبعوا ماسواهما بدعة وضلالة ، ولايؤخذ الجزية من الأوثان { حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ } وهو ما يعطي المعاهد على عهده من الجزية ، وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى عليه ، والجزية مثل القعدة والجلسة ومعنى الكلام : حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعاً عنها . وأما قدرها : فقال أنس : قسَّم النبي على كل محتلم ديناراً ، وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الفقراء من أهل الذمة كل واحد منهم درهماً ، وعلى الاوساط أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين درهماً ، ولم يجاوز به خمسين درهماً ، وليس شيء موقت ولكن على ما صولحوا عليه . { عَن يَدٍ } أي بالنقل من يده إلى يد من يدفعه إليه ، كما يقال كلّمته فماً لفم . وقال أبو عبيدة : يقال : أكلّ من [ … ] من غير طيب نفس منه أعطاه عن يد ، وقال القتيبي : يقال : أعطاه عن يد وعن ظهر يد إذا أعطاه مبتدئاً غير مكلف . وقال ابن عباس : هو أنها يعطونها بأيديهم ، يمشون بها كارهين ولايجيئون بها ركباناً ولا يرسلون { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أذلاّء مقهورون ، قال ابن عباس يتلتلون بها تلتلة وقال عكرمة : معنى الصغار هو أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم . قال الكلبي : إنه إذا ( جاء يعطي ) صفع في قفاه ، وقيل : إعطاؤه إياها هو الصغار ، وقيل : إنّه لا يقبل فيها رسالة ولا وكالة ، وقيل : إنه يجري عليهم أحكام الإسلام وهو الصَغَار . أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن جعفر ، حدّثنا علي بن حرب ، حدّثنا السباط ، حدّثنا عبد العزيز بن [ … ] عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاء إلى ابن عباس رجل فقال : الأرض من أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأودي خراجها ؟ قال : لا ، وجاء آخر فقال له ذلك قال : لا وتلا قوله : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } الآية إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } ، أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينزعه فيجعله في عنقه ؟ وقال كليب بن وائل : قلت لابن عمر : إشتريت أرضاً ، قال : الشراء حسن . قال : فإنّي أعطي من كل جريب أرض درهما وقفيز طعام ؟ قال : ولا تجعل في عنقك صغاراً . وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر قال ما يسرّني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها الصغار على نفسي . { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } الآية ، روى سعيد بن جبير ، وعكرمة عن ابن عباس . قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مسلم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف قالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله . فأنزل الله في قولهم : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } ، وقرأ ابن محيصن وعاصم والكسائي : عزيرٌ بالتنوين ، وهو قول أبي عبيد وأبي حاتم . وقرأ الباقون بغير تنوين ، فمن نوّن قال : لأنه اسم خفيف فوجهه أن ينصرف وإن كان أعجمياً مثل نوح ولوط وهود ، وقال أبو حاتم والمبرّد : الاختيار التنوين لأنه ليس بمنسوب ، والكلام ناقص وفي موضع الخبر وليس بنصب ، وإنما جاز التنوين في النعت إذا كان الاسم يستغني عن الابن أو ينسب إلى اسم معروف أو لقب غلب عليه ، مثل محمد بن عبد الله ويزيد ابن عبد الله ، لأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد فينوّن في الخبر ويحذف في الصفة ، وربما أثبتوا التنوين في الصفة ، ويقول الشاعر ، أنشده الفرّاء : @ والاّ تكن مال هناك فإنّه سيأتي ثنائي زيداً بن مهلهل @@ وأنشد الكسائي [ … ] مذهبه . وقال أبو عبيدة : هذا ليس بمنسوب إلى أبيه إنما هو كقولك : زيد ابن الامير ، وزيد بن عبد الله ، فعزير يكون بعده خبر . ومن ترك التنوين قال : لأنه اسم اعجمي ويشبه اسماً مصغراً . وقال الفرّاء : لما كانت النون من عزير ساكنة ( وهي نون التنوين ) والباء من الابن ساكنة والتقى ساكنان حذف الأول منهما استثقالاً لتحريكه ، كما قال : لتجدني بالأمير براً ، وبالقناة مدعاً مكراً ، إذا غطيف السلمّي فرّا . فحذف النون الساكن الذي استقبلها ، وقال الزجّاج : يجوز أن يكون الخبر محذوفاً تقديره : عزير ابن الله معبودنا . قال عبيدة بن عمير : إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا وهو الذي قال : إن الله فقير يستقرض . عطية العوفي عن ابن عباس قال : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } فانما قالوا ذلك من أجل أن عزيراً كان في أهل الكتاب ، وكانت التوراة عندهم ما شاء الله أن يعلموا ، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق ، وكان التابوت فيهم ، فلمّا رأى الله عز وجل أنهم أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء وأذهبوا التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، فأرسل الله عزّ وجل عليهم مرضاً فاستطالت بطونهم حتى جعل الرجل يمسّ كبده ، حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم ، وفيهم عزير فمكثوا ماشاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم ، وكان عزير قبل من علمائهم فدعا عزير ( الله ) وابتَهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم ، فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة ، فأذّن في قومه فقال : ياقوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليَّ فعلق يعلّمهم فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا وهو يعلّمهم ، ثم إن التابوت تُرك بعد ذلك ، وبعد ذهابه منهم ، فلمّا رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلّمهم فوجدوه مثله ، فقالوا : والله ما أُتي عُزير هذا إلا إنّه ابن الله . وقال السدّي وابن عباس في رواية عمار بن عمار : إنما قالت اليهود عزير ابن الله لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا كتب التوراة في الجبال وغيرها ، فلحق عزير بالجبال والوحوش ، وجعل يتعبّد في الجبال ، ولا يخالَط ولا يُخالط الناس ولاينزل إلا يوم عيد ، وجعل يبكي ويقول : يارب تركت بني إسرائيل غير عالم فجعل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه ، فنزل مرة إلى العيد فلمّا رجع إذا هو بامرأة قد خلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول : يامطعماه ياكاسياه . فقال لها عزير : يا هذه اتقي الله واصبري واحتسبي ، أما علمتِ أنّ الموت سبيل الناس ، وقال : ويحك من كان يطعمكِ ويكسوكِ قبل هذا الرجل يعني زوجها الذي كانت تندبه قالت : الله ، قال : فإن الله حي لم يمت ، قالت : ياعزير فمن كان يعلّم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله ، قالت : فلم تبكي عليهم ، وقد علمت أن الموت حق وأن الله حي لايموت ، فلمّا عرف عزير أنه قد خُصم ولّى مدبراً . فقالت له : يا عزير إنّي لست بامرأة ولكني الدنيا ، أما إنّه ينبع ماء في مصلاك عين ، وتنبت شجرة فكلْ من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصلِّ ركعتين فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذ منه ، فلمّا أصبح نبعت من مصلاّه عين ، ونبتت شجرة ففعل ما أمرته به ، فجاء شيخ فقال له : افتح ، قال : ففتح فاه وألقى فيه شيئاً كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعاً كهيئة القوارير ثلاث مرات ، ثم قال له : ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك ، قال : فدخلها فجعل لايرفع قدمه إلا زيد في علمه حتى انتهى إلى قومه ، فرجع إليهم وهو من أعلم الناس بالتوراة . فقال : يابني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة . قالوا : ياعزير ماكنت كاذباً ، فربط على كل اصبع له قلماً وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة على ظهر قلبه ، فأحيا لهم التوراة ، وأحيا لهم السنّة ، فلمّا رجع العلماء استخرجوا كتبهم التي دفنوها من توراة عزير فوجدوها مثلها ، فقالوا : ما أعطاه الله ذلك إلا لأنه ابنه . وقال الكلبي : إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذ ذاك غلاماً صغيراً فاستضعفوه ، فلم يقبله ولم يدرِ أنه قرأ التوراة ، فلمّا توفي مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة ، فبعث الله عز وجل عزيراً ليجدد لهم التوراة ويكون آية لهم ، فأتاهم عزير وقال : أنا عزير فكذّبوه وقالوا : إن كنت كما تزعم عزير فاتلُ علينا التوراة ، فكتبها وقال : هذه التوراة . ثم إن رجلاً قال : إن أبي حدّثني عن جدي أن التوراة جعلت [ لنبي ] ثم دفنت في كوّم فانطلقوا معه حتى احتفرها وأخرجوا التوراة وعارضوا بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منه حرفاً ولا آية فعجبوا وقالوا : ابن الله ، ما جعل التوراة في قلب رجل واحد بعد ما ذهبت من قلوبنا إلا أنه ابنه ، فعند ذلك قالت اليهود : عزير ابن الله . وأما النصارى [ فقيل ] : إنّهم كانوا على [ دين واحد ] سنة بعدما رُفع عيسى ، يصلّون القبلة ويصومون رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له : يونس قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ، ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فكفرنا وجحدنا والنار مصيرنا ، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ، إني احتال فأضلّهم حتى يدخلوا النار ، وكان لها فرس يقال له : العقاب يقاتل عليها فغرقت فرسه وأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب . فقال له النصارى : مَن أنت ؟ قال يونس : عدوكم [ سمعت ] من السماء : ليس لك توبة إلا أن تتنصّر وقد تبت ، فأدخلوه الكنيسة ودخل بيتاً سنة لايخرج منه ليلاً ولا نهاراً حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال [ لهم ] إن الله قبل توبتك ، فصدّقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس ، واستخلف عليهم نسطور وعلّمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، ثم توجه إلى الروم وعلّمهم اللاهوت والناسوت وقال : لم يكن عيسى بإنس فتأنّس ولابجسم فتجسّم ولكنّه ابن الله ، وعلَّم ذلك رجلاً يقال له : يعقوب . ثم دعا رجلاً يقال له : ملكاً وقال له : إن الله لم يزل ولا يزال عيسى عليه السلام ، فلمّا استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً ، وقال لكل واحد منهم : أنت خليفتي ، ولقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني ، وقال لكل واحد منهم : إني غداً أذبح نفسي فادع الناس للمذبحة ، ثم دخل المذبحة فذبح نفسه ، وقال : إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى ، فلمّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى ( نحلته ) فتبع كل واحد طائفة من الناس واقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا ، فجميع النصارى من الفرق الثلاث . { ذٰلِكَ } يعني قول النصارى : إن المسيح ابن الله { قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } يقولون بألسنتهم من غير علم . قال أهل المعاني : إن الله عز وجل لايذكر قولاً مقروناً بذكر الأفواه والألسن إلا وكان ذلك القول زوراً كقوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] ، و { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ الفتح : 11 ] ، وقوله : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [ الكهف : 5 ] { يُضَاهِئُونَ } قال ابن عباس : يُشبهون وعنه أيضاً : يحكون ، وقال مجاهد : يواطئون . وقال ذي نون : وفيه لفضان يضاهئون بالهمزة وهي قراءة عاصم ، ويضاهون بغير همزة وهي قراءة العامة ، يقال : ضاهيته وضاهأته بمعنى واحد { قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } قال قتادة والسدي : ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقال النصارى : المسيح ابن الله كما قال اليهود : عزير بن الله ، وقال مجاهد : يضاهئون قول المشركين حين قالوا اللات والعزى ومناة بنات الله ، وقال الحسن : شبّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأُمم الكافرة ، وقال لمشركي العرب حين حكى عنهم ، { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ } [ البقرة : 118 ] ، ثم قال : { كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] وقال القيتبي : يريد إن مَن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أوّلوهم . { قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ } قال ابن عباس : لعنهم الله ، وكل شيء في القرآن قتل هو لعن ، ومثله قال أبان بن تغلب : @ قاتلها الله تلحاني وقد علمت أني لنفسي إفسادي وإصلاحي @@ وقال ابن جريج : قاتلهم الله وهو بمعنى التعجب { أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } أي يكذبون ، ويصرفون عن الحق بعد قيام الدلالة عليه { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ } قال الضحاك : علماءهم ، وقرأ : رهبان ، وأحبار العلماء : واحدهم حَبر وحِبر بكسر الحاء وفتحها والكسر أجود ، وكان يونس الجرمي يزعم أنه لم يسمع فيه إلا بكسر الحاء ، ويحتج فيه بقول الناس : هذا محبر يريدون مداد عالم ، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع وأهل الأصفاد في دينهم ، يقال : راهب ورهبان مثل فارس وفرسان ، وأصله من الرّهبة وهي الخوف كأنهم يخافون الله { أَرْبَاباً } سادة { مِّن دُونِ ٱللَّهِ } يطيعونهم في معاصي الله . مصعب بن سعد عن " عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب . فقال : يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك ، قال : فطرحته ثم انتصب وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً } من دون الله حتى فرغ منها فقلت له : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : أليس يحرّمون حلال الله فتحرّمونه ، ويحلّون ماحرّم الله فتحلّونه ، قال : فقلت : بلى " . قال أبو الأحوص : عن عطاء بن أبي البختري في قول الله عز وجل : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً } قال : أما [ لو أمروهم ] أن يعبُدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنّهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه ، وحرامه حلاله فأطاعوهم ، فكانت تلك الربوبية . وقال الربيع : قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني اسرائيل ؟ قال : إنهم وجدوا في كتاب الله عز وجل ما أمروا به ونهوا عنه ، فقالوا : لن نسبق أحبارنا بشيء فما أمرونا بشيء ائتمرنا ومانُهينا عنه فانتهينا ، الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . وقال أهل المعاني : معناه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم كالأذناب حيث أطاعوهم في كل شيء ، كقوله : { قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } [ الكهف : 96 ] أي كالنار ، وقال عبد الله المبارك : وهل بدّل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها . { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ } نزّه نفسه { عَمَّا يُشْرِكُونَ } القراءة بالياء وقرأ ابن أبي إسحاق بالتاء { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي يبطلوا دين الله بألسنتهم ، بتكذيبهم إياه وإعراضهم عنه . وقال الكلبي : يعني يردون القرآن بألسنتهم تكذيباً له ، وقال ابن عباس : يريد اليهود والنصارى أن يلزموا توحيد الرحمن بالمخلوقين الذين لا تليق بهم الربوبية ، وقال الضحاك : يريدون أن يهلك محمد وأصحابه ولايعبد الله بالاسلام . { وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } أي يُعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } وإنما أدخلت إلا لأن في أبت طرفاً من الجحد ، ألا ترى أنّ قولك يثبت أن أفعل ولما فيه من الحذف تقديره : ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره ، كما قال : @ وهل لي أُمّ غيرها أن تركتها أبى الله إلاّ أن أكون لها إبنا @@ هو الذي يعني يأبى إلاّ إتمام دينه { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { بِٱلْهُدَىٰ } قال ابن عباس : بالقرآن ، وقيل : تبيان فرائضه على خلقه ، { ودين الحق } وهو الإسلام . { وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } أي يُعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله ولو كره الكافرون { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه وينصره ويظفره { عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } على سائر الملل كلها { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } . واختلف العلماء بمعنى هذه الآية ، فقال ابن عباس : الهاء عائدة على الرسول صلى الله عليه وسلم يعني ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهره عليها حتى لايخفى عليه منها شيء ، وقال الآخرون : الهاء راجعة إلى دين الحق . قال أبو هريرة والضحاك : ذلك عند خروج عيسى عليه السلام إذا خرج اتبعه كل دين وتصير الملل كلها واحدة ، فلا يبقى أهل دين إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية إلى المسلمين . قال السدّي : وذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج . وقال الكلبي : لايبقى دين إلا ظهر عليه الإسلام وسيكون ذلك ، ولم يكن بعد ، ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك . قال المقداد بن الأسود : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لايبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام إما بعز عزيز وإما بذل ذليل ، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله فيعزّوا ، وإما يذلّهم فيدينون له " . عن الأسود أو سويد بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى " . قالت : قلت : يا رسول الله ما كنت أظن أن يكون ذلك بعد ما أنزل الله على رسوله . { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ } . قال : يكون ذلك ماشاء الله عز وجل ، ثم يبعث ريحاً فيقبض كل من كان في قلبه مثقال ذرة من خير ، ثم يبقي من لا خير فيه ويرجع الناس إلى دين آبائهم . " وقال الحسين بن الفضل : معناه : ليظهره على الأديان كلها بالحجج الواضحة والبراهين اللامعة فيكون حجة هذا الدين أقوى ، وقال بعضهم : قد فعل الله ذلك ونُجزت هذه العدة لقوله سبحانه { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] . وقال بعضهم : هو أن يظهر الإسلام في كل موضع كان يجري على أهلها صَغَار في أي موضع كانوا ، لايؤخذ منهم جزية كما يؤخذ من أهل الذمة . وقيل : معناه : ليظهره على الاديان كلها التي في جزيرة العرب فيظهره على دينهم ويغلبهم في ذلك المكان . وقيل : هو جريان حكمته عليهم والله أعلم .