Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 108-108)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إذن : فالحق سبحانه لم يُقصِّر مع الخلق ، فقد خلق لكم العقول ، وكان يكفي أن تفكّروا بها لتؤمنوا من غير مجيء رسول ، وكان على هذه العقول أن تفكر في القويُّ الذي خلق الكون كله ، بل هي التي تسعى لتطلب أن يرسل لها القويّ رسولاً بما يطلبه سبحانه من عباده ، فإذا ما جاء رسول ليخبرهم أنه رسول من الله ويحمل البلاغ منه ، كان يجب أن تستشرف آذانهم لما يقول . إذن : كان على العباد أن يهتدوا بعقولهم ولذلك نجد أن الفلاسفة حين بحثوا عن المعرفة ، قالوا : إن هناك " فلسفة مادية " تحاول أن تتعرف على مادية الكون ، وهناك " فلسفة ميتافيزيقية " تبحث عما وراء المادة . فَمَنْ أعلمَ الفلاسفة - إذن - أن هناك شيئاً وراء المادة . وكأن العقل المجرد ساعةً يرى نُظُم الكون الدقيقة كان يجب أن يقول : إن وراء الكون الواضح المُحَسِّ قوة خفية . ولم يذهب الفلاسفة إلى البحث فيما وراء المادة ، إلا لأنهم أخذوا من المادة أن وراءها شيئاً مستوراً . والمستور الذي وراء المادة هو الذي يعلن عن نفسه ، فهو أمر لا نعرفه بالعقل . وقديماً ضربنا مثلاً في ذلك ، وقلنا : هَبْ أننا جالسون في حجرة ، ودقَّ جرس الباب ، فعلم كل مَنْ في الحجرة أن طارقاً بالباب ، ولم يختلف أحد منهم على تلك الحقيقة . وهذا ما قاله الفلاسفة حين أقرُّوا بوجود قوة وراء المادة ، ولكنهم تجاوزوا مهمتهم ، وأرادوا أن يُعرِّفونا ماهية أو حقيقة هذه القوة ، ولم يلتفتوا إلى الحقيقة البديهية التي تؤكد أن هذه القوة لا يمكن أن تُعْرَف بالعقل لأننا ما دُمْنا قد عرفنا أن بالباب طارقاً يدق فنحن لا نقول من هو ، ولا نترك المسألة للظن ، بل نتركه هو الذي يحدد لنا مَنْ هو ، وماذا يطلب ؟ لأن عليه هو أن يخبر عن نفسه . اطلبوا منه أن يعلن عن اسمه وصفاته ، وهذه مسائل لا يمكن أن نعرفها بالعقل . إذن : فخطأ الفلاسفة أنهم لم يقفوا عند تعقُّل أن هناك قوة من وراء المادة ، وأرادوا أن ينتقلوا من التعقُّل إلى التصور ، والتصورات ، لا تأتي بالعقل ، بل بالإخبار . وهنا يقول الحق سبحانه : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ … } [ يونس : 108 ] . والحق - كما نعلم - هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً ، وأن يأتي الحق من الرب الذي يتولى التربية بعد أن خلق من عدم وأمدَّ من عُدْم ، ولا يكلفنا بتكاليف الإيمان إلا بعد البلوغ ، وخلق الكون كله ، وجعلنا خلفاء فيه . وهو - إذن - مأمون علينا ، فإذا جاء الحق منه سبحانه وتعالى ، فلماذا لا نجعل المنهج من ضمن التربية ؟ لماذا أخذنا تربية المأكل والملبس وسيادة الأجناس ؟ كان يجب - إذن - أن نأخذ من المربِّي - سبحانه وتعالى - المنهج الذي ندير به حركة الحياة فلا نفسدها . وحين يقول الحق سبحانه : { جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ … } [ يونس : 108 ] . فمعنى ذلك أنه لا عُذْر لأحد أن يقول : " لم يُبلغْني أحدٌ بمراد الله " ، فقد ترك الحق سبحانه العقول لتتعقل ، لا أن تتصور . وجاء التصوُّر للبلاغ عن الله تعالى ، حين أرسل الحق سبحانه رسولاً يقول : أنا رسول من الله ، وهو القوة التي خلقت الكون ، وكان علينا أن نقول للرسول بعد أن تَصْدُق معجزته : أهلاً ، فأنت مَنْ كنا نبحث عنه ، فَقُل لنا : ماذا تريد القوة العليا أن تبلغنا به ؟ ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية : { فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ … } [ يونس : 108 ] . لأن حصيلة هدايته لا تعود على مَنْ خلقه وهداه ، بل تعود عليه هو نفسه انسجاماً مع الكون ، وإصلاحاً لذات النفس ، وراحة بال ، واطمئناناً ، وانتباهاً لتعمير الكون بما لا يفسد فيه ، وهذا الحال عكس ما يعيشه مَنْ ضل عن الهداية . ويقول الحق سبحانه عن هذا الصنف من الناس : { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا … } [ يونس : 108 ] . وكلمة { ضَلَّ } تدل على أن الإنسان الذي يضل كانت به بداية هداية ، لكنه ضَلَّ عنها . ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } [ يونس : 108 ] . وأنت لا توكِّل إنساناً إلا لأن وقتك لا يسع ، وكذلك قدرتك وعلمك وحركتك ، وهنا يُبلغ الرسول القوم : أنا لا أقدر أن أدفع عنكم الضلال ، أو أجبركم على الهداية لأني لست وكيلاً عليكم ، بل عليَّ فقط مهمة البلاغ عن الله سبحانه وتعالى ، وهذا البلاغ إن استمعتم إليه بخلاء القلب من غيره ، تهتدوا . وإذا اهتديتم فالخير لكم لأن الجزاء سيكون خلوداً في نعيم تأخذونه مقابل تطبيق المنهج الذي ضيَّق على شهوات النفس ، ولكنه يهدي حياة نعيم لا يفوته الإنسان ، ولا تفوت النعم فيه الإنسان . وإذا كان الإنسان مِنَّا يقبل أن يتعب ليتعلَّم حرفة أو عملاً أو صنعة أو مهنة ليكسب الإنسان من إتقان هذا العمل بقية عمره . أليس على هذا الإنسان أن يُقبِل على العبادة التي تصلح باله ، وتسرع به إلى الغاية انسجاماً مع النفس ، ومع المجتمع ، وتقويماً وتهذيباً لشهوات النفس ، وينال من بعد ذلك خلود النعيم في الآخرة . أما من يستكثر على نفسه الجدَّ والاجتهاد في تحصيل العلم ، أو تعلُّم مهنة أو حرفة ، فهو يحيا في ضيق وعدم ارتقاء ، فهو لا يبذل جهداً في التعلّم . ونرى مَنْ يتعلم ويبذل الجهد ، وهو يرتقي في المستوى الاجتماعي والاقتصادي ليصل إلى درجة الدكتوراة - مثلاً - أو التخصص الدقيق الذي يأتي له بِسعَة الرزق . وكلما كانت الثمرة التي يريدها الإنسان أينع وأطول عمراً كانت الخدمة من أجلها أطول . وقارن بين خدمتك لدينك في الدنيا بما ينتظرك من نعيم الآخرة وسوف تجد المسافة بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة شاسعاً ، ولا مقارنة . وقول الحق سبحانه : { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا … } [ يونس : 108 ] . نجد فيه كلمة { عَلَيْهَا } وهي تفيد الاستعلاء على النفس ، أي : أنك بالضلال - والعياذ بالله - تستعلي على نفسك ، وتركب رأسك إلى الهاوية . وفي المقابل تجد قول الحق سبحانه : { فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ … } [ يونس : 108 ] . وتجد " اللام " هنا تفيد المِلْك لذلك يقال : " فلان له " و " فلان عليه " . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه في ختام سورة يونس : { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ … } .