Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 18-18)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وكلمة { وَيَعْبُدُونَ } تقتضي وجود عابد ووجود معبود ووجود معنى للعبادة . والعابد أدنى حالاً من المعبود ، ومظهر العبادة والعبودية كله طاعة للأمر والانصراف عن المنهي عنه . هذا هو أصل العبادة ، ووسيلة القرب من الله . وحتى تكون العبادة في محلها الصحيح لا بد أن يقر العابد أن المعبود أعلى مرتبة في الحكم على الأشياء ، أما إن كان الأمر بين متساويين فيسمونه التماساً . إذن : فهناك آمر ومأمور ، فإن تساويا فالمأمور يحتاج إلى إقناع ، وأما إن كان في المسألة حكم سابق بأن الآمر أعلى من المأمور كالأستاذ بالنسبة للتلميذ ، أو الطبيب بالنسبة للمريض ، ففي هذا الوضع يطيع المأمور الآمر لأنه يفهم الموضوع الذي يأمر فيه . وكذلك المؤمن لأن معنى الإيمان أنه آمن بوجود إله قادر له كل صفات الكمال المطلق فإذا اعتقدت هذا فالإنسان ينفذ ما يأمر به الله ليأخذ الرضاء والحب والثواب . وإن لم ينفذ فسوف ينال غضب المعبود وعقابه . إذن : فأنت إن فعلت أمره واجتنبت نهيه نلت الثواب منه ، وإن خالفت تأخذ عقاباً لذلك لا بد أن يكون أعلى منك قدرة ، ويكون قادراً على إنفاذ الثواب والعقاب ، والقادر هو الله جل علاه . أما الأصنام التي كانوا يعبدونها ، فبأي شيء أمرتهم ؟ إنها لم تأمر بشيء لذلك لا يصلح أن تكون لها عبادة لأن معنى العبادة يتطلب أمراً ونهياً ، ولم تأمر الأصنام بشيء ولم تنه عن شيء ، بل كان المشركون هم الذين يقترحون الأوامر والنواهي ، وهو أمر لا يليق لأن المعبود هو الذي عليه أن يحدد أوجه الأوامر والنواهي . إذن : فمن الحمق أن يعبد أحدٌ الأصنم لأنها لا تضر من خالفها ، ولا تنفع من عبدها ، فليس لها أمر ولا نهي . ومن أوقفوا أنفسهم هذا الموقف نسوا أن في قدرة كل منهم أن ينفع الصنم وأن يضره ، فالواحد منهم يستطيع أن يصنع الصنم ، وأن يصلحه إذا انكسر ، أو يستطيع أن يكسره بأن يلقيه على الأرض . وفي هذه الحالة يكون العابد أقدر من المعبود على الضر وعلى النفع ، وهذا عين التخلف العقلي . إذن : فمثل هذه العبادة لون من الحمق ، ولو عُرِضَتْ هذه المسألة على العقل فسوف يرفضها العقل السليم . وعندما تجادلهم ، وتثبت لهم أن تلك الأصنام لا تضر ولا تنفع ، تجد من يكابر قائلاً : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } وهم بهذا القول يعترفون أن الله هو الذي ينفع ويضر ، ولكن أما كان يجب أن يتخذوا شفيعاً لهم عند الله ، وأن يكون الشفيع متمتعاً بمكانة ومحبة عند من يشفع عنده ؟ ثم ماذا يقولون في أن من تُقدم له شفاعة هو الذي ينهى عن اتخاذ الأصنام آلهة وينهى عن عبادتها ؟ وهل هناك شفاعة دون إذن من المشفوع عنده ؟ من أجل ذلك جاء الأمر من الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ . . } [ يونس : 18 ] . إذن : فمن أين جئتم بهذه القضية قضية شفاعة الأصنام لكم عند الله ؟ إنها قضية لا وجود لها ، وسبحانه لم يبلغكم أن هناك أصناماً تشفع ، وليس هذا وارداً ، فقولكم هذا فيه كذب متعمد وافتراء . فهو سبحانه الذي خلق السماوات وخلق الأرض ، ويعلم كل ما في الكون ، وقضية شفاعة الأصنام عنده ليست في علمه ، ولا وجود لها ، بل هي قضية مفتراة ، مُدَّعاة . وقوله الحق هنا : { أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ } مثلها مثل قوله الحق : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ … } [ الحجرات : 16 ] . ويعني هذا القول بالرد على من قالوا ويقولون : إن المطلوب هو تشريعات تناسب العصر ، وكلما فسد العصر طالبوا بتشريعات جديدة ، وما داموا هم الذين يشرِّعون ، فكأنهم يرغبون في تعليم خالقهم كيف يكون الدين ، وفي هذا اجتراء وجهل بقدرة وحكمة مَنْ خلق الكون ، فأحكمه بنظام . وقوله الحق : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فيه تنزيه له سبحانه ، فهو الخالق لكل شيء ، خالق الملك والملكوت ويعلم كل شيء ، وقضية شفاعة الأصنام إنما هي قضية مفتراة لا وجود لها لذلك فهي ليست في علم الله ، والحق سبحانه مُنزَّه أن توجد في ملكه قضية لها مدلول يقيني ولا يعلمها ، ومُنزَّه جل وعلا عن أن يُشرَك به لأن الشريك إنما يكون ليساعد من يشركه ، ونحن نرى على سبيل المثال صاحب مال يديره في تجارة ما ، ولكن ماله لا ينهض بكل مسئوليات التجارة ، فيبحث عن شريك له . وسبحانه وتعالى قوي وقادر ، ولا يحتاج إلى أحد في ملكية الكون وإدارته ، ثم ماذا يفعل هؤلاء الشركاء المدَّعون كذباً على الله ؟ إن الحق سبحانه يقول : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] . وهذا القول الحكيم ينبه المشركين إلى أنه بافتراض جدلي أن لهؤلاء الشركاء قوة وقدرة على التصرف ، فهم لن يفعلوا أي شيء إلا بابتغاء ذى العرش ، أي : بأمره سبحانه وتعالى . وهم حين ظنوا خطأ أن لكل فلك من الأفلاك سيطرة على مجال في الوجود ، وأن النجوم لها سيطرة على الوجود ، وأن كل برج من الأبراج له سيطرة على الوجود ، فلا بد في النهاية من الاستئذان من مالك الملك والملكوت . ومن خيبة من ظنوا مثل هذه الظنون ، ومعهم الفلاسفة الذين أقروا بأن هناك أشياء في الكون لا يمكن أن يخلقها إنسان ، أو أن يدَّعى لنفسه صناعتها لأن الجنس البشري قد طرأ على هذه المخلوقات ، فقد طرأ الإنسان على الشمس والقمر والنجوم والأرض ، ولا بد إذن أن تكون هناك قوة أعلى من الإنسان هي التي خلقت هذه الكائنات . كل هذه الكائنات تحتاج إلى مُوجِد ، ولم نجد معامل لصناعة الشمس أو القمر أو الأرض أو وجدنا من ادعى صناعتها أو خلقها . ولكن الفلاسفة الذين قبلوا وجود خالق للكون لم يصلوا إلى اسمه ولا إلى منهجه ، وقوة الحق سبحانه مطلقة ، ولا يحتاج إلى شريك له ، وإذا أردنا أن نتأمل ولو جزءاً بسيطاً من أثر قوة الله التي وهبها للإنسان ، فلنتأمل صناعة المصباح الكهربي . وكل منا يعلم أنه لا توجد بذرة نضعها في الأرض ، فتنبت أشجاراً من المصابيح ، بل استدعت صناعة مصباح الكهرباء جهد العلماء الذين درسوا علم الطاقة ، واستنبطوا من المعادلات إمكان تصور صناعة المصباح الكهربي ، وعملوا على تفريغ الهواء من الزجاجة التي يوضع فيها السلك الذي يضيء داخل المصباح ، وهكذا وجدنا أن صناعة مصباح كهربي واحد تحتاج إلى جهد علماء وعمل مصانع ، كل ذلك من أجل إنارة غرفة واحدة لفترة من الزمن . فما بالنا بالشمس التي تضيء الكون كله ، وإذا كان أتفه الأشياء يتطلب كمية هائلة من العلم والبحث والإمكانات الفنية والتطبيقية ، وتطوير للصناعات ، فما بالنا بالشمس التي تضيء نصف الكرة الأرضية كل نصف يوم ، ولا أحد يقدر على إطفائها ، ولا تحتاج إلى صيانة من البشر ، وإذا أردت أن تنسبها فلن تجد إلا الله سبحانه . وأنت بما تبتكره وتصنعه لا يمكن أن يصرفك عن الله ، والذكي حقاً هو من يجعل ابتكاراته وصناعاته دليلاً على صدق الله فيما أخبر . وإذا كان الحق سبحانه قد خلق الشمس - ضمن ما خلق - وإذا أشرقت أطفأ الكل مصابيحهم لأنها هي المصباح الذي يهدي الجميع ، وإذا كان ذلك هو فعل مخلوق واحد لله ، فما بالنا بكل نعمة من سائر مخلوقاته . ونور الشمس إنما يمثل الهداية الحسية التي تحمينا من أن نصطدم بالأشياء فلا تحطمنا ولا نحطمها ، فكذلك يضيء لنا الحق سبحانه المعاني والحقائق . وإياك أن تقول : إن الفيلسوف الفلاني جاء بنظرية كذا فخذوا بها ، بل دع عقلك يعمل ويقيس ما جاء بهذه النظرية على ضوء ما نزل في كتاب الحق سبحانه ، وإن دخلت النظرية مجال التطبيق ، وثبت أن لها تصديقاً من الكتاب ، فقل : إن الحق سبحانه قد هدى فلاناً إلى اكتشاف سر جديد من أسرار القرآن لأن الحق يريد منا أن نتعقل الأشياء وأن ندرسها دراسة دقيقة ، بحيث نأخذ طموحات العقل لتقربنا إلى الله ، لا لتبعدنا عنه ، والعياذ بالله . وإذا قال الحق سبحانه : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فذلك لأن الشركة تقتضي طلب المعونة ، وطلب المعونة يكون إما من المساوي وإما من الأعلى ، ولا يوجد مساوٍ لله تعالى ، ولا أعلى من الله سبحانه وتعالى . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً … } .