Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 37-37)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وحين تستمع للقرآن وما فيه من سر الأعداد والإخبار بالمغيبات التي لا تخضع لمنطق الزمان ، ولا لمنطق المكان ، فالفطرة السليمة توقن أن هذا القرآن لا يمكن أن يُفتَرى ، بل لا بد أن قائله ومُنزِّله عليم خبير لأن القرآن جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب السابقة . أي : أن ما به دائماً هو أمام الناس ، أو مواجه لهم ، وهو كتاب مصدِّق للكتب السابقة من قبل تحريفها كالتوراة والإنجيل والزبور ، وهي الكتب التي سبقت القرآن نزولاً ، لا واقعاً ، فجاء القرآن مصدِّقاً لها . أي : هي تصدقه ، وهي يصدقها من قبل تحريفها ، وهي الكتب التي بشَّرت بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ، مثلما جاء في القرآن عن تصديق عيسى عليه السلام بمجيء محمد عليه الصلاة والسلام : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ … } [ الصف : 6 ] . فلما جاء أحمد محمد صلى الله عليه وسلم ونزل عليه القرآن صدَّق الإنجيل في قوله هذا ، وما جاء في القرآن من عقائد أصيلة هي عقائد جاءت بها كل الكتب السماوية ، فالحق سبحانه يقول : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ النساء : 163 ] . ويقول الحق سبحانه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ … } [ الشورى : 13 ] . إذن : فهناك أصول جاءت بها كل الكتب السماوية ، وهناك كذلك أخبار أخبرت عن حدوثها الكتب السماوية ، وأبلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وفيه تلك الأخبار ، فمن أين جاء محمد صلى الله عليه وسلم بتلك العقائد الصحيحة ، وتلك الأخبار الموجودة في الكتب السابقة ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يكن من أهل الكتاب ، ولا عَلِمَ منهم شيئاً ؟ إذن : فعندما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء ذكره في الكتب السابقة على القرآن ، فهذه الكتب مصدقة لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لأن هذه الأخبار قد وقعت ، وهذا تأكيد لصدقه لأنه بشهادة أهل زمانه لم يجلس إلى معلِّم ، ولم يقرأ كتاباً ، وتاريخه وسيرته معروفة لأنه من أنفسكم ، ولم يُعْلَم عنه أنه قد زاول كلاماً بليغاً ، أو خطب في قوم قبل الرسالة ، أو قال شعراً . وبعد ذلك فوجىء هو - كما فوجئتم أنتم - بمجيء هذا البيان الرائع ، فمن أين جاء به ؟ أنتم تقولون إنه هو الذي جاء به ، لكنه صلى الله عليه وسلم ينسب الرفعة لصاحبها ، ويعلن أنه صلى الله عليه وسلم مُبلِّغ فقط ، فيقول ما أمره الله به أن يقوله : { قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ] . ويحضُّ القرآن الكريم النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يسألهم : هل لاحظوا على كلماته - من قبلُ - البلاغةَ والفصاحةَ أو الشعرَ ؟ ! ولننظر في " ماكُنَّات " القرآن الكريم ، وهي الآيات التي يقول فيها الحق سبحانه : { وَمَا كُنتَ } مثل قوله سبحانه : { ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ … } [ آل عمران : 44 ] . وهذا أمر ثابت في الأخبار . وقول الحق سبحانه : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ } [ القصص : 44 ] . والوحي إلى موسى - عليه السلام - والمكان الذي نزل فيه ذلك الوحي أمر ثابت في الأخبار . وقول الحق سبحانه : { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [ القصص : 45 ] . وكثير من هذه الآيات تجعل محمداً صلى الله عليه وسلم وكأنه يسأل المعاصرين له : كيف أخبرت بوقائع وأخبار لم أكن موجوداً في زمانها أو مكانها ؟ لا بد - إذن - أن الله الحق - سبحانه - هو الذي أخبرني بما وافق ما عندكم من أخبار . وبعد ذلك جاء القرآن الكريم مصدقاً لما بين يديه : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ … } [ البقرة : 97 ] . أي : أنه الكتاب الذي يضم صدق كل حدث قادم لأن القرآن خرق حُجُب وحُجُزَ الماضي والمستقبل . ونحن نعلم أن الأشياء الغيبية تحدث بسببين الأول : أن يتكلم عن شيء سبق الزمان الذي نزل فيه ، فهو يتكلم في الماضي الذي لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الاطلاع والتعلم ليعرفه ويعلمه . وكذلك خرق القرآن الكريم حجب الحاضر الذي عاصر نزوله ، هذا الحاضر الذي قد يكون محجوباً بالمكان . وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - فقد يحدث حادث في الإسكندرية في نفس الوقت الذي تكون أنت فيه موجوداً بالقاهرة ، وأنت لا تعلم هذا الحدث لأنه محجوب عنك ببعد المكان ، وحاجز المكان يتمثل - غالباً - في الأمور الحاضرة ، أما أمور المستقبل فهي محجوبة عنا بالزمان والمكان معاً . وحين يخبرنا القرآن الكريم بحدث ماضٍ لم يشهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتعلمه ، ولم يقرأ عنه إذن : فالقرآن إنما يخرق أمامنا حجاب الزمن الماضي . وإذا أخبر القرآن بحدث حاضر في غير مكان نزوله على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا خرق لحجاب المكان مثل قول الحق سبحانه : { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ … } [ المجادلة : 8 ] . وحين سمع المنافقون والكفار هذا القول الكريم ، لم ينكروا أنهم قالوا في أنفسهم ما جاء به القرآن ، وهكذا خرق القرآن حاجز المكان في أنفسهم هم . إذن : فأخبار الغيب في القرآن إما خَرْقٌ لزمان ماضٍ أو خرق لزمان الحال ، وإما خرق لزمان ومكان الاستقبال . ونحن نعلم أن القرآن كان ينزل والمسلمون ضعاف ، لا يستطيعون حماية أنفسهم ، ولا أحد يجير على أحد ، ويتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ليعرض الإسلام على أهلها ، لعلَّه يلتمس لهم مجيراً من أهل الطائف ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يجد إلا الإيذاء والإعراض ، ويوصي بعضاً من صحابته أن يهاجروا إلى الحبشة . وفي ظل كل هذه الأزمات ، ينزل قول القرآن : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ … } [ القمر : 45 ] . حتى إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يتساءل : أيُّ جمع هذا الذي يهزم ، ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا ؟ ثم تأتي غزوة بدر ويشهد عمر هزيمة وفرار مقاتلي قريش فيرى رأي العين صدق ما جاء به الوحي من قبل . وهكذا تأكد الجميع أن القرآن الكريم غير مُفترىً ، فكيف يُتَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه افتراه ؟ وإذا كان هذا القرآن مفترىً ، فلماذا لا تفترون مثله ؟ وفيكم الشعراء والبلغاء والخطباء ؟ ! ولم يقل محمد صلى الله عليه وسلم أنه بليغ أو خطيب أو شاعر ، ولم يطلب القرآن الكريم منهم أن يأتوا بواحد مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، لا صلة له بالبلاغة أو الفصاحة ، بل يطلب منهم أن يأتوا بالفصحاء كلهم ، ويدعوهم أن يقولوا مثل آية واحدة من القرآن . وإن قالوا : إن ما جاء به هو السحر ، وإن محمداً ساحر قد سحر العبيد والضعاف ، وأدخلهم في الإسلام ، فلماذا لم يسحركم محمد ؟ إن بقاءكم من غير سحر يدل على أن إطلاقكم كلمة السحر على ما جاء به دعوى كاذبة . ثم يقول الحق سبحانه : { وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ يونس : 37 ] . فالقرآن قد جاء فيه تفصيل كل الأحكام الصالحة إلى قيام الساعة ، أما الكتب السابقة على القرآن فكانت تضم الأحكام المناسبة لزمانها ، ولأمكنة نزولها . وهو كتاب { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي : لا شك فيه ، يكشف الكفار ، ويفضح ارتيابهم وكذبهم ، فَهُمْ قد اعترفوا بعظمة القرآن وقالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ … } [ الزخرف : 31 ] . إذن : فهم قد عرفوا أن القرآن لا عيب فيه ، ولا ريب ، حتى من الكافرين به . ويـأتي الرد على قولهم بالافتراء ، في قول الحق سبحانه : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ … } .