Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 39-39)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهذا الصنف من الناس الذين { كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ … } [ يونس : 39 ] ، وهم من أخذتهم المفاجأة حين حُدِّثوا بشيء لا يعرفونه ، والناس أعداء ما جهلوا فكذبوا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن قبل أن يتبينوا جمال الأداء فيه ، ونسق القيم العالية ، وإذا ما سنحت لهم فرصة يتبينون فيها جمال الأداء ، ودقة الإعجاز فهم يتجهون إلى الإيمان . ومثال ذلك : عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد كان كافراً ثم علم أن أخته وزوجها قد أسلما فذهب إليها في منزلها وضربها ، فأسال دمها ، وسيل الدم من أخت بضربة أخيها مثير لعاطفة الحنان ، وهذا ما حدث مع عمر فهدأت موجة عناده ، فاستقبل القرآن بروح لا عناد فيها فذهب فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من قبل ذلك ممن : { كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ … } [ يونس : 39 ] أي : لم يعرفوا مراميه ، وبمجرد أن سمعوا عن رسالته صلى الله عليه وسلم فجأة ، اتهموه بالكذب والعياذ بالله . ولذلك اقرأ قول الحق سبحانه : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً … } [ محمد : 16 ] . وهذا يدل على أنهم لم يفهموا ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وتأتي الإجابة من الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى … } [ فصلت : 44 ] . إذن : فالقرآن هدى لمن تتفتح قلوبهم للإيمان ، أما القلوب المليئة بالبغض لقائله وللإسلام فهؤلاء لا يمكن أن يصح حكمهم . وإن أراد أي منهم حكماً صحيحاً فليُخرجْ من قلبه ما يناقض ما يسمع ، ثم عليه أن يستقبل الأمرين ولسوف يدخل قلبه الأقوى حجة ، وهو الإسلام . إذن : فمن امتلأ قلبه بعقيدة كاذبة لا يمكن له أن يهتدي . { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ … } [ يونس : 39 ] . والتأويل هو ما يرجع الشيء إليه ، وهذا يوضح لنا أن هناك أقضية من القرآن لم يأت تفسيرها بعد ، ستفسرها الأحداث ، وقد يقول القرآن الكريم قضية غيبية ، ثم يأتي الزمن ليؤكد هذه القضية ، هنا نعرف أن تأويلها قد جاء . وهؤلاء القوم قد كَذَّبوا من قبل أن يأتي لهم التأويل ، وكان عدم مجيء التأويل هو السبب في تأخر بيان الحق في المسألة لتأخر زمنه . وعلى سبيل المثال ، ها هو ذا عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قامت المعركة بين معاوية بن أبي سفيان والإمام علي - رضي الله عنه - وَقاتَلَ عمَّار في صف عليّ ، وقُتِل . هنا تنبه الصحابة إلى تأويل حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " ويح عمار … تقتله الفئة الباغية " . وهكذا جاء تأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تحقق في الواقع ، وكان هذا سبباً في انصراف بعض الصحابة عن جيش معاوية . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ … } [ يونس : 39 ] . أي : أن التأويل لم يظهر لهم بعد . ومن أدوات النفي : " لم " مثل قولنا : " لم يَجِيءْ فلان " ، ونقول أيضاً : " لما يجيء فلان " ، والنفي في الأولى جزم غير متصل بالحاضر ، كأنه لم يأت بالأمس . أما النفي بـ " لما " فيعني أن المجيء مُنْتف إلى ساعة الكلام ، أي : الحاضر ، وقد يأتي من بعد ذلك لأن " لما " تفيد النفي ، وتفيد توقُّع الإثبات . والحق سبحانه يقول : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا … } [ الحجرات : 14 ] . وهؤلاء القوم من الأعراب قالوا : { آمَنَّا } رغم أنهم راءوا المسلمين وقلدوهم زيفاً ونفاقاً ، ولم يكن الإيمان قد دخل قلوبهم بعد ، وحين سمعوا قول الحق سبحانه : { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … } [ الحجرات : 14 ] . قالوا : الحمد لله لأن معنى ذلك أن الإيمان سوف يدخل قلوبهم . وكذلك قول الحق سبحانه : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] . فحين سمعوا ذلك قالوا : إذن : وثقنا أنه سيأتي علم الله سبحانه بنا كمجاهدين وصابرين . وهكذا نعرف أن { لَمَّا } تعني أن المنفي بها متوقع الحدوث . والتأويل كما نعلم هو مرجع الشيء . وقد جاء في القرآن الكثير من الأخبار لم تكن وقت ذكرها بالقرآن متوقعة ، أو مظنة أن توجد . وحين وُجدت ولا دخل لبشر في وجودها ، فهذا يعني أن قائل هذا الكلام قد أخذه عَمَّن يقدر على أن يوجد ، مثلما جاء في خبر انتصار الروم على الفرس رغم هزيمة الروم . قال الحق سبحانه : { غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ … } [ الروم : 2 - 5 ] . جاء هذا الخبر وانتظر المسلمون تأويله ، وقد جاء تأويله طبقاً لما أخبر القرآن . أو أن التأويل سيأتي في الآخرة ، وما يؤول الأمر في التكذيب سيعلمونه من بعد ذلك . والحق سبحانه يقول : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ … } [ الأعراف : 52 - 53 ] . هم ينتظرون ما يؤول إليه القرآن وما يؤولون إليه ، إن كان في الدنيا فنصر أهل القرآن ، وإن كان في الآخرة ، فهذا قول الحق سبحانه : { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ … } [ الأعراف : 53 ] . هذا هو التأويل الذي كذَّبه البعض من قبل . إذن : فالتأويل إما أن يكون لمن بقي من الكفار فيرى ما أخبر به القرآن وقد جاء على وفق ما أخبر به نبيٌّ لا يملك أن يتحكم في مصائر الأشياء ، وتأتي على وفق ما قال . فكأن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يجازف بأن يقول كلاماً لا يتحقق فينصرف عنه الذين آمنوا به ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا ما هو واثق ومطمئن من وقوعه لأن الخبر به جاء من لدن عليم خبير . وإما أن التأويل - أيضاً - يأتي في الآخرة . وهنا قال الحق سبحانه : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ … } [ يونس : 39 ] . والحق سبحانه هنا يلفت رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن ما حدث معه قد حدث مع رسل من قبله ، فقال سبحانه في نفس الآية : { كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ } [ يونس : 39 ] . أي : انظر لموكب الرسل كلهم من بدء إرسال الرسل ، هل أرسل الله رسولا ونصر الكافرين به عليه ؟ … لا ، لقد كانت الغلبة دائماً لرسل الحق عز وجل مصداقاً لقوله سبحانه : { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ … } [ المجادلة : 21 ] . وعرفنا ما حدث للظالمين ، فمنهم من أغرقه الله ، ومنهم من خسف به الأرض ، ومنهم من أخذه بالصيحة . إذن : فالتأويل واضح في كل مواكب الرسل التي سبقت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان كل قوم من الظالمين قد نالوا ما يناسب رسالة رسولهم ، فسينال القوم الظالمين الكافرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ما يناسب عمومية رسالته صلى الله عليه وسلم . وحين يقول الحق سبحانه : { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ } [ يونس : 39 ] لا بد لنا أن نعرف معنى الظلم ، إنه نقل الحق لغير صاحبه ، والحقوق تختلف في مكانتها ، فهناك حق أعلى ، وحق أوسط ، وحق أدنى . فإذا جئت للحق الأدنى في أن تنقل الألوهية لغير الله سبحانه وتعالى فهذا قمة الظلم ، والحق سبحانه يقول : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . لأن في هذا نقل الألوهية من الله سبحانه إلى غيره ، ويا ليت غيره كان صاحب دعوة بينه وبين الله تعالى ، لا ، فليس ذلك المنقول له الألوهية بصاحب دعوة ، بل تطوَّع الظالم من نفسه بذلك ، واتخذ من دون الله شريكاً لله ، وفي هذا تطوع بالظلم بغير مُدَّع . وهَبْ أن الله تعالى قال : لا إله إلا أنا ، فإما أن القضية صحيحة ، وإما أنها غير ذلك ، فإن افترض أحد - معاذ الله - عدم صحتها ، فالإله الثاني كان يجب أن يعلن عن نفسه ، ولا يترك غيره يسمع له ويعلن عنه ، وإلا كان إلهاً أصمَّ غافلاً ، ولكن أحداً لم يعلن ألوهيته غير الله سبحانه لذلك تثبت الألوهية الواحدة للإله الحق سبحانه وتعالى . وقد بيَّن لنا الحق سبحانه : لا إله إلا أنا ، أنا الخالق ، أنا الرازق . ولم يصدر عن أحد آخر دعوى بأنه صاحب تلك الأعمال ، إذن : فقد صَحَّت الدعوى في أنه لا إله إلا الله . والدرجة التالية في الظلم هي الظلم في الأحكام ، فإذا حكم أحد بحلِّ الربا فهذا ظلم في قضية كبيرة ، ولكن إن حكم قاض على مدين بأن يردَّ الدَّين فقط فهذا عدل وكذلك القاضي الذي يظلم في أحكامه إنما ينقل حقوق الناس إلى غيرهم . إذن : فالظلم يأخذ درجات حسب الشيء الذي وقع فيه الظلم . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ … } .