Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 45-45)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فهذه الدنيا التي يتلهف عليها الإنسان ، ويأخذ حظه فيها ، وقد ينسى الآخرة ، فإذا ما قامت القيامة فأنت تشعر كأنك لم تمكث في الدنيا إلا ساعة ، والساعة هي الساعة الجامعة التي تقوم فيها القيامة ، ولكن الساعة في الدنيا هي جزء من الوقت ، ونحن نعلم أن اليوم مقسَّم لأربع وعشرين ساعة ، وأيضاً تُطلق الساعة على تلك الآلة التي تُعلَّق على الحائط أو يضعها الإنسان على يده ، وهي تشير إلى التوقيت . والتوقيت ثابت - بمقدار الساعة والدقيقة والثانية - منذ آدم عليه السلام وإلى من سوف يأتون بعدنا ، ولكن التوقيت يختلف من مكان إلى آخر ، فتشير الساعة في القاهرة - مثلاً - إلى الثانية ظهراً ، وتكون في نيويورك السابعة صباحاً ، وتشير في بلد آخر إلى الثالثة بعد منتصف الليل ، ولا تتوحد الساعة بالنسبة لكل الخلق إلا يوم القيامة . ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ … } [ الروم : 55 ] . وهم - إذن - يُفاجَأون أن دنياهم الطويلة والعريضة كلها مرَّتْ وكأنها مجرد ساعة ، وهكذا يكتشفون قِصَر ما عاشوا من وقت ، ولا يقتصر الأمر على ذلك ، بل إنهم لم ينتفعوا بها أيضاً فهي مدة من الزمن لم تكن لها قيمة . والحق سبحانه يقول : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [ الأحقاف : 35 ] . أي : أن الدنيا تمر عليهم في لهو ولعب ومشاغل ، ولم يأخذوا الحياة بالجد اللائق بها فضاعت منهم وكأنها ساعة . ولذلك يقول الحق سبحانه هنا : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ ٱلنَّهَارِ … } [ يونس : 45 ] . ويوم الحشر ينقسم الناس قسمين : قسم مَنْ كانوا يتعارفون على البر ، وقسم مَنْ كانوا يتعارفون على الإثم ، فالذين تعارفوا في الحياة الدنيا على البر يفرحون ببعضهم البعض ، وأما الذين تعارفوا في الحياة الدنيا على الإثم فهم يتنافرون بالعداء ، والحق سبحانه هو القائل : { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] . وكذلك قال في الذين تعارفوا على الإثم : { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ … } [ البقرة : 166 ] . هم سيتعارفون على بعضهم البعض ، ولكن هذه المعرفة لا تدوم ، بل تنقلب إلى نكران ، فالواحد منهم لا يريد أن يرى مَنْ كان سبباً في أن يؤول إلى هذا المصير ، وتعارفهم سيكون تعارف تعنيف . ويقول الحق سبحانه : { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ … } [ يونس : 45 ] . وساعة تسمع كلمة " خسر " فاعرف أن الأمر يتعلق بتجارة ما ، والخسارة تعنى : أن يفقد الإنسان المتاجر إما جزءاً من رأس المال ، أو رأس المال كله . ومراحل التجارة - كما نعرف - إما كسب يزيد رأس المال المتاجَر فيه ، وإما ألاَّ يكسب التاجر ولا يخسر لكنه يشعر بأن ثمن عمله ووقته في هذه التجارة قد ضاع ، وكل ذلك يحدث في الصفقات . ونجد الحق سبحانه وتعالى يصف العملية الإيمانية في الدنيا بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الصف : 10 - 11 ] . ويقول سبحانه : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 29 ] . والتجارة تعتمد على أنك لا تُقبل على عقد صفقة إلا إذا غلب على ظنك أن هذه الصفقة سوف تأتي لك بأكثر مما دفعت فيها . ولذلك يقول الحق سبحانه عن الصفقات الخاسرة : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ البقرة : 16 ] . ويقول أيضاً : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً … } [ الجمعة : 11 ] . وشاء الحق سبحانه أن يجعل معنى التجارة واضحاً ومعبِّراً عن كثير من المواقف لأن التجارة تمثِّل جماع كل حركة الحياة فهذا يتحرك في ميدان لينفع نفسه ، وينفع غيره ، وغيره يعمل في ميدان آخر فينفع نفسه ، وينفع غيره . وبهذا يتحقق نفع الإنسان من حركة نفسه وحركة غيره ، وهو يستفيد من حركة غيره أكثر مما يستفيد من حركته هو ، ومن مصلحة أي إنسان أن يحسِّن كل إنسان حركته فيرتاح هو لأن ما سوف يصل إليه من حركة الناس سيكون جيد الإتقان . والتجارة تحمل أيضاً الوساطة بين المنتج والمستهلك . ولذلك حين أراد الله سبحانه أن نستجيب لأذان الجمعة قال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الجمعة : 9 ] . ولم يقل الله سبحانه : اتركوا الزراعة أو اتركوا الصناعة ، أو اتركوا التدريس ، بل اختار من كل حركات الحياة حركة البيع لأن فيه تجارة ، والتجارة هي الجامعة لكل حركات الحياة . والتاجر وسيط بين منتج ومستهلك وتقتضي التجارة شراءً وبيعاً ، والشراء يدفع فيه التاجر ثمناً ، أما في البيع فهو يأخذ الثمن ، والغاية من كل شيء أن يتموَّل الإنسان . لذلك فالبيع أفضل عند التاجر من الشراء ، فأنت قد تشتري شيئاً وأنت كاره له ، لاحتياجك إليه ، ولكنك عند بيع البضاعة تشعر بالسعادة والإشراق ، ولأن الشراء فيه أخذ ، والبيع فيه عطاء ، والعطاء يرضي النفس دائماً لأن ثمرة الصفقة تأتيك في لحظتها . وإن كنت مزارعاً فأنت تُعِدّ الأرض ، وتحرثها ، وتبذر البذور ، وترويها ، وتُشَذِّب النبات ، وتنتظر إلى أن ينضج الزرع ، وكذلك تقضي الكثير من الوقت في إتقان الصنعة إن كنت صانعاً ، لكن البيع في التجارة يأتي لك بالكسب سريعاً ، فكأن ضَرْبَ المثل في التجارة ، جاء من أصول التجارة بالبيع ولم يأتِ بالشراء . إذن : لا بد أن نعتبر أن دخولك في صفقة الإيمان تجارة ، تأخذ منها أكثر من رأسمالك ، وتربح ، أما إن تركت بعضاً من الدِّين فأنت تخسر بمقدار ما تركت ، بل وأضعاف ما تركت . وأنت في أية صفقة قد تعوِّض ما خسرت فيما بعد ، وإن استمرت الخسارة فإن أثرها لا يتجاوز الدنيا ، ويمكن أن تربح بعدها ، وإذا لم تربح ، فسيضيع عليك تعبك فقط ولأن الدنيا محدودة الزمن فخسارتها محتملة ، أما الخسارة في الزمان غير الموقوت - الزمن الدائم - فهي خسارة كبيرة لأن الآخرة ليس فيها أغيار كالدنيا ، وأنت في الآخرة : إما في جنة ذات نعيم مقيم ، وفي هذا ربح وكسب كبير ، وإما إلى نار ، وهذه هي الخسارة الحقيقة . والخسران الحقيقي أن يكذِّب الإنسان ، لا بنعيم الله فقط ، ولكن بلقاء الله أيضاً . يقول الحق سبحانه : { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ … } [ يونس : 45 ] . أي : أن الله سبحانه لم يكن في بالهم ، وهو حين تقوم الساعة يجدون الله - سبحانه وتعالى - أمامهم . ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً … } [ النور : 39 ] . والسراب كما نعلم يراه السائر في الصحراء ، وهو عبارة عن انعكاس للضوء فيظن أن أمامه ماء ، ولكن إن سار إليه الإنسان لم يجده ماء ، وهكذا شبَّه الحق سبحانه عمل الكافر بمن يسير في صحراء شاسعة ، ويرى السراب فيظنه ماءً ، لكنه سراب ، ما إن يصل إليه حتى ينطبق عليه قول الحق سبحانه : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ … } [ النور : 39 ] . أي : أنه يُفاجأ بوجود الله سبحانه وتعالى ، فيوفيه الله حسابه . ولذلك فالذي يكفر بالله ويعمل ما يفيد البشر ، فإنه يأخذ حسابه ممن عمل له ، ولا يُحسب له ذلك في الآخرة ، وتجد الناس يُكرّمونه ، ويقيمون له التماثيل أو يمنحونه الجوائز وينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " فعلتَ ليقال ، وقد قيل " . وهنا يقول الحق سبحانه عن الذين كَذّبوا بلقاء الله تعالى : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ يونس : 45 ] . أي : لم يكونوا سائرين على المنهج الذي وضعه لهم خالقهم سبحانه هذا المنهج الذي يمثِّل قانون الصيانة لصنعة الله تعالى ، وقد خلق الله سبحانه الإنسان لمهمة ، والله سبحانه يصون الإنسان بالمنهج من أجل أن يؤدي هذه المهمة . والهداية هي الطريق الذي إن سار فيه الإنسان فهو يؤدي به إلى تحقيق المهمة المطلوبة منه لأن الحق سبحانه قد جعله الخليفة في الأرض . ومن لا يؤمن برب المنهج سبحانه وتعالى ولا يطبق المنهج فهو إلى الخسران المبين ، أي : الخسران المحيط . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ … } .