Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 72-72)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي : إن توليتم عن دعوتي لعبادة الإله الحق ، فأنا لا أدعوكم إلى مثيل لكم هو أنا ، بل أدعوكم إلى من هو فوقي وفوقكم ، فأنا لا أريد أن أستولي على السلطة الزمنية منكم ، ولا أبحث عن جاهٍ ، فالجاه كله لله تعالى . والله لا يحتاج إلى جاهٍ منكم لأن جاهه سبحانه ذاتي فيه ، ولكن لنمنع جبروتكم وتجبُّركم لتعيشوا على ضوء المنهج الحق لتكون حياتكم صالحة ، وكل ذلك لمصلحتكم . { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ … } [ يونس : 72 ] فهل يُمَالىء نوح - عليه السلام - أعداءه . إن الإنسان يُمَالىء العدو لأن يخاف أن يوقع به شرّاً ، ونوح عليه السلام لا يخافهم لأنه يعتمد على الله تعالى وحده ، بل هو يدلُّهم على مواطن القوة فيهم ، وهو يعلم أن قوتهم محدودة ، وأن شرهم مهما بلغ فهو غير نافذ ، وقد لا يكون منهم شر على الإطلاق ، فهل هناك نفعٌ سيعود على نوح - عليه السلام - ويُمنَع عنه ؟ لا لأنه يعلن أنه لا يأخذ أجراً على دعوته . هم - إذن - لا يقدرون على ضُرِّه ، ولا يقدرون على نفعه ، وهو لا يريد منهم نفعاً لأن مركزه بإيمانه بالله الذي أرسله مركزٌ قويٌّ . وهو لا يسألهم أجراً ، وكلمة " أجر " تعني : ثمن المنفعة ، والأثمان تكون عادة في المعاوضات ، إما أن تكون ثمناً للأعيان والذوات ، وإما أن تكون ثمناً للمنفعة . ومثال ذلك : أن إنساناً يرغب في شراء " شقة " في بيت فيذهب إلى رجل يملك بيتاً ، ويطلب منه أن يبيع له عدداً من الأسهم بقيمة الشقة . وهناك آخر يريد أن يستأجر شقة فيذهب إلى صاحب البيت ليدفع له قيمة إيجار شقة في البيت ، اي : يدفع له قيمة الانتفاع بالشقة ، والأجر لا يُدفع إلا لطلب منفعة مُلِحَّة . وكان على نوح - عليه السلام - أن يطلب منهم أجراً لأنه يهديهم إلى الحق ، هذا في أصول التقييم للأشياء لأنه يقدِّم لهم نفعاً أساسياً ، لكنه يعلن أنه لا يطلب أجراً وكأنه يقول : إن عملي كان يجب أن يكون له أجر لأن منفعته تعود عليكم ، وكان من الواجب أن آخذ أجراً عليه . ولكن نوحاً - عليه السلام - تنازل عن الأجر منهم لأنه أراد الأجر الأعلى ، فلو أخذ منهم فلسوف يأخذ على قدر إمكاناتهم ، ولكن الأجر من الله تعالى هو على قدر إمكانيات الله سبحانه وتعالى ، وفارق بين إمكانات المحدود العطاء وهو البشر ، ومن له قدرة عطاء لا نهاية لها وهو الله سبحانه وتعالى . وهنا يقول : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ … } [ يونس : 72 ] . فهذا التولِّي والإِعراض لا يضرُّني ولا ينفعني لأنكم لا تملكون لي ضُرّاً ولا تملكون لي نفعاً لأني لن آخذ منكم أجراً . ومن العجيب أن كل مواكب الرسل - عليهم السلام - حين يخاطبون أقوامهم يخاطبونهم بهذه العبارة : { مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ … } [ ص : 86 ] . إلا في قصة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وقصة موسى عليه السلام ، فعن قصة سيدنا إبراهيم يأتي قول الحق سبحانه : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [ الشعراء : 69 - 74 ] . ولم يأت الحق سبحانه فيها بشيء عن عدم السؤال عن الأجر . وأيضاً في قصة سيدنا موسى - عليه السلام - قال الحق سبحانه : { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاَّ فَٱذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 12 - 17 ] . وهنا أيضاً لا نجد قولاً لموسى - عليه السلام - في عدم السؤال عن الأجر . أما هنا في قصة نوح - عليه السلام - فنجد قول الحق سبحانه : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 72 ] . وكذلك جاء نفس المعنى في قصة هود عليه السلام ، حيث يقول الحق سبحانه : { كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 123 - 127 ] . وجاء نفس المعنى أيضاً في قوم ثمود ، إذ قال الحق سبحانه : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 141 - 145 ] . وكذلك جاء نفس القول على لسان لوط عليه السلام ، فيقول الحق سبحانه : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 160 - 164 ] . ونفس القول جاء على لسان شعيب عليه السلام في قول الحق سبحانه : { كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 176 - 180 ] . إذن : فغالبية الموكب الرسالي يأتي على ألسنتهم الكلام عن الأجر : { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ الشعراء : 164 ] . فكأن الرسل عليهم السلام يقولون للبشر الذين أرسلوا إليهم : لو أنكم فطنتم إلى حقيقة الأمر لكان من الواجب أن يكون لنا أجر على ما نقدمه لكم من منفعة ، لكنَّا لا نريد منكم أنتم أجراً ، إنما سنأخذ أجرنا من ربِّ العالمين لأن المنفعة التي نقدمها لكم لا يستطيع بشر أن يقوِّمها ، وإنما القادر على تقييمها هو واضع المنهج - سبحانه - ومُنزِله على رسله . وها هو القرآن الكريم يأتي على لسان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقول : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ … } [ الشورى : 23 ] . أما لماذا لم تأت مسألة الأجر على لسان سيدنا إبراهيم - عليه السلام - فنحن نعلم أن إبراهيم عليه السلام أول ما دعا دعا عمه ، وكان للعم حظ تربية إبراهيم ، وله على سيدنا إبراهيم حق الأبوة . وكذلك سيدنا موسى عليه السلام ، فقد دعا فرعون ، وفرعون هو الذي قام بتربية موسى ، وكانت زوجة فرعون تريده قرة عين لها ولزوجها ، حتى إن فرعون فيما بعد قد ذكَّره بذلك ، وقال : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] . أما هنا في دعوة سيدنا نوح - عليه السلام - فيأتي قول القرآن على لسان نوح بما يوضِّح الأمر لقوم نوح : فإن توليتم فلا حزن لي ، ولا جزع لأنكم لن تصيبوني بضُرٍّ ، ولن تمنعوا عني منفعة لأنكم لم تسألوني أن آتي لكم بالهدى لآخذ أجري منكم ، ولكن الحق سبحانه هو الذي بعثني ، وهو الذي سيعطيني أجري ، وقد أمرني سبحانه أن أكون من المسلمين له حَقّاً وصدقاً . وفي حياتنا نجد أن صديقاً يرسل إلى صديقه عاملاً من عنده ليصلح شيئاً ، فهو يأخذ الأجر من المرسل ، لا من المرسل إليه ، وهذا أمر منطقي وطبيعي . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ … } .