Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 73-73)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وكأن الأمر الذي وقع من الحق سبحانه نتيجة عدائهم للإيمان كان من الممكن أن يشمله لأنه لا يقال : نجَّيتُك من كذا إلا إذا كان الأمر الذي نجيتك منه ، توشك أن تقع فيه ، وكان هذا بالفعل هو الحال مع الطوفان ، فالحق سبحانه يقول : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً … } [ القمر : 11 - 12 ] . ومن المتوقع أن تشرب الأرض ماء المطر ، لكن الذي حدث أن المطر انهمر من السماء والأرض أيضاً تفجَّرتْ بالماء ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول : { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 12 ] . أي : أن ذلك الأمر كان مقدَّراً حتى لا يقولن أحد : إن هذه المسألة ظاهرة طبيعية . لا إنه أمر مُقدَّر ، وقد كانت السفينة موجودة بصناعة من نوح عليه السلام لأن الحق سبحانه قد أمره بذلك في قوله تعالى في سورة هود : { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا … } [ هود : 37 ] . ويقول الحق سبحانه في الآية التي بعدها : { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هود : 38 ] . ويركب نوح - عليه السلام - السفينة ، ويركب معه من آمن بالله تعالى ، وما حملوا معهم من الطير والحيوان من كُلِّ نوع اثنين ذكراً وأنثى . وقول الحق سبحانه : { فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ … } [ يونس : 73 ] . يوحي أن الذي صعد إلى السفينة هم العقلاء من البشر ، فكيف نفهم مسألة صعود الحيوانات والطيور إلى السفينة ؟ نقول : إن الأصل في وجود هذه الحيوانات وتلك الطيور أنها مُسخَّرة لخدمة الإنسان ، وكان لا بد أن توجد في السفينة لأنها ككائنات مسخّرة تسبِّح الله ، وتعبد الحق سبحانه ، فكيف يكون علمها فوق علم العقلاء الذين كفر بعضهم ، ثم أليس من الكائنات المسخَّرة ذلك الغراب الذي علَّم " قابيل " كيف يواري سوأة أخيه ؟ ! إنه طائر ، لكنه علم ما لم يعلمه الإنسان ! والحق سبحانه هو القائل : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } [ المائدة : 31 ] . ثم يقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصددها الآن : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنْذَرِينَ } [ يونس : 73 ] . وكلمة " الفُلْك " من الألفاظ التي تطلق على المفرد ، وتطلق على الجماعة . وقول الحق سبحانه : { فَنَجَّيْنَاهُ } نعلم منه أن الفعل من الله تعالى ، وهو سبحانه حين يتحدث عن أي فعل له ، فالكلام عن الفعل يأتي مثل قوله سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . ولكنه حين يتحدث عن ذاته ، فهو يأتي بكلمة تؤكد الوحدانية وتكون بضمير الإفراد مثل : { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ … } [ طه : 14 ] . وهنا يقول الحق سبحانه : { فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ . . } [ يونس : 73 ] . كلمة " أنجى " للتعددية ، وكلمة " نَجَّى " تدل على أن هناك معالجة شديدة للإنجاء ، وعلى أن الفعل يتكرر . وقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ … } [ يونس : 73 ] . تعني : أن الخليفة هو من يجيء بعد سابق ، وكلمة " الخليفة " تأتي مرة للأعلى ، مثل الحال هنا حيث جعل الصالح خليفة للصالح ، فبعد أن أنجى الله سبحانه العناصر المؤمنة في السفينة ، أغرق الباقين . إذن : فالصالحون على ظهر السفينة أنجبوا الصالحين من بعدهم . ومرة تأتي كلمة " الخليفة " للأقل ، مثل قول الحق سبحانه : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَاتِ … } [ مريم : 59 ] . فهنا تكون كلمة الخليفة موحية بالمكانة الأقل ، وهناك معيار وضعه الحق سبحانه لتقييم الخليفة ، هو قول الحق سبحانه : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ يونس : 14 ] . ولأن الإنسان مخيَّر بين الإيمان والكفر ، فسوف يَلْقَى مكانته على ضوء ما يختار . ويقول الحق سبحانه : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً … } [ النور : 55 ] . إذن : فالخليفة إما أن يكون خليفة لصالحٍ ، وإما أن يكون صالحاً يَخْلُفُ فاسداً . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا … } [ يونس : 73 ] . والآيات - كما قلنا من قبل - إما آيات الاعتبار التي تهدي إلى الإيمان بالقوة الخالقة ، وهي آيات الكون كلها ، فكل شيء في الكون يدلُّكَ على أن هذا الكون مخلوق على هيئة ولغاية ، بدليل أن الأشياء في هذا الكون تنتظم انتظاماً حكيماً . وإذا أردت أن تعرف دقة هذا الخلق ، فانظر إلى ما ليدك فيه دَخْلٌ ، وما ليس ليدك فيه دخل ستجد كل ما ليس ليدك فيه دخل على درجة هائلة من الاستقامة ، والحق سبحانه يقول : { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] . أما ما ليدك فيه دخل ، فاختيارنا حين يتدخل فهو قد يفسد الأشياء . وهكذا رأينا أن الآيات الكونية تلفت إلى وجود الخالق سبحانه وهي مناط الاستدلال العقلي على وجود الإله ، أو أن الآيات هي الأمور العجيبة التي جاءت على أيدي الرسل - عليهم السلام - لتقنع الناس بأنهم صادقون في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى . ثم هناك آيات القرآن الكريم التي يقول فيها الحق سبحانه : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ … } [ آل عمران : 7 ] . وهي الآيات التي تحمل المنهج . وحين يقول الحق سبحانه : { وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا … } [ يونس : 73 ] . فهو يعلِّمنا أنه أغرق من كذَّبوا بالآيات الكونية ولم يلتفتوا إلى بديع صنعه سبحانه ، وحكمة تكوين هذه الآيات ، وترتيبها ورتابتها ، وهم أيضاً كذَّبوا الآيات المعجزات ، وكذلك كذَّبوا بآيات الأحكام التي جاءت بها رسلهم . وينهي الحق سبحانه وتعالى هذه الآية بقوله : { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنْذَرِينَ } [ يونس : 73 ] . والخطاب هنا لكل من يتأتَّى منه النظر ، وأوَّلُهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أول مُخاطَب بالقرآن . وأنت حين تقول : " انظر " فأنت تُلْفِت إلى أمر حسِّي ، إن وجَّهت نظرك نحوه جاء الإشعاع من المنظور إليه ، ليرسم أبعاد الشيء فتراه . والكلام هنا عن أمور غائبة ، فهي أحداث حسية وقعت مرة واحدة ثم صارت خبراً ، فإن أخبرك بها مخبر فيكون تصديقك بها على مقدار الثقة فيه . فمن رأى عصا موسى - عليه السلام - وهي تلقف الحبال التي ألقاها السحرة آمن بها ، مثلما آمن من شاهد النار عاجزة عن إحراق إبراهيم عليه السلام ، ومن رأى عيسى عليه السلام وهو يُشفي الأكْمَهَ والأبْرص ويُحيي الموتى بإذن الله تعالى ، فقد آمن بما رأى ، أما من لم ير تلك المعجزات فإيمانه يتوقف على قدر توثيقه لمن أخبر ، فإن كان المخبر بذلك هو الله سبحانه وفي القرآن الكريم فإيماننا بتلك المعجزات هو أمر حتمي لأننا آمنا بصدق المبلِّغ عن الله تعالى . ونحن نفهم أن الرسالات السابقة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، كانت رسالات موقوتة زماناً ومكاناً ، لكن الإسلام جاء لينتظم الناس الموجَّه إليهم منذ أن أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة . لذلك جاء القرآن آيات باقيات إلى أن تقوم الساعة ، وهذا هو السبب في أن القرآن قد جاء معجزة عقلية دائمة يستطيع كل من يدعو إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : محمد رسول من عند الله تعالى ، وتلك هي معجزته . وساعة يقول الحق سبحانه : { فَٱنْظُرْ } فمثلها مثل قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [ الفيل : 1 ] . وحادثة الفيل قد حدثت في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبطبيعة الحال فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير حادثة الفيل ، ولكن الذين رأوها هم الذين كانوا يعيشون وقتها ، وهذا ما يلفتنا إلى فارق الأداء ، فعيونك قد ترى أمراً ، وأنذك قد تسمع خبراً ، ولكن من الجائز أن تخدعك حواسك ، أما الخبر القادم من الله تعالى ، وإن كان غائباً عنك الآن وغير مسموع لك فخذه على أنه أقوى من رؤية العين . ولقائل أن يقول : لماذا لم يقل الحق : " ألم تعلم " وجاء بالقول : { أَلَمْ تَرَ … } [ الفيل : 1 ] . وأقول : ليدلنا الله سبحانه على أن العلم المأخوذ من الله تعالى عن أمر غيبي عليك أن تتلقاه بالقبول أكثر من تلقيك لرأي العين . إذن : { فَٱنْظُرْ } تعني : اعلمْ الأمر وكأنه مُجسَّم أمامك لأنك مؤمن بالله تعالى وكأنك تراه ، ومُبلِّغك عن الله سبحانه هو رسول تؤمن برسالته ، وكل خبر قادم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتسرب إليه الشك ، ولكن الشك لا يمكن أن يتسرب إلى المخبر الصادق أبداً . ولقائل أن يقول : ولماذا لم يقل الحق : " فانظر كيف كان عاقبة الكافرين " بدلاً من قول الحق سبحانه : { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنْذَرِينَ } [ يونس : 73 ] . وهنا نقول : إن الحق سبحانه وتعالى قد بيَّن أنه لم يعذِّب قبل أن يُنْذِر ، فهو قد أنذر أولاً ، ولم يأخذ القوم على جهلهم . " فانظر " - كما نعلم - هي خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشمل أمته أيضاً ، وجاء هذا الخبر تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن صادف من قومك يا محمد ما صادف قوم نوح - عليه السلام - فاعلمْ أن عاقبتهم ستكون كعاقبة قوم نوح . وفي هذا تحذير وتخويف للمناوئين لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ … } .