Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 87-87)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وأوضحنا من قبل أن موسى وهارون عليهما السلام رسولان برسالة واحدة ، وأن الوَحْي قد جاء للاثنين برسالة واحدة . فالحق سبحانه ساعة يختار نبيّاً رسولاً ، فإنما يختاره بتكوينٍ وفطرةٍ تؤهّله لحَمْل الرسالة والنطق بمرادات الله تعالى . وإذا كان الخَلْق قد صنعوا آلات ذاتية الحركة من مواد جامدة لا فكر لها ولا رَويّة ، مثل الساعة التي تُؤذِّن ، أو المذياع الذي يذيع في توقيت محدد ، إذا كان البشر قد صنعوا ذلك فما بالنا بالله سبحانه الخالق لكل الخلق والكون ومرسل الرسل ؟ إنه سبحانه وتعالى يختار رسله بحيث يسمح تكوين الرسول أن يؤدي المهمة الموكولة إليه في أي ظرف من الظروف . وقول الحق سبحانه هنا : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ … } [ يونس : 87 ] . يبيِّن لنا أن الوحي شمل كلاً من موسى وهارون عليهما السلام ، بحيث إذا جاء موقف من المواقف يقتضي أن يتكلم فيه موسى ، فهارون أيضاً يمكن أن يتكلم في نفس الأمر لأن الشحنة الإيمانية واحدة ، والمنهج واحد . وقد حدث ذلك بعد أن غرق فرعون وقومه ، وخلا لهم الجو ، فجاء لهم الأمر أن يستقروا في مصر ، وأن يكون لهم فيها بيوت . ولكن لنا أن نسأل : هل فرعون هذا هو شخص غرق وانتهى ؟ لا … إن فرعون ليس اسماً لشخص ، بل هو تصنيف لوظيفة ، وكان لقب كل حاكم لمصر قديماً هو " فرعون " لذلك لا داعي أن نشغل أنفسنا : هل هو تحتمس الأول ؟ أو رمسيس ؟ أو ما إلى ذلك ؟ فهب أن فرعون المعنيَّ هنا قد غرق ، ألا يعني ذلك مجيء فرعون جديد ؟ نحن نعلم من التاريخ أن الأسر الحاكمة توالت ، وكانوا فراعنة ، وكان منهم من يضطهد المؤمنين ، ولا بد أن يكون خليفة الفرعون أشد ضراوةً وأكثر شحنةً ضد هؤلاء القوم . وقول الحق سبحانه وتعالى في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً … } [ يونس : 87 ] . نجد فيه كلمة " مصر " وهي إذا أطلقت يُفهم منها أنها " الإقليم " . ونحن هنا في بلدنا جعلنا كلمة " مصر " علماً على الإقليم الممتد من البحر المتوسط إلى حدود السودان ، أي : وادي النيل . ومرة أخرى جعلنا من " مصر " اسماً لعاصمة وادي النيل . ونحن نقول أيضاً عن محطة القطارات في القاهرة : " محطة مصر " . وقول الحق سبحانه هنا : { … أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا } [ يونس : 87 ] . نفهم منه أن التبؤُّ هو اتخاذ مكان يعتبر مباءةً أي : مرجعاً يبوء الإنسان إليه . التبؤُّ - إذن - هو التوطن في مكان ما ، والإنسان إذا اتخذ مكاناً كوطن له فهو يعود إليه إن ذهب إلى أي بلد لفترة . ويعتبر الخروج من الوطن مجرد رحلة تقتضي العودة ، وكذلك البيت بالنسبة للإنسان فالواحد منا يطوف طوال النهار في الحقل أو المصنع أو المكتب ، وبعد ذلك يعود إلى البيت للبيتوتة . والبيوت التي أوصى الله سبحانه وتعالى بإقامتها لقوم موسى وهارون - عليهما السلام - كان لها شرط هو قول الحق سبحانه : { وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً … } [ يونس : 87 ] . والقِبلة هي المتجَه الذي نصلي إليه . ومثال ذلك : المسجد ، وهو قبلة مَنْ هو خارجه ، وساعة ينادي المؤذن للصلاة يكون المسجد هو قبلتنا التي نذهب إليها ، وحين ندخل المسجد نتجه داخله إلى القبلة ، واتجاهنا إلى القبلة هو الذي يتحكم في وضعنا الصفِّي . والأمر هنا من الحق سبحانه : { وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ … } [ يونس : 87 ] . فإقامة البيوت هنا مشروطة بأن يجعلوا بها قبلة لإقامة الصلاة بعيداً عن أعين الخصوم الذين يضطهدونهم ، شأنهم شأن المسلمين الأوائل حينما كان الإسلام - في أوليته - ضعيفاً بمكة ، وكان المسلمون حين ذاك يصلون في قلب البيوت ، وهذا هو سر عدم الجهر بالصلاة نهاراً ، وعدم الجهر يفيد في ألا ينتبه الخصوم إلى مكان المصلين . وأما الجهر بالصلاة ليلاً وفجراً ، فقد كان المقصود به أن يعلمهم كيفية قراءة القرآن . وهنا يقول الحق سبحانه : { أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً … } [ يونس : 87 ] . وقد يكون المقصود بذلك أن تكون البيوت متقابلة . وإلى يومنا هذا أنت إن نظرت إلى ساحات اليهود في أي بلد من بلاد الدنيا تجد أنهم يقطنون حيّاً واحداً ، ويرفضون أن يذوبوا في الأحياء الأخرى . ففي كل بلد لهم حي يسكنون فيه ، ويسمى باسم " حي اليهود " . وكانت لهم في مصر " حارات " كل منها تسمى باسم " حارة اليهود " . وقد شاء الحق - سبحانه وتعالى - ذلك وقال في كتابه العزيز : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ … } [ البقرة : 61 ] . وهم يحتمون بتواجدهم معاً ، فإن حدث أمر من الأمور يفزعهم يصبح من السهل عليهم أن يلتقوا . أو { وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً … } [ يونس : 87 ] . أي : أن يكون تخطيط الأماكن والشوارع التي تُبنى عليها البيوت في اتجاه القبلة . وأي خطأ معماري مثل الذي يوجد في تربيعة بناء مسجد الإمام الحسين بالقاهرة ، هذا الخطأ يوجب الاتجاه إلى اليمين قليلاً مما يسبب بعض الارتباك للمصلين لأن الانحراف قليلاً إلى اليمين في أثناء الصلاة يقتضي أن يقصر كل صف خلف الصف الآخر . وحين نصلي في المسجد الحرام بمكة ، نجد بعضاً من المصلين يريدون مساواة الصفوف ، وأن تكون الصفوف مستقيمة ، فنجد من ينبه إلى أن الصف يعتدل بمقدار أطول أضلاع الكعبة ، ثم ينحني الصف . وكذلك في الأدوار العليا التي أقيمت بالمسجد الحرام نجد الصفوف منحنية متجهة إلى الكعبة . ولذلك أقول دائماً حين أصلي بالمسجد الحرام : إن معنى قول الإمام : " سووا صفوفكم " أي : اجعلا مناكبكم في مناكب بعضكم بعض ، أما خارج الكعبة فيكفي أن نتجه إلى الجهة التي فيها الكعبة ، ونحن خارج الكعبة لا نصلي لعين الكعبة ، ولكننا نصلي تجاه الكعبة لأننا لو كنا نصلي إلى عين الكعبة لما زاد طول الصف في أي مسجد عن اثني عشر متراً وربع المتر ، وهو أطول أضلاع الكعبة . وقول الحق سبحانه هنا : { وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً … } [ يونس : 87 ] . أي : خططوا في إقامة البيوت أن تكون على القبلة ، وبعض الناس يحاولون ذلك ، لكن تخطيط الشوارع والأحياء لا يساعد على ذلك . ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ … } [ يونس : 87 ] . وهذا الأمر نفهم منه أن الصلاة فيها استدامة الولاء لله تعالى ، فنحن نشهد ألا إله إلا الله مرة واحدة في العمر ، ونُزكِّي - إن كان عندنا مال - مرة واحدة في السنة ، ونصوم - إن لم نكن مرضى - شهراً واحداً هو شهر رمضان ، ونحج - إن استطعنا - مرة واحدة في العمر . ويبقى ركن الصلاة ، وهو يتكرر كل يوم خمس مرات ، وإن شاء الإنسان فَلْيُزِد ، وكأن الحق سبحانه وتعالى هنا ينبه إلى عماد الدين وهي الصلاة . ولكن مَن الذي اختار المكان في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ؟ هل هو موسى وأخوه هارون ؟ أم أن الخطاب لكل القوم . نلحظ هنا أن الأمر بالتبوّء هو لموسى وهارون - عليهما السلام - أما الأمر بالجعل فهو مطلوب من موسى وهارون والأتباع لذلك جاء الجعل هنا بصيغة الجمع . ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله : { … وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 87 ] . وفي هذا تنبيه وإشارة إلى أن موسى هو الأصل في الرسالة لذلك جاء له الأمر بأن يحمل البشارة للمؤمنين . ونلحظ هنا في هذه الآية أن الحق سبحانه جاء بالتثنية في التبوء ، وجاء بالجمع في جعل البيوت ، ثم جاء بالمفرد في نهاية الآية لينبهنا إلى أن موسى - عليه السلام - هو الأصل في الرسالة إلى بني إسرائيل . والبشرى على الأعمال الصالحة تعني : التبشير بالجنة . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ … } .