Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 88-88)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والزينة : هي الأمر الزائد عن ضروريات الحياة ومقوماتها الأولى ، فاستبقاء الحياة يكون بالمأكل لأي غذاء يسدُّ الجوع ، وبالمشرب الذي يروي العطش . أما إن كان الطعام منوَّعاً فهذا من ترف الحياة ، ومن ترف الحياة الملابس التي لا تستر العورة فقط ، بل بالزي الذي يتميز بجودة النسج والتصميم والتفصيل . وكذلك من ترف الحياة المكان الذي ينام فيه الإنسان ، بحيث يتم تأثيثه بفاخر الرياش ، ولكن الضرورة في النوم يكفي فيها مكان على الأرض ، وأي فراش يقي من برودة الأرض أو حرارتها . إذن : فالزائد عن الضرورات هو زينة الحياة ، والزينة تأتي من الأموال ، والرصيد الأصيل في الأموال هو الذهب ، ثم تأخذ الفضة المرتبة الثانية . ومن مقومات الاقتصاد أن الذهب يعتبر قيمة الرصيد لغنى أية دولة ، مهما اكتشفوا من أحجار أغلى من الذهب . وهذه الأحجار الكريمة - كالماس مثلاً - إن كُسِرت أو خُدِشت تقل قيمتها ، لكن الذهب مهما تفتَّت فأنت تعيد صَهْرَه ، فتستخلَص ذهباً مُجمَّعاً . وكان الفراعنة الأقدمون يحكمون مصر حتى منابع النيل ، وكانوا يسخِّرون الناس في كل الأعمال ، حتى استخراج الذهب سواء من المناجم أو من غربلة رمال بعض الجبال لاستخلاص الذهب منها . وأنت قد تستطيع استخلاص الذهب من أماكن معينة ، ولكن الفرق دائماً إنما يكون في القيمة الاقتصادية لاستخراج الذهب ، فحين يكون المنجم وفير العطاء ، فيه كثير من عروق الذهب ، هنا يصبح استخراج الذهب مسألة مربحة اقتصادياً . أما إن كانت التكلفة أعلى من القيمة الاقتصادية للذهب المستخرج ، فلا أحد يستخرج هذا الذهب . وأنت إن نظرت إلى زينة الفراعنة تجد قناع " توت عنخ آمون " آية في الجمال ، وكذلك كانت قصورهم في قمة الرفاهية ، ويكفي أن ترى الألوان التي صنعت منها دهانات الحوائط في تلك الأيام لتعرف دقة الصنعة ومدى الترف ، الذي هو أكثر بكثير من الضرورات . وفي هذه الآية الكريمة يقول الحق سبحانه : { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ … } [ يونس : 88 ] . وهم لم يَضِلُّوا فقط بل أرادوا أن يُضِلّوا غيرهم لذلك تحملوا وِِزْر ضلالهم ، ووزر إضلال غيرهم . فهل أعطاهم الله سبحانه المال والزينة للضلال والإضلال ؟ لا ، فليس ذلك علة العطاء ، ولكن هناك لام العاقبة ، مثلما تعطي أنت إبنك عشرة جنيهات وتقول له : افعل بها ما تريد ، وأرجو أن تتصرف فيها تصرفاً يعود عليك بالخير . وقد ينزل هذا الابن ليشتري شيئاً غير مفيد ولا يشتري - مثلاً - كتباً تفيده . هنا أنت أعطيت هذا الابن قوة شرائية لكنه لم يحسن التصرف فيها ، وغاية الاختيار هَدَتْه إلى اللعب . وهذا ما يسمى لام العاقبة ، ولام العاقبة لا يكون المقصود بها سبب الفعل ، ولكنها تأتي لبيان عاقبة الفعل . وحين أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينجي موسى - عليه السلام - في طفولته من القتل أوحى إلى أم موسى - عليهما السلام - بقوله تعالى : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ … } [ القصص : 7 ] . ولا توجد أم تُقبل على تنفيذ مثل هذا الأمر لأنه موت محقق لأن الابن إن خُطِف أو فُقِد فهذا كله موت مظنون ، أما إلقاؤه في الماء فليس فيه موت مظنون ، بل موت مؤكد ، إن لم يُنجِّه الله تعالى . ولكن أم موسى - لإيمانها بالله - فعلت ما أوحى به الله - سبحانه وتعالى - لها لأن الوارد من الله تعالى لا يجد في الفطرة منازعاً له . أما نزغات الشيطان فهي تجد ألف منازع لها في النفس ، وكذلك هواجس النفس . ولذلك نفَّذت أم موسى ما أوحى الله تعالى به إليها ، وإن كان مخالفاً للعقل والمنطق . وحين التقطه آل فرعون ، وقد كانوا يقتلون الأطفال ، وألقى الحق سبحانه وتعالى محبة موسى في قلوبهم ، قال : { … وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [ طه : 39 ] . فهم ساعة رؤيتهم لموسى - عليه السلام - وهو طفل ، أحبُّوه فلم يقتلوه ، وهكذا نفذت مشيئة الله تعالى ووعده لأمه : { … إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] . أي : أن لموسى - عليه السلام - مهمة مسبقة أرادها له الحق سبحانه . ولذلك نجد أن هناك أوامر متتابعة جاء بها القرآن الكريم في مسألة إلقاء أم موسى لابنها ، فقال الحق سبحانه : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ * أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ … } [ طه : 38 - 39 ] . وكلها أوامر من الحق سبحانه ، فتراه زوجة فرعون فتقول لزوجها : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ … } [ القصص : 9 ] . فهل كان فرعون يعلم أن هذا الطفل الذي التقطه سيكون عدوّاً له ؟ لا ، لقد التقطه وأعطاه حياة الترف ليكون قُرَّة عين له ، وهذه علة الالتقاط ، ولكن العاقبة انتهت إلى أن يكون عدوّاً ولو كانت العلة هي العداوة لما التقطه فرعون أو لقتله لحظة الالتقاط . ولذلك يترك الحق سبحانه وتعالى في كونه أشياء تكسر مكر البشر فأخذه فرعون وربَّاه ، وكانت العاقبة غير ما كان يتوقع فرعون . وقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصددها : { لِيُضِلُّواْ } نفهم منه أن - سبحانه وتعالى - لم يُعْطِهم المال ليضلوا ، ولكنهم هم الذين اختاروا الضلال . وقد أعطى الله سبحانه وتعالى الكثير من الناس مالاً وجاهاً وأرادوا به الخير ، وهكذا نرى اختيار الإنسان ، إن له أن يضل أو يهتدي . وقد قال موسى عليه السلام تنفيساً عن نفسه : { رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ . . } [ يونس : 88 ] . ومعنى الطمس أي : إخفاء المعالم مثل قول الحق سبحانه : { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ … } [ النساء : 47 ] . ومعنى الطمس هنا : إخفاء معالم تلك الوجوه فتكون قطعة واحدة بلا جبهة أو حواجب أو عينين أو أنف أو شفاه أو ذقن . إذن : فالطمس هو إهلاك الصورة التي بها الشيء . ودعوة موسى - عليه السلام - هنا : { ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ … } [ يونس : 88 ] . أي : امسخها . وقال بعض الرواة أنها مُسخت ، فمن كان يملك بعضاً من سبائك الذهب وجدها حجارة ، ومن كان يملك أحجاراً كريمة كالماس وجدها زجاجاً . أو أن { ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ … } [ يونس : 88 ] . أي : أذهبهما لأن الأموال كانت وسيلة إضلال . وقوله عليه السلام بعد ذلك : { … وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [ يونس : 88 ] . أي : أحْكمْ يا رب الأربطة على تلك القلوب فلا يخرج ما فيها من كفر ، ولا يَدخل ما هو خارجها من الإيمان لأن هؤلاء قد افتروا افتراءً عظيماً ، وأن تظل الأربطة على قلوبهم حتى يروا العذاب الأليم . ولماذا دعا موسى - عليه السلام - على آل فرعون هذا الدعاء ، ولم يَدْعُ مثلما دعا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : " اللهم اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون " والإجابة : لا بد أن الحق سبحانه وتعالى قد أطلعه على أن هؤلاء قوم لن تفلح فيهم دعوة الإيمان . وكان خوف موسى - عليه السلام - لا من ضلال قوم فرعون ، ولكن من استمرار إضلالهم لغيرهم . إذن : فقد دعا عليهم موسى - عليه السلام - بما جاء في هذه الآية : { … رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [ يونس : 88 ] . وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا … } [ غافر : 85 ] . وهكذا يتبين لنا الفارق بين إيمان الإلجاء والقصر وبين إيمان الاختيار . فحين يأتي الرسول داعياً إلى الإيمان يصبح من حق السامع لدعوته أن يؤمن أو أن يكفر لأن الله تعالى قد خلق الإنسان وله حق الأختيار ، أما إيمان الإلجاء والقصر فهو لا ينفع الإنسان . ومثال ذلك : فرعون ، فساعة أن جاءه العذاب أعلن الإيمان . فالحق سبحانه وتعالى يقول : { … حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 90 ] . وإذا كان موسى - عليه السلام - قد دعا على قوم فرعون ، فقد سبقه نوح عليه السلام في مثل هذا الدعاء مما أورده القرآن في قوله : { … رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 26 - 27 ] . واستجاب الحق سبحانه لدعوة موسى عليه السلام : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا … } .