Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 93-93)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وكلمة " تبوأ " تعني إقامة مباءة أي : البيوت التي يكون فيها السكن الخاص ، وإذا أطلقت كلمة " مبوأ " فهي تعني الإقليم أو الوطن . والوطن أنت تتحرك فيه وكذلك غيرك ، أما البيت فهو للإنسان وأسرته كسكن خاص . أما الثري فقد يكون له جناح خاص في البيت ، وقد يخصص الثريُّ في منزله جناحاً لنفسه ، وآخر لولده وثالثاً لابنته . أما غالبية الناس فكل أسرة تسكن في " شقة " قد تتكون من غرفة أو اثنتين أو ثلاثة حسب إمكانات الأسرة . إذن : فيوجد فرق بين تبؤُّء البيوت وتبوء المواطن ، فتبؤُّء المواطن هو الوطن . وسبق أن قال الحق سبحانه لموسى وهارون عليهما السلام : { أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً … } [ يونس : 87 ] . هذا في التبوء الخاص ، أما في التبوء العام فهو يحتاج إلى قدرة الحق تعالى ، وهو سبحانه يقول هنا : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ … } [ يونس : 93 ] . والحق سبحانه أتاح لهم ذلك في زمن موسى - عليه السلام - وأتاح لهم السكن في مصر والشام ، وهو سبحانه القائل : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ … } [ الإسراء : 1 ] . وما دام الحق سبحانه قد بارك حوله فلا بد أن فيه خيراً كثيراً ، ولا بد أن تكون الأرض التي حوله مُبوَّأ صدق . وكلمة " الصدق " تعني جماع الخير والبر " ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئل : أيكون المؤمن جباناً ؟ قال : " نعم " وحين سئل : أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : " نعم " . وحين سئل أيكون المؤمن كذاباً ؟ قال : " لا " . ولذلك فأنت تجد في الإسلام عقوبة على الزنا ، وعقوبة تقام على السارق ، أما الكذب فهو خصلة لا يقربها المسلم لأن عليه أن يكون صادقاً . وكل خصال الخير هي مُبوَّأ الصدق . ولذلك نجد قول الحق سبحانه : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الإسراء : 80 ] . وقول الحق سبحانه : { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ … } [ يونس : 2 ] . وقول الحق سبحانه : { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } [ الشعراء : 84 ] . أي : اجعل لي ذكرى حسنة فلا يقال فلان كان كاذباً ، وأما قدم الصدق فهي سوابق الخير التي يسعى إليها ولذلك كان الجزاء على الصدق هو ما يقول عنه الحق سبحانه : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 55 ] . وهو مقعد عند مليك لا يبخل ، ولا يجلس في رحابه إلا من يحبه ، ولا يضن بخيره على من هم في رحابه . ومقعد الصدق هو جزاء لمن استجاب له ربه فأدخله مدخل صدق ، وأخرجه مخرج صدق ، وجعل له لسان صدق ، وقدم صدق . وبعد أن بوَّأ الحق سبحانه بني إسرائيل مُبوَّاً صدق ، في مصر والشام ، وبعد أن قال لهم : { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ … } [ البقرة : 61 ] . أي : أن الحق سبحانه حقق قوله : { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ … } [ يونس : 93 ] . وأنجاهم من فرعون ، وكان من المفترض أن تستقيم أمورهم . ويقول الحق سبحانه : { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ … } [ يونس : 93 ] . والمقصود بذلك هو معرفتهم بعلامات الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من ترقب مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ليؤمن به ، ومنهم من تمادى في الطغيان لذلك قطَّعهم الله - سبحانه - في الأرض أمماً . وحين ننظر إلى دقة التعبير القرآني نجده يحدد مسألة التقطيع هذه ، فهم في كل أمة يمثلون قطعة ، أي : أنه سبحانه لم يُذِبْهم في الشعوب . بل لهم في كل بلد ذهبوا إليه مكانٌ خاصٌّ بهم ، ولا يذَوبون في غيرهم . والحق سبحانه يقول : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ … } [ الإسراء : 104 ] . وقد يقول أحد السطحيين : وهل هناك سكن في غير الأرض ؟ ونقول : لنا أن نلحظ أن الحق سبحانه لم يحدد لهم في أية بقعة من الأرض يسكنون ، فكأن الحق سبحانه قد بيَّن ما أصدره من حكم عليهم بالتقطيع في الأرض أمماً فهو سبحانه القائل : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً … } [ الأعراف : 168 ] . وإذا كنا نراهم في أيامنا هذه وقد صار لهم وطن ، فاعلم أن الحق سبحانه هو القائل : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 4 ] . وقد قال في آخر سورة الإسراء : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ] . والمجيء بهم لفيفاً إنما يعني أن يجمعهم في وطن قومي لتأتي لهم الضربة القاصمة التي ذكرها الحق سبحانه في قوله : { … فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [ الإسراء : 7 ] . لأننا لن نستطيع أن نحاربهم في كل بلد من البلاد التي قطَّعهم الله فيها ، لكنهم حين يجتمعون في مكان واحد ، إنما يسهل أن ينزل عليهم قضاء الله . وحين ننظر إلى رحلتهم نجد أن " يثرب " كانت المكان الذي اتسع لهم بعد اضطهادات المجتمعات التي دخلوا إليها ، وحين اجتمعوا في يثرب صار لهم الجاه لأنهم أهل علم ، وأهل اقتصاد ، وأهل حرب . وهم قد اجتمعوا في المدينة لأن المخلصين من أهل الكتاب أخبروهم أن هذه المدينة هي المهجر لنبي ورسول يأتي من العرب في آخر الزمان فمكثوا فيها انتظاراً له ، وكانوا يقولون لكفار قريش : " لقد أظل زمان يأتي فيه نبي نتبعه ، ونقتلكم فيه قَتل عاد وإرم " . وكان من المفروض أن يؤمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم ، لكنه ما إن أطل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور رسالته حتى أنكروه خوفاً على سلطتهم الزمنية . وهو ما تقول عنه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها : { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ … } [ يونس : 93 ] . أي : أن علمهم بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم هو مصدر اختلافهم ، فمنهم من سمعوا إشارات عنه صلى الله عليه وسلم وعرفوا علاماته صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، ومنهم من لم يؤمن به . وهم لم يختلفوا من قبل وكانوا متفقين ، وتوعَّدوا المشركين من قريش . وما إن أهلَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وعلمت به " الأوس " و " الخزرج " أنه رسول من الله تعالى قد ظهر بمكة ، فقالت الأوس والخزرج : إنه النبي الذي توعَّدتنا به يهود ، فهيا بنا لنذهب ونسبقهم إليه قبل أن يسبقونا ، فيقتلونا به . فكأن اليهود هم الذين تسببوا في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأن الأوس والخزرج سبقوهم إليه وهذا لنعلم كيف ينصر الله تعالى دينه بأعدائه . ولذلك نجد أنهم في اختلافهم يأتي عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول : إن اليهود قوم بُهْتٌ ، وإذا أنا آمنت بك يا رسول الله سيقولون فيَّ ما يسيء إليَّ لذلك فقبل أن أعلن إسلامي اسألهم عنِّي . وكان ابن سلام في ذلك يسلك سلوكاً يتناسب مع كونه يهودياً ، ولما اجتمع معشر اليهود ، سألهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ما تقولون في ابن سلام ؟ قالوا : حَبْرُنا وشيخنا وهو الورع فينا ، وبعد أن أثنوا عليه ثناء عظيماً ، قال ابن سلام : يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . وهنا بدأ اليهود يكيلون له السِّباب ، فقال ابن سلام : ألم أقُلْ لك يا رسول الله إنهم قوم بُهْت ؟ إذن : فمعنى قوله سبحانه : { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ … } [ يونس : 93 ] . أي : أن أناساً منهم بقوا على الباطل ، وأناساً منهم آمنوا بالرسول الحق صلى الله عليه وسلم . وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى : { … إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ يونس : 93 ] . أي : أن الله سبحانه وتعالى سوف يقضي بين ما جاءوا في صف الإيمان ، وبين مَنْ بَقَوْا على اليهودية المتعصبة ضد الإيمان . ونحن نلحظ أن كلمة { بَيْنَهُمْ } توضح أن الضمير عام ، لهؤلاء ولأولئك . ونقول : إن الحق سبحانه وتعالى يقضي يوم القيامة بين المؤمنين والكافرين ، ويقضي أيضاً بين الكافرين ، فمنهم من كان ظالماً لكافر ، ومنهم من كان مختلساً أو مرتشياً ، ومنهم من عمل على غير مقتضى دينه لذلك يقضي الله سبحانه بينهم . والآية تفيد العموم في القضاء ماضياً وحاضراً ومستقبلاً بين كل مؤمن وكافر ، وبين كل تائب وعاصٍ . ويقو الحق سبحانه بعد ذلك : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ … } .