Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 92-92)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ونحن نعرف أن الإنسان مكوَّن من بدن ، وهو الهيكل المادي المصوَّر على تلك الصورة التي نعرفها ، وهناك الروح التي في البدن ، وبها تكون الحركة والحياة . وساعة نقول : " بدن " ، فافهم أنها مجردة عن الروح ، مثلما نقول : جسد . وإذا أطلقت كلمة " جسد " فمعناها الهيكل المادي المجرد من الروح . والحق سبحانه هو القائل : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً … } [ ص : 34 ] . وكان سيدنا سليمان - عليه السلام - يستمتع بما آتاه الله سبحانه من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده ، وسخَّر له الجن والرياح وعلّمه كل اللغات ، وكان صاحب الأوامر والنواهي والهيمنة ، ثم وجد نفسه قاعداً على كرسيه بلا حراك وبلا روح ، ويقدر عليه أي واحد من الرعية ، ثم أعاد الله له روحه إلى جسده ، وهو ما يقوله الحق سبحانه : { … ثُمَّ أَنَابَ } [ ص : 34 ] . أي : أنه أفاق لنفسه ، فعلم أن كل ما يملكه هو أمر مُفاضٌ عليه ، لا أمر نابع من ذاته . وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصددها الآن يقول الحق سبحانه : { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً … } [ يونس : 92 ] . وباللهِ ، لو لم يأمر الحق البحر بأن يلفظ جثمان فرعون ، أما كان من الجائز أن يقولوا : إنه إله ، وإنه سيرجع مرة أخرى ؟ ولكن الحق سبحانه قد شاء أن يلفظ البحر جثمانه كما يلفظ جيفة أي حيوان غارق حتى لا يكون هناك شك في أن هذا الفرعون قد غرق ، وحتى ينظر من بقي من قومه إلى حقيقته ، فيعرفوا أنه مجرد بشر ، ويصبح عبرة للجميع ، بعد أن كان جباراً مسرفاً طاغية يقول لهم : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي … } [ القصص : 38 ] . وبعض من باحثي التاريخ يقول : إن فرعون المقصود هو " تحتمس " ، وإنهم حلَّلوا بعضاً من جثمانه ، فوجدوا به آثار مياه مالحة . ونحن نقول : إن فرعون ليس اسماً لشخص ، بل هو توصيف لوظيفة ، ولعل أجساد الفراعين المحنطه تقول لنا : إن علة حفظ الأبدان هي عبرة وليتعظ كل إنسان ويرى كيف انهارت الحضارات ، وكيف بقيت تلك الأبدان آية نعتبر بها . وقد تعرض القرآن لمسألة الفرعون ، فقال الحق سبحانه : { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } [ الفجر : 10 ] . ويقول سبحانه في نفس السورة عن كل جبار مفسد : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [ الفجر : 14 ] . ونلحظ أن كلام الحق سبحانه عن فرعون في سورة الفجر كان كلاماً يضمُّ إلى جانب حضارة الفراعنة حضارات أخرى قديمة ، مثل حضارة عاد وحضارة ثمود . وكذلك تكلم الحق سبحانه عن الفرعون في أثناء لقطات قصة موسى عليه السلام ، ولكن الكلام يختلف في قصة يوسف عليه السلام ، فلا تأتي وظيفة الفرعون ، بل يحدثنا الحق سبحانه عن وظائف أخرى ، هي وظية " عزيز مصر " - أي : رئيس وزرائها - ويحدثنا الله سبحانه عن ملك مصر بقوله : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ } [ يوسف : 50 ] . ولم يُكْتَشَف الفارق بين وظيفة " الفرعون " ووظيفة " الملك " في التاريخ المصري إلا بعد أن جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر وفك " شامبليون " رموز اللغة الهيروغليفيه من خلال نقوش حجر " رشيد " ، فعرفنا أن حكام مصر القديمة كانوا يسمون " الفراعنة " إلا في فترة كانت فيها مصر تحت حكم " ملوك الرعاة " أو " الهكسوس " الذين أغاروا على مصر ، وحكموها حكماً ملكياً وقضوا على حكم الفراعنة ، ثم عاد الفراعنة إلى حكم مصر بعد أن خلصوها من سيطرة " الهكسوس " . وهكذا نجد أن إشارة القرآن في قصة يوسف - عليه السلام - كانت إلى الملك ، ولم يأت فيها بذكر فرعون ، وهذا دليل على أن القرآن قد سبق بعلمه أي اكتشاف ، وكلما جاء اكتشاف جديد أو ابتكار حقيقي ، نجده يؤيد كتاب الله . ويُنهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله : { … وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } [ يونس : 92 ] . وهذا القول يوضح أن هناك من يغفل عن الآيات ، وهناك من لا يغفل عنها ، وينظر إلى تلك الآيات ويتأملها ويتدبرها ، ويتساءل عن جدوى كل شيء ، فيصل إلى ابتكارات واختراعات ينتفع بها الإنسان ، أّذِن بميلادها عند البحث عنها لتستبين عظمة الله في خلقه . وحين ينظر الإنسان في تلك الابتكارات سيجدها وليدة أفكار مَنْ نظروا بإمعان ، وامتلكوا قدرة الاستنباط ، ولو لم يغفل الناس عن النظر في آيات الكون ، والسماوات والأرض ، لزادت الابتكارات والاختراعات ، والحق سبحانه هو القائل : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] . وحين ننظر إلى مكتشف قانون الجاذبية " نيوتن " الذي رأى ثمرة تفاح تسقط من شجرتها ، نجد أن هناك عشرات الآلاف أو الملايين من البشر شاهدوا من قبله مشهد سقوط ثمرة من على شجرة ، ولكن نيوتن وحده هو الذي تفكر وتدبر ما يحدث أمامه إلى أن أهتدى إلى اكتشاف قانون الجاذبية . وجاء من بعد نيوتن من بنى سفن الفضاء التي تستفيد من هذا القانون وغيره . وكذلك نجد من صَمَّم الغواصات ، والبواخر العملاقة التي تشبه المدن العائمة ، هؤلاء اعتمدوا على من اكتشف قانون " الطفو " وقاعدة " أرشميدس " الذي لاحظ أنه كلما غطس شيءٌ في المياه ، ارتفع الماء بنفس حجم الشيء الغاطس فيه . كل هؤلاء اكتشفوا - ولم يخلقوا - أسراراً كانت موجودة في الكون ، وهم تميَّزوا بالانتباه لها . وكذلك العالم الذي اكتشف " البنسلين " قد لاحظ أن أصيصاً من المواد العضوية كانت تنزل منه قطرات من الماء العفن ، ورأى الحشرات التي تقترب من هذا الماء تموت ، فأخذ عينة من هذا العفن وأخذ يُجري عليها بعض التجارب في معمله إلى أن اكتشف " البنسلين " . وقول الحق سبحانه : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] . فكأنهم لو لم يعرضوا لاستنبطوا من آيات الكون الشيء الكثير . وكذلك القصص التي تأتي في القرآن ، إنما جاءت ليعتبر الناس ويتأملوا ، فحين يرسل الله رسولاً مؤيَّداً بمعجزة منه لا يقدر عليها البشر فعلى الناس أن يسلّموا ويقولوا : " آمنا " ، لا أن يظلوا في حالة إعادة للتجارب السابقة لأن ارتقاءات البشر في الأمور المادية قد تواصلت لأن كل جيل من العلماء يأخذ نتائج العلم التي توصل إليها مَنْ سبقوه ، فلماذا لا يحدث هذا في الأمور العقدية ؟ ولو أن الناس بدأوا من حيث انتهى غيرهم لوجدنا الكل مؤمناً بالله تعالى ، ولأخذ كل مولود الأمر من حيث انتهى أبوه ، ولَوصَل خير آدم إلى كل من وُلِدَ بعد ذلك ، لكن آفة البشر أن الإنسان يريد أن يجرب بنفسه . ونحن نجد ذلك في أمور ضارة مثل : الخمر ، نجدها ضارة لكل من يقرب منها ، فإذا حرَّمها الدين وجدنا من يتساءل : لماذا تُحرَّم ؟ وكذلك التدخين نجد من يجربه رغم أن التجارب السابقة أثبتت أضراره البالغة ، ولو أخذ كل إنسان تجارب السابقين عليه فهو يصل عمره بعمر الآخرين . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ … } .