Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 112-112)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والاستقامة معناها : عدم الميل أو الانحراف - ولو قيد شعرةٍ - وهذا أمر يصعب تحقيقه لأن الفاصل بين الضدين ، أو بين المتقابلين هو أدق من الشعرة في بعض الأحيان . ومثال ذلك : حين ترى الظل والضوء ، فأحياناً يصعد الظل على الضوء ، وأحياناً يصعد الضوء على الظل ، وسنجد صعوبة في تحديد الفاصل بين الظل والنور ، مهما دقت المقاييس . وهكذا يصبح فصل الشيء عن نقيضه صعباً ، ولذلك فالاستقامة أمر شاق للغاية . وساعة أن نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شيبتني هود وأخواتها " . ولولا أن قال الحق سبحانه في كتابه الكريم : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ … } [ التغابن : 16 ] . فلولا نزول هذه الآية لتعب المسلمون تماماً ، وقد أنزل الحق سبحانه هذا القول بعد أن قال : { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ … } [ آل عمران : 102 ] . وعزَّ ذلك على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الحق سبحانه ما يخفف به عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن قال سبحانه : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ … } [ التغابن : 16 ] . إذن : فالأمر بالاستقامة هو أمر بدقة الأداء المطلوب لله أمراً ونهياً ، بحيث لا نميل إلى جهة دون جهة . وهكذا تطلب الاستقامة كامل اليقظة وعدم الغفلة . ويقول الحق سبحانه : { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ … } [ هود : 112 ] . وهذا إيذان بألاَّ ييأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقوف صناديد قريش أمام دعوته صلى الله عليه وسلم لأنهم سيتساقطون يوماً بعد يوم . وقول الحق سبحانه : { … وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ هود : 112 ] . يعني ألا نتجاوز الحد ، فالطغيان هو مجاوزة الحد . وهكذا نعلم أن الإيمان قد جعل لكل شيء حدّاً ، إلا أن حدود الأوامر غير حدود النواهي فالحق سبحانه إن أمرك بشيء ، فهو يطلب منك أن تلتزمه ولا تتعده . وقال الحق سبحانه : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا … } [ البقرة : 229 ] . وهذا القول في الأوامر ، أما في النواهي فقد قال سبحانه : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا … } [ البقرة : 187 ] . أي : أن تبتعد عنها تماماً . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملكٍ حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه " . وحين ينهانا الحق سبحانه عن الاقتراب من شيء فهذه هي استقامة الاحتياط ، وهي قد تسمح لك بأن تدخل في التحريم ما ليس داخلاً فيه ، فمثلاً عند تحريم الخمر ، جاء الأمر باجتنابها أي : الابتعاد عن كل ما يتعلق بالخمر حتى لا يجتمع المسلم هو والخمر في مكان . وجعل الحق سبحانه أيضاً الاستقامة في مسائل الطاعة ، وهو سبحانه يقول : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ … } [ الأنعام : 141 ] . والنهي عن الإسراف هنا ليعصمنا الحق سبحانه من لحظة نتذكر فيها كثرة ما حصدنا ، ولكننا لا نجد ما نقيم به الأود فقد يسرف الإنسان لحظة الحصاد لكثرة ما عنده ، ثم تأتي له ظروف صعبة فيقول : " يا ليتني لم أُعْطِ " . وهكذا يعصمنا الحق سبحانه من هذا الموقف . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " سدِّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة ، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل " لأن الدين قوي متين ، و " لن يشاد الدين أحد إلا غلبه " . وهكذا نجد الحق سبحانه ونجد رسوله صلى الله عليه وسلم أعلم بنا ، والله لا يريد منا عدم الطغيان من ناحية المحرمات فقط ، بل من ناحية الحِلِّ أيضاً ، فيوصينا سبحانه بالرفق واللين والهوادة ، وأن يجعل الإنسان لنفسه مُكْنة الاختيار . ومثال ذلك : أن يلزم الإنسان نفسه بعشرين ركعة كل ليلة ، وهو يلزم نفسه بذلك نذراً لله تعالى في ساعة صفاء ، لكنه حين يبدأ في مزاولة ذلك القدر يكتشف صعوبته ، فتكرهه نفسه . ولذلك يأمرنا الحق سبحانه بالاستقامة وعدم الطغيان استقامة في تحديد المأمور به والمنهي عنه ولذلك كان الاحتياط في أمر العبادات أوسع لمن يطلب الاستقامة . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحلال بيِّن ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " . ولذلك يطلب الشارع الحكيم سبحانه منا في الاحتياط أن نحتاط مرة بالزيادة ، وأن نحتاط مرة بالنقص ، فحين تصلي خارج المسجد الحرام ، يكفيك أن تكون جهتك الكعبة ، أما حين تصلي في المسجد الحرام ، فأنت تعلم أن الكعبة قسمان : قسم بنايته عالية ، وقسم اسمه " الحطيم " وهو جزء من الكعبة ، لكن نفقتهم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قصرت فلم يبنوه . لذلك فأنت تتجه ببصرك إلى البناء العالي المقطوع بكعبيته ، وهذا هو الاحتياط بالنقص . أما الاحتياط بالزيادة ، فمثال ذلك : هو الطواف ، وقد يزدحم البشر حول الكعبة ، ولا تسمح ظروفك إلا بالطواف حول المسجد . وهكذا يطول عليك الطواف ، لكنه طواف بالزيادة فعند الصلاة يكون الاحتياط بالنقص ، أما عند الطواف فيكون الاحتياط بالزيادة . وهكذا نجد الاحتياط هو الذي يحدد معنى الاستقامة . ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى : { … إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ هود : 112 ] . وفي الآية السابقة قال سبحانه : { … إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ هود : 111 ] . وعلمنا معنى الخبير ، أما المقصود بالبصير هنا فهو أنه سبحانه يعلم حركة العبادة لأن حركة العبادة مرئية . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ … } .