Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 111-111)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إذن : فالحق سبحانه قد أخذ قوم الرسل السابقين على موسى بالعذاب ، أما في بدء رسالة موسى عليه السلام فقد تم تأجيل العذاب ليوم القيامة . ويبيِّن الحق سبحانه : لا تعتقدوا أن تأجيل العذاب ليوم القيامة يعني الإفلات من العذاب ، بل كل واحد سيوفَّى جزاء عمله بالثواب لمن أطاع ، وبالعقاب لمن عصا ، فأمر الله سبحانه آت - لا محالة - وتوفية الجزاء إنما تكون على قدر الأعمال ، كفراً أو إيماناً ، صلاحاً أو فساداً ، وميعاد ذلك هو يوم القيامة . وهنا وقفة في أسلوب النص القرآني ، حتى يستوعب الذين لا يفهمون اللغة العربية كمَلَكة ، كما فهمها العرب الأقدمون . ونحن نعلم أن العربي القديم لم يجلس إلى معلم ، لكنه فهم اللغة ونطق بها صحيحة لأنه من أمة مفطورة على الأداء البياني الدقيق ، الرقيق ، الرائع . فاللغة - كما نعلم - ليست جنساً ، وليست دماً ، بل هي ظاهرة اجتماعية ، فالمجتمع الذي ينشأ فيه الطفل هو الذي يحدد لغته ، فالطفل الذي ينشأ في مجتمع يتحدث العربية ، سوف ينطق بالعربية ، والطفل الذي يوجد في مجتمع يتحدث اللغة الإنجليزية ، سينطق بالإنجليزية لأن اللغة هي ما ينطق به اللسان حسبما تسمع الأذن . وكانت غالبية البيئة العربية في الزمن القديم بيئة منعزلة ، وكان من ينشأ فيها إنما يتكلم اللغة السليمة . أما العربي الذي عاش في حاضرة مثل مكة ، ومكة - بما لها من مكانة - كانت تستقبل أغراباً كثيرين ولذلك كان أهل مكة يأخذون الوليد فيها لينقلوه إلى البادية حتى لا يسمع إلا اللغة العربية الفصيحة ، وحتى لا يحتاج إلى من يضبط لسانه على لغة العرب الصافية . ولنقرِّبْ هذا الأمر ، ولننظر إلى أن هناك في حياتنا الآن لغتين : لغة نتعلمها في المنازل والشوارع ونتخاطب بها ، وتسمى " اللغة العامية " ، ولغة أخرى نتعلمها في المدارس ، وهي اللغة المصقولة المميزة بالفصاحة والضبط . وكان أهل مكة يرسلون أبناءهم إلى البادية لتلتقط الأذن الفصاحة ، وكانت اللغة الفصيحة هي " العامية " في البادية ، ولم يكن الطفل في البادية يحتاج إلى معلم ليتعلمها لأن أذنه لا تسمع إلا الفصاحة . وكانت هذه هي اللغة التي يتفوق فيه إنسان ذلك الزمان كملكة ، وهي تختلف عن اللغة التي نكتسبها الآن ، ونصقلها في مدارسنا ، وهي لغة تكاد تكون مصنوعة ، فما بالنا بالذين لم يتعلموا العربية من قبل من المستشرقين ، ويتعلمون اللغة على كِبَر . وهؤلاء لم يمتلكوا صفاء اللغة ، لذلك حاولوا أن يطعنوا في القرآن ، وادعى بعض أغبيائهم أن في القرآن لحناً ، قالوا ذلك وهم الذين تعلموا اللغة المصنوعة ، رغم أن من استقبلوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الفصاحة ، لم يجدوا في القرآن لحناً ، ولو أنهم أخذوا لحناً على القرآن في زمن نزوله لأعلنوا هذا اللحن لأن القرآن نزل باللغة الفصيحة على أمة فصيحة ، بليغة صناعتها الكلام . ولأمرٍ ما أبقى الله سبحانه صناديد قريش وصناديد العرب على كفرهم لفترة ، ولو أن أحداً منهم اكتشف لحناً في القرآن لأعلنه . وذلك حتى لا يقولن أحد أنهم قد آمنوا فستروا على القرآن عيوباً فيه . ولو كان عند أحدهم مَهْمَزٌ لما منعه كفره أن يبين ذلك ، فهل يمكن لهؤلاء المستشرقين الذين عاشوا في القرن العشرين أن يجدوا لحناً في القرآن ، وهم لم يمتلكوا ناصية اللغة ملكة ، بل تعلموها صناعة ، والصنعة عديمة الإحساس الذوقي . ومثال ذلك : عدم فهم هؤلاء لأسرار اللغة في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ، فالحق سبحانه يقول : { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ هود : 111 ] . أي : أن كل واحد من الذين صدَّقوا أو من الذين كذَّبوا ، له توفية في الجزاء ، للطائع الثواب وللعاصي العقوبة . وكلمة " إنَّ " - كما نعلم - هي في اللغة " حرف توكيد " في مقابلة مَنْ ينكر ما يجيء بعدها . والإنكار - كما نعلم - مراحل ، فإذا أردت أن تخبر واحداً بخبر لا يعلمه ، فأنت تقول له مثلاً : " زارني فلان بالأمس " . وهكذا يصادف الخبر ذهن المستمع الخالي ، فإن قال لك : " لكن فلاناً كان بالأمس في مكان آخر " ، فأنت تقول له : " إن فلاناً زارني بالأمس " . وحين يرد عليك السامع : " لكنني قابلت فلاناً الذي تتحدث عنه أمس في المكان الفلاني " . وهنا قد تؤكد قولك : " والله لقد زارني فلان بالأمس " . إذن : فأنت تأتي بالتوكيد على حَسْب درجة الإنكار . وحين يؤجل الحق سبحانه العذاب لبعض الناس في الدنيا ، قد يقول غافل : لعل الله لم يعد يعذِّب أحداً . ولذلك بيَّن الحق سبحانه مؤكداً أن الحساب قادم ، لكل من الطائع والمصدِّق ، والعاصي المكذِّب ، فقال سبحانه : { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ … } [ هود : 111 ] . والذين لم تستقم لهم اللغة كملكة ، كالمستشرقين ، وأخذوها صناعة ، توقفوا عند هذه الآية وقالوا : لماذا جاء بالتنوين في كلمة " كلاً " ؟ وهم لم يعرفوا أن التنوين يغني عن جملة ، فساعة تسمع أو تقرأ التنوين ، فاعلم أنه عِوَضٌ عن جملة ، مثل قول الحق سبحانه : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [ الواقعة : 83 - 84 ] . و " كلاً " في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجز أن كلاً من الطائع المؤمن ، والعاصي الكافر ، سوف يلقى جزاءه ثواباً أو عقاباً . أما قوله سبحانه : { لَّمَّا } في نفس الآية ، فنحن نعلم أن " لما " تستعمل في اللغة بمعنى " الحين " و " الزمان " مثل قول الحق سبحانه : { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ … } [ الأعراف : 143 ] . ومثل قوله سبحانه : { وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ … } [ يوسف : 94 ] . أي حين فصلت العير وخرجت من مصر قال أبوهم : { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ … } [ يوسف : 94 ] . و " لما " تأتي أيضاً للنفي مثل قوله سبحانه : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … } [ الحجرات : 14 ] . أي : أن الإيمان لم يدخل قلوبهم بعد ، وتحمل كلمة " لما " الإذن بأن الإيمان سوف يدخل قلوبهم بعد ذلك . وحين تستخدم كلمة " لما " في النفي تكون " حرفاً " مثلها مثل كلمة " لم " ، ولكنها تختلف عن " لم " لأن " لم " تجزم الفعل المضارع ، ولا يتصل نفيها بساعة الكلام ، بل بما مضى ، وقد يتغير الموقف . أما " لما " فيتصل نفيها إلى وقت الكلام ، وفيها إيذان بأن يحدث ما تنفيه . وهكذا نفهم أن قول الحق سبحانه : { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ هود : 111 ] . أي : أن كلاً من الطائع والعاصي سيوفَّى حسابه وجزاؤه ثواباً أو عقاباً ، حين يأتي أجل التوفية ، وهو يوم القيامة . وقد جاءت " لما " لتخدم فكرة العقوبة التي كانت تأتي في الدنيا ، وشاء الله سبحانه أن يؤجل العقوبة للكافرين إلى الآخرة ، وأنسب حرف للتعبير عن ذلك هو " لما " . وحين تقرأ { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } تجد اللام ، وهي لام القسم بأن الحق سبحانه سيوفيهم حسابهم إن ثواباً أو عقاباً . والله سبحانه بما يفعل العباد خبير ، هو سبحانه يعلم أفعال العبد قبل أن تقع ، ولكنها حين تقع لا يمكن أن تُنسَى أو تذهب أدراج الرياح لأن من يعلمها هو " الخبير " صاحب العلم الدقيق ، والخبير يختلف عن العالِم الذي قد يعلم الإجماليات ، لكن الخبير هو المدرَّب على التخصص . ولذلك غالباً ما تأتي كلمتا " اللطيف والخبير " معاً لأن الخبير هو من يعلم مواقع الأشياء ، واللطيف هو من يعرف الوصول إلى مواقع تلك الأشياء . ومثال هذا : أنك قد تعرف مكان اختباء رجل في جبل مثلاً ، هذه المعرفة وهذه الخبرة لا تكفيان للوصول والنفاذ إلى مكانه ، بل إن هذا يحتاج إلى ما هو أكثر ، وهو الدقة واللطف . والحق سبحانه جاء بهذا الحديث عن موسى عليه السلام ليسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأن بعضاً من الكافرين برسالة محمد عليه الصلاة والسلام قالوا : ما دام الله يأتي بالعذاب ليبيد من يكفرون برسله ، فلماذا لا يأتي لنا العذاب ؟ ولهذا جاء ما يخبر هؤلاء بأن الحق سبحانه سيوقع العقوبة على الكافرين ، لا محالة ، فإياك أن يخادعوك - يا رسول الله - في شيء ، أو يساوموك على شيء ، مثلما قالوا : نعبد إلهك سنة ، وتعبد آلهتنا سنة . وقد سبق أن قطع الحق سبحانه هذا الأمر بأن أنزل : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } [ الكافرون : 1 - 4 ] . وهذا هو قطع العلاقات التام في تلك المسألة التي لا تقبل المساومة ، وهي العبادة . ونحن نعلم أن العبادة أمر قلبي ، لا يمكن المساومة فيه ، وقطع العلاقات في مثل هذا الأمر أمر واجب لأنه لا يمكن التفاوض حوله فهي ليست علاقات ظرف سياسي ، ولكنه أمر ربَّاني ، يحكمه الحق سبحانه وحده . وقول الحق سبحانه : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } [ الكافرون : 2 - 4 ] . هذا القول الكريم يشعر من يسمعه ويقرؤه أنهم سيظلون على عبادة غير الله ، وأن محمداً سيظل على عبادة الله ، وأن كلمة " الله " ستعلو لأن الحق سبحانه يأتي بعد سورة " الكافرين " بقوله تعالى : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } [ النصر : 1 - 3 ] . وهنا يقول الحق سبحانه : { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ … } .