Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 115-115)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وجاءت كلمة " اصبر " لتخدم كل عمليات الاستقامة . وكذلك يقول الحق سبحانه : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا … } [ طه : 132 ] . والصبر نوعان : صبر " على " ، وصبر " عن " وفي الطاعات يكون الصبر على مشقة الطاعة ، مثل صبرك على أن تقوم من النوم لتصلي الفجر ، وفي اتقاء المعاصي يكون الصبر عن الشهوات . وهكذا نعلم أن الصبر على إطلاقه مطلوب في الأمرين : في الإيجاب للطاعة ، وفي السلب عن المعصية . ونحن نعلم أن الجنة حُفَّتْ بالمكاره فاصبر على المكاره ، وحُفَّتِ النار بالشهوات فاصبر عنها . وافرض أن واحداً يرغب في أكل اللحم ، ولكنه لا يملك ثمنها ، فهو يصبر عنها ولا يستدين . ولذلك يقول الزهاد : ليس هناك شيء اسمه غلاء ، ولكن هناك شيء اسمه رخص النفس . ولذلك نجد من يقول : إذا غلا شيء عليّ تركته ، وسيكون أرخص ما يكون إذا غلا . والحق سبحانه يقول : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ … } [ لقمان : 17 ] . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَٱصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ هود : 115 ] . وهم الذين أدخلوا أنفسهم في مقام الإحسان ، وهو أن يلزم الواحد منهم نفسه بجنس ما فرض الله فوق ما فرض الله ، من صلاة أو صيام ، أو زكاة ، أو حج لبيت الله لأن العبادة ليست اقتراحاً من عابدٍ لمعبود ، بل المعبود هو الذي يحدد ما يقربك إليه . وحاول ألاّ تدخل في مقام الإحسان نَذْراً لأنه قد يشق عليك أن تقوم بما نذرته ، واجعل زمان الاختيار والتطوع في يدك حتى لا تدخل مع الله في ودٍّ إحساني ثم تفتر عنه ، وكأنك - والعياذ بالله - قد جرَّبت مودة الله تعالى ، فلم تجده أهلاً لها ، وفي هذا طغيان منك . وإذا رأيت إشراقات فيوضات على مَنْ دخل مقام الإحسان فلا تنكرها عليه ، وإلا لسويت بين من وقف عند ما فُرِضَ عليه ، وبين من تجاوز ما فُرِضَ عليه من جنس ما فَرَضَ الله . وجرب ذلك في نفسك ، والتزم أمر الله باحترام مواقيت الصلاة ، وقم لتصلي الفجر في المسجد ، ثم احرص على أن تتقن عملك ، وحين يجيء الظهر قم إلى الصلاة في المسجد ، وحاول أن تزيد من ركعات السنة ، وستجد أن كثافة الظلمانية قد رَقَّتْ في أعماقك ، وامتلأتَ بإشراقات نوارنية تفوق إدراكات الحواس ، ولذلك لا تستكثر على مَنْ يرتاض هذه الرياضة الروحية ، حين تجد الحق سبحانه قد أنار بصيرته بتجليات من وسائل إدراك وشفافية . ولذلك لا نجد واحداً من أهل النور والإشراق يدَّعي ما ليس له ، والواحد منهم قد يعلم أشياء عن إنسان آخر غير ملتزم ، ولا يعلنها له لأن الله سبحانه وتعالى قد خَصَّه بأشياء وصفات لا يجب أن يضعها موضع التباهي والمراءاة . وحين عرض الحق سبحانه هذه القضية أراد أن يضع حدوداً للمرتاض ولغير المرتاض ، في قصة موسى عليه السلام حينما وجد موسى وفتاه عبداً صالحاً ، ووصف الحق سبحانه العبد الصالح بقوله تعالى : { … عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] . وقال العبد الصالح لموسى عليه السلام : { … إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [ الكهف : 67 ] . وبيَّن العبد الصالح لموسى - بمنتهى الأدب - عذره في عدم الصبر ، وقال له : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [ الكهف : 68 ] . وردَّ موسى عليه السلام : { … سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } [ الكهف : 69 ] . فقال العبد الصالح : { … فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } [ الكهف : 70 ] . ولكن الأحداث توالت فلم يصبر موسى فقال له العبد الصالح : { هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ … } [ الكهف : 78 ] . وهذا حكم أزلي بأن المرتاض للرياضة الروحية ، ودخل مقام الإحسان لا يمكن أن يلتقي مع غير المرتاض على ذلك ، وليلزم غير المرتاض الأدب مثلما يلتزم المرتاض الأدب ، ويقدم العذر في أن ينكر عليه غير المرتاض معرفة ما لا يعرفه . ولو أن المرتاض قد عذر غير المرتاض ، ولو أن غير المرتاض تأدب مع المرتاض لاستقرَّ ميزان الكون . والحق سبحانه يبيِّن لنا مقام الإحسان وأجر المحسنين ، في قوله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [ الذاريات : 15 - 16 ] . ويبيِّن الحق سبحانه لنا مدارج الإحسان ، وأنها من جنس ما فرض الله تعالى ، في قوله سبحانه : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] . والحق سبحانه لم يكلف في الإسلام ألا يهجع المسلم إلا قليلاً من الليل ، وللمسلم أن يصلي العشاء ، وينام إلى الفجر . وتستمر مدارج الإحسان ، فيقول الحق سبحانه : { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 18 ] . والحق سبحانه لم يكلِّف المسلم بذلك ، ولكن الذي يرغب في الارتقاء إلى مقام الإحسان يفعل ذلك . ويقول الحق سبحانه أيضاً : { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 19 ] . ولم يحدد الحق سبحانه هنا هذا الحق بأنه حق معلوم ، بل جعله حقاً غير معلوم أو محددٍ ، والله سبحانه لم يفرض على المسلم إلا الزكاة ، ولكن من يرغب في مقام الإحسان فهو يبذل من ماله للسائل والمحروم . وهكذا يدخل المؤمن إلى مقام الإحسان ، ليودَّ الحق سبحانه . ولله المثل الأعلى : نحن نجد الإنسان حين يوده غيره فهو يعطيه من خصوصياته ، ويفيض عليه من مواهبه الفائضة ، علماً ، أو مالاً ، فما بالنا بمن يدخل في ودٍّ مع الله سبحانه وتعالى . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ … } .