Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 15-15)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وكان الكافرون قد تكلموا بما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم وقالوا : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ … } [ هود : 12 ] . فهم - إذن - مشغولون بنعيم الدنيا وزينتها . والحياة تتطلب المقومات الطبيعية للوجود ، من ستر عورة ، وأكل لقمة وبيت يقي الإنسان ويؤويه . أما الزينة فأمرها مختلف ، فبدلاً من أن يرتدي الإنسان ما يستر العورة ، يطلب لنفسه الصوف الناعم شتاء ، والحرير الأملس صيفاً ، وبدلاً من أن يطلب حجرة متواضعة تقيه من البرد أو الحر ، يطلب لنفسه قصراً . وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ … } [ آل عمران : 14 ] . وكل هذه أشياء تدخل في متاع الحياة الدنيا ، ويقول الحق سبحانه : { … ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [ آل عمران : 14 ] . إذن : ما معنى كلمة " زينة " ؟ معنى كلمة " زينة " أنها حُسْنٌ أو تحسين طارىء على الذات ، وهناك فرق بين الحسن الذاتي والحسن الطارىء من الغير . والمرأة - على سبيل المثال - حين تتزين فهي تلبس الثياب الجميلة الملفتة ، وتتحلّى بالذهب البرَّاق ، فهو المعدن الذي يأخذ نفاسته من كثرة تلألئه الذي يخطف الأبصار ، ولا تفعل ذلك بمغالاة إلا التي تشك في جمالها . أما المرأة الجميلة بطبيعتها ، فهي ترفض أن تتزين ولذلك يسمونها في اللغة : " الغانية " ، أي : التي استغنت بجمالها الطبيعي عن الزينة ، ولا تحتاج إلى مداراة كِبرَ أذنيها بقُرْط ضخم ، ولا تحتاج إلى مداراة رقبتها بعقد ضخم ، ولا تحاول أن تداري معصمها الريان بسوار ، وترفض أن تُخفِي جمال أصابعها بالخواتم . وحين تُبالغ المرأة في ذلك التزيُّن فهي تعطي الانطباع المقابل . وقد يكون المثل الذي أضربه الآن بعيداً عن هذا المجال ، لكنه يوضح كيف يعطي الشيء المبالَغ فيه المقابل له . وفي ذلك يقول المتنبي : @ الطِّيبُ أنت إذَا أصَابكَ طِيبهُ والماءُ أنتَ إذا اغتسلتَ الغاسلُ @@ وهو هنا يقول : إن الطيب إذا ما أصاب ذلك الإنسان الموصوف ، فالطيب هو الذي يتطيَّب ، كما أن الماء هو الذي يُغْسَل إذا ما لمس هذا الإنسان ، وكذلك تأبى المرأة الجميلة أن تُزيِّن نَحْرَها بقلادة لأن نحرها بدون قلادة يكون أكثر جمالاً . ويقال عن مثل هذه المرأة " غانية " لأنها استغنتْ بجمالها . ويقال عن جمال نساء الحضر : إنه جمال مصنوع بمساحيق ، وكأن تلك المساحيق مثبتة على الوجه بمعجون كمعجون دهانات الحوائط ، وكأن كل واحدة تفعل ذلك قد جاءت بسكين من سكاكين المعجون لتملأ الشقوق المجعدة في وجهها . ولحظة أن يسيح هذا المعجون ترتبك ، ويختل مشهد وجهها بخليط الألوان ولذلك يقال : @ حُسْنُ الحضَارةِ مُجْلُوبٌ بِتَطْريةٍ وفي البدَاوةِ حُسْنٌ غيرُ مَجْلوبِ @@ إذن : فالزينة هي تحسين الشيء بغيره ، والشيء الحسن يستعني عن الزينة . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [ هود : 15 ] . أي : إن كفرتم بالله فهو سبحانه لا يضن عليكم في أن يعطيكم مقومات الحياة وزينتها لأنه رب ، وهو الذي خلقكم واستدعاكم إلى الوجود ، وقد ألزم الحق سبحانه نفسه أن يعطيكم ما تريدون من مقومات الحياة وزينتها لأنه سبحانه هو القادر على أن يوفِّي بما وعد . وهو سبحانه يقول هنا : { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ … } [ هود : 15 ] . أي : أنهم إن أخذوا بالأسباب فالحق سبحانه يُلزم نفسه بإعطاء الشيء كاملاً غير منقوص . وهم في هذه الدار الدنيا لا يُبْخَسون في حقوقهم ، فمن يتقن عمله يأخذ ثمرة عمله . وهذا القول الكريم يحُلُّ لنا إشكالاً كبيراً نعاني منه ، فهناك مَنْ يقول : إن هؤلاء المسلمين الذين يقولون : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، ويقيمون الصلاة ، ويبنون المساجد ، بينما هُمْ قومٌ متخلّفون ومتأخّرون عن رَكْب الحضارة ، بينما نجد الكافرين وهم يَرْفُلُون في نعيم الحَضَارة . ونقول : إن لله تعالى عطاءَ ربوبية للأسباب ، فمن أحسنَ الأسباب حتى لو كان كافراً ، فالأسباب تعطيه ، ولكن ليس له في الآخرة من نصيب لأن الحق سبحانه يقول : { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] . والحق سبحانه يجزي الكافر الذي يعطي خيراً للناس بخيرٍ في الدنيا ، ويجزي الصادق الذي لا يكذب من الكفار بصدق الآخرين معه في الدنيا ، ويجزي من يمدُّ يده بالمساعدة من الكفار بمساعدة له في الدنيا . وكلها أعمال مطلوبة في الدِّين ، ولكنَّ الكافر قد يفعلها ، فيردُّ الله سبحانه وتعالى له ما فعل في الدنيا ، وإنْ كان قد فعل ذلك ليُقَال : إن فلاناً عَمِلَ كذا ، أو فلاناً كان شَهْماً في كذا ، فيُقال له : " عملْتَ لِيُقال وقد قِيل " . وإذا كان الكافرون يأخذون بالأسباب فالحق سبحانه يعطيهم ثمرة ما أخذوا من الأسباب . ويجب أن نقول لمن يتهم المسلمين بالتخلُّف : لقد كان المسلمون في أوائل عهدهم متقدمين ، وكانوا سادة حين طبَّقوا دينهم ، ظاهراً وباطناً ، شكلاً ومضموناً . وعلى ذلك فالتخلُّف ليس لازماً ولا ملازماً للإسلام ، وإنما جاء التخلُّف لأننا تركنا روح الإسلام وتطبيقه . وإنْ عقدنا مقارنة بين حال أوربا حينما كانت الكنيسة هي المسيطرة ، كنا نجد كل صاحب نشاط عقلي مُبْدِعٍ ينال القتل عقوبة على الإبداع ، وكانت تسمى تلك الأيام في أوربا " العصور المظلمة " . وحينما جاءت الحروب الصليبية وعرفت أوربا قوة الإسلام والمسلمين ، ودحرهم المسلمون ، بدأوا في محاولة الخروج على سلطان البابا والكنيسة ، وعندما فعلوا ذلك تَقَدَّموا . هم - إذن - عندما تركوا سلطان البابا تقدموا ، ونحن حين تركنا العمل بتعاليم الإسلام تخلَّفنا . إذن : فأيُّ الجَرْعَتيْن خير ؟ إن واقع الحياة قد أثبت تقدُّم المسلمين حين أخذوا بتعاليم الإسلام ، وتخلفوا حين تركوها . وهكذا … فمعيار التقدُّم هو الأخذْ بالأسباب ، فمن أخذ بالأسباب وهو مؤمن نال حُسْن خير الدنيا وحُسْن ثواب الآخرة ، ومَنْ لم يؤمن وأخذ بالأسباب نال خير الدنيا ولم يَنَلْ ثواب الآخرة . والحق سبحانه وتعالى هو القائل : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ … } [ النور : 39 ] . وهكذا يُفاجأ بالإله الذي كذَّب به . والحق سبحانه يقول : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ … } [ إبراهيم : 18 ] . إذنْ : فمن أراد الدنيا وزينتها ، فالحق الأعلى سبحانه يوفِّيه حسابه ولا يبخسه من حقه شيئاً ، فحاتم الطائي - على سبيل المثال - أخذ صفة الكرم ، وعنترة أخذ صفة الشجاعة ، وكل إنسان أحسن عملاً أخذ أجره ، ولكن عطاء الآخرة هو لمن عمل عمله لوجه الله تعالى ، وآمن به . وحتى الذين دخلوا الإسلام نفاقاً وحاربوا مع المسلمين ، أخذوا نصيبهم من الغنائم ، ولكن ليس لهم في الآخرة من نصيب . إذن : فالوفاء يعني وجود عَقْد ، وما دام هناك عقد بين العامل والعمل ، وأتقن العاملُ العملَ فلا بد أن يأخذ أجره دون بَخْس لأن البَخْسَ هو إنقاص الحق . ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ … } .