Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 1-1)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وتبدأ الآية بحروف توقيفية مقطعة من الحروف التي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم ، أي : أن كل حرف من تلك الحروف يُنطَق بمفرده ، والحرف - كما نعلم - له اسم ، وله مسمى ، ونحن حين نكتب أو نتكلم نكتب أو ننطق بمسمى الحرف لا باسمه . ولكن بعض سور القرآن الكريم تبدأ بحروف نقرأها باسم الحرف ، وما عداها يُنطق فيها بمسميات الحرف . وإن أردنا معرفة الفارق بينهما ، فنحن نقرأ في أول سورة البقرة ونقول : " ألف . لام . ميم " رغم أنها مكتوبة : { الۤمۤ } [ البقرة : 1 ] . إذن : فنحن ننطقها بمسميات الحروف عكس قراءتنا لقول الحق سبحانه : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] . ونحن ننطقها بأسماء الحروف … لماذا ؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمعها هكذا من جبريل عليه السلام ، والقرآن أصله سماع ، وأنت لا تقرأ قرآناً إلا إذا سمعت قرآناً لتعرف كيف تقرأ الحروف المقطعة بأسماء الحروف ، وتقرأ بقية الآيات بمسميات الحروف . وكنا قديماً قبل أن نحفظ القرآن " نصحح " اللوح ، أي : أن يقرأ الفقيه أولاً ليُعلمنا كيف نقرأ قبل أن نحفظ . والذي يُتعب الناس أنهم يريدون أن يقرأوا القرآن الكريم دون أن يجلسوا إلى فقيه أو دون أن يستمعوا إلى قارىء للقرآن . ونقول لهم : إن القرآن ليس كتاباً عادياً نقرأه ، إن القرآن كتاب له خاصية مميزة ، فَصُور الحروف تختلف ، فمرة ننطق اسم الحرف ، ومرة نقرأ مسمى الحرف . وقول الحق سبحانه : { الۤر } في أول سورة هود يجعلنا نلحظ أنه من العجيب في فواتح السور - التي بدأت بهذه الحروف - أن القرآن مبنيٌّ على الوصل دائماً ، فأنت لا تأتي إلى آخر الآية وتقف ، لا ، بل كل القرآن وَصْل ، مثلما نقرأ قول الله سبحانه : { مُدْهَآمَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } [ الرحمن : 64 - 66 ] . وإن كان هناك فاصل بين كل آية وغيرها ، إلا أن الآيات كلها مبنية على الوصل . وفي آخر سورة يونس يقول الحق سبحانه : { … وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } [ يونس : 109 ] . فلو لم تكن موصولة لنطقت الحرف الأخير مبنياً على السكون ، ولكنك تقرأه منصوباً بالفتحة . وهي موصولة بما بعدها بسم الله الرحمن الرحيم . ومن العجيب أن فواتح السور مع أنها مكونة من حروف مبنية على الوصل إلا أننا نقرأ كل حرف موقوفاً ، فلا نقول : " ألفٌ لامٌ ميمٌ " بل نقول : " ألفْ لامْ ميمْ " . وكذلك نقرأ في أول سورة مريم " كافْ هاءْ ياءْ عينْ صادْ " ، ولا نقرأ الحروف بتشكيلها الإعرابي ، وهذا يدل على أن لها حكمة لا نعرفها . وفي القرآن الكريم آيات بُدئت بحرف واحد مثل قول الحق سبحانه : { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } [ ص : 1 ] . وقول الحق سبحانه : { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 ] . وقول الحق سبحانه : { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } [ القلم : 1 ] . ونلحظ أن الحرف في هذه السور ليس آية ، ولكنك تقرأ قول الحق سبحانه : { حـمۤ } [ الشورى : 1 ] . وهي آية ، وكذلك تقرأ قول الحق سبحانه : { عۤسۤقۤ } [ الشوى : 2 ] كآية مع أنها حروف مقطعة ، وتقرأ قول الحق سبحانه : { كۤهيعۤصۤ } [ مريم : 1 ] كآية بمفردها . وتقرأ قول الحق سبحانه : { طه } [ طه : 1 ] كآية بمفردها . وكذلك تقرأ قول الحق : { يسۤ } [ يس : 1 ] كآية بأكملها . وتجد أيضاً : { الۤمۤصۤ } [ الأعراف : 1 ] كآية . و { طسۤمۤ } [ الشعراء : 1 والقصص : 1 ] كآية . وتجد أيضاً { الۤمۤر } [ الرعد : 1 ] ملتحمة بما بعدها في آية واحدة . وتقرأ في أول سورة النمل : { طسۤ } [ النمل : 1 ] ملتحمة بما بعدها في آية واحدة . إذن : فالمسألة لا نسق لها ، ومعنى ذلك أن لكل موقف وكل حرف حِكمة ، والحكمة نجدها حين نتأمل العالم المادي في الحياة ، فنفطن إلى عبر الله سبحانه وتعالى في آيات الكون المحسَّة ، ويجد الدليل على صدق الله تعالى فيما لم نعلم . ومثال ذلك : حين ينزل الإنسان في فندق راق فهو يجد لكل غرفة مفتاحاً ، وهذا المفتاح لا يفتح إلا باب غرفة واحدة ، ولكن في كل طابق من طوابق الفندق هناك مفتاح مع المسئول عن الطابق يسمى " سيد المفاتيح " وهو يفتح كل غرف الطابق ، وقد صنعوا ذلك حتى لا يفتح كل نزيل غرفة الآخر . ومع التقدم العلمي جعلوا الآن لكل غرفة بطاقة الكترونية ، ما إن يُدخلها الإنسان من فتحة معينة من باب الغرفة حتى ينفتح الباب ، وكل غرفة لها بطاقة معينة ، وأيضاً يوجد مع مسئول الطابق في الفندق بطاقة واحدة ، تفتح كل غرف الطابق . وأنت حين تقرأ فواتح السور فافهم أن كل آية لها مفتاح ، وكل حرف في هذه الفواتح قد يشبه المفتاح ، وإن لم يكن معك المفتاح ذو الأسنان التي تفتح باب الغرفة فلن تنفتح لك السورة . إذن : فكتاب الله له مفاتيح ، ونحن نقرأ حروفاً مُقطَّعة على أنها آية ، أو نقرأها كجزء من آية . وتقول من قبل القراءة : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لتخلص نفسك من الأغيار المناقضة لمنهج قائل القرآن ، ثم تضع البطاقة الخاصة مثل قول الحق سبحانه وتعالى : { الۤمۤ } [ البقرة : 1 ] . فينفتح لك باب القراءة . وهكذا نعرف أن هناك مفتاحاً ، وأن هناك فاتحاً . وخذ فواتح السور على أنها مفاتيح ، وكل مفتاح له شكل ونحت معين ، إن نقلته لسورة أخرى فهو لا يفتحها . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { الۤر } وهي مكونة من ثلاثة حروف ، مثل { الۤمۤ } ، وقد وردت في خمس سور من القرآن الكريم هي : يونس ، وهود ، ويوسف ، وإبراهيم ، والحجر . ولكن { الۤمۤ } تقرأ كآية ، ولكنها هنا في مقدمة سورة " هود " جزء من آية رغم أنك تقرأها مثلها مثل سورة يونس ، وسورة هود ، وسورة يوسف وسورة إبراهيم ، وتقرأها كآية . وايضاً { الۤمۤصۤ } هي أربعة حروف تقرأها آية في سورة الأعراف ، وهناك أربعة حروف في أول سورة الرعد ، وتقرأها كجزء من آية في سورة الأعراف . إذن : فليس هناك قانون لهذه الحروف التي في أوائل السور ، بل كل حرف له خصوصية لم تتكشف كل أسرارها بعد ، لهذا ذهب بعض المفسرين إلى قولهم " الله أعلم بمراده " . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] . والله سبحانه يقول مرة عن القرآن أنه : { كِتَابٌ } ومرة يقول : { قُرْآنٍ } [ يونس : 61 ] . والقرآن يُقرأ ، والكتاب يُكتب ، وشاء الحق سبحانه ذلك ليدُلَّك على أن الحافظ للقرآن مكانان : صدور ، وسطور . فإن ضَلَّ الصدر ، تذكر السطر . ولذلك " حين أراد المسلمون الأوائل جمع القرآن ، ومطابقة ما في الصدور على ما في السطور ، وضعوا أسساً لتلك العملية الدقيقة ، من أهمها ضرورة وجود شاهدين على كل آية ، ووقفوا عند آخر آيتين في سورة التوبة ، ولم يجدوا إلا شاهداً واحداً هو " خزيمة " ، وصدَّقوا " خزيمة " وكتبوا الآيتين عنه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد منحه وساماً ، حين قال عنه : " من شهد له خزيمة فهو حسبه " . إذن : فإطلاق صفة الكتاب على القرآن ، سببها أنه مكتوب ، وهو قرآن لأنه مقروء . ولم تكن الكتابة في الأزمنة القديمة مسألة سهلة ، فلم يكن يُكتب إلا النفيس من الأعمال ، أو لأن القرآن كتاب لأنه في الأصل مكتوب في اللوح المحفوظ . وحين يقول الحق سبحانه وتعالى واصفاً القرآن : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ … } [ هود : 1 ] . ومادة الحاء والكاف والميم تدل على أمر مُحسٍّ وهو إتقان البناء ، بحيث يمنع عنه الفساد فلا خلل فيه ، ولا تناقض ، ولا تعارض ولا انهيار . ولا بد من توازن هندسي لكل فتحة في البناء حتى لا تكون الفتحات التي في البناء متوازية على خط واحد ، فتحدث شروخ في الجدران أو انهيار البناء كله . هذا هو إحكام البناء في عالم المحسَّات . وشاء الحق سبحانه أن يصف القرآن ، وهو الجامع لكل المنهج بأنه : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ … } [ هود : 1 ] . فخذوا من هذا الإحكام ما يمنع فسادكم لأن القرآن جاء على هيئة تمنع الفساد فيه ، وعقد منع الفساد يكون الإصلاح والصلاح . ولو نظرتَ إلى أن القرآن الكريم في اللوح المحفوظ ستجده قد نزل جملة واحدة ، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وجاء الوحي بعد ذلك حسب الأحداث التي تتطلب الأحكام ، وقد نثر الحق سبحانه في القرآن أحكاماً وفصولاً ونجوماً . إذن : فالقرآن قد أحكِم أولاً ، ثم فُصِّل . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ … } [ هود : 1 ] . والفواصل الكبيرة في القرآن هي السور ، والفواصل الصغيرة هي الآيات ، وأراد المسلمون أن يشجعوا حفظ القرآن ، فقسموه إلى ثلاثين جزءاً ، وكل جزء قسموه إلى حزبين ، وكل حزب قسموه إلى أربعة أرباع ، لكن التفصيل الذي جاء لنا من القرآن أنه سور ، وكل سورة هي مجموعة من الآيات . وقد يكون المعنى أن القرآن قد أحْكِمَ وفُصِّل لأنه نزل منهجاً جامعاً من الله سبحانه وتعالى . وحين تنظر إليه تجده مُنَّوعاً ، فمرة يتكلم في العقيدة وقمتها ، ومرة يتكلم في النبوة وموكبها الرسالي ، والمعجزات ، ومرة يتكلم في الأحكام ، ومرة يتكلم في القصص ، والأخلاقيات ، والكونيات . ومرة يتكلم في علم الفرائض . إذن : فهو مفصل في اللفظ أو في المعنى ، وهو يتناول معاني كثيرة ، وكل معنى تتطلبه العقيدة ، قمة في الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويتناول الجزئيات حتى أدق التفاصيل . أو أحكم نزولاً لأنه قد نزل مرة واحدة إلى السماء الدنيا ، ثم فُصِّل حسب الحَوادث ، وهذا أدْعَى إلى أن تتعلق النفس بكل نجم من نجوم القرآن حين ينزل وقت طلبه . وأنت حين تُعِد لنفسك صيدلية صغيرة في البيت ، قد تأتي فيها بكل الأدوية ، لكن إن أصابك صداع ، فقد تفتش عن أقراص " الأسبرين " فلا تجدها . أما إذا أرسلت إلى الصيدلية الكبيرة ، فسوف تجد " الأسبرين " حين تحتاجه . وكذلك حين تكون ظمآن ، قد تفتح ثلاجة بيتك فلا تجد زجاجة الماء رغم أنها أمامك ، وذلك بسبب لهفة العطش . إذن : فنزول القرآن منجماً شاءه الحق - سبحانه - لتنتعش النفس الإنسانية وهي تعشق استقبال القرآن . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] . وقد جاء في القرآن على لسان الكافرين : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً … } [ الفرقان : 32 ] . فيكون الرد من الحق سبحانه : { … كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] . ولو كان القرآن قد نزل مرة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما التفت الناس إلى كل ما جاء فيه ، ولكن شاء الحق سبحانه وتعالى أن ينزل القرآن مُنجَّماً على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليكون في كل نجم تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المواقف المختلفة ، والرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك أمته من بعده في حاجة إلى تثبيتات متعددة حسب الأحداث التي تعترضهم ، ولذلك قال الحق سبحانه : { … كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] . فساعة أن يسمع المؤمنون نجماً من نجوم القرآن ، يكونون أقدر على استيعابه وحفظه وتطبيق الأحكام التي جاءت فيه . ولم يُنزل الحق سبحانه آية واحدة ، بل أنزل آياتٍ ، بدليل أنهم إن جاءوا بحكم ما ، فهو سبحانه وتعالى ينزل الحق في هذا الحكم وأكثر تفصيلاً ولذلك يقول سبحانه : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ الفرقان : 33 ] . ولو نزل القرآن جملة واحدة ، فكيف يعالج أسئلتهم التي جاءت في القرآن : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ } . ويضرب الله مثلاً بالبعوضة ، فيتساءلون ساخرين : كيف يضرب الله مثلاً بالبعوضة . فينزل قول الحق سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا … } [ البقرة : 26 ] . ولو كانوا عقلاء لتساءلوا : كيف ركَّب الحق سبحانه في هذا الكائن الضئيل - البعوضة - كل أجزاء الكائن الحي من محلِّ الغذاء إلى قدرة الهضم ، إلى محل التنفس ، إلى محل الدم ، إلى محل الأعصاب . وكان يجب أن يأخذوا من هذا الخلق دلائل العظمة لأن عظمة الصنعة تكون في أمرين : إما ضخامة الشيء المصنوع ، وإما أن يكون الشيء المصنوع تحت إدراك الحس . ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - أن الفنيين حين صنعوا ساعة " بج بن " التفت الناس إلى ضخامة تلك الساعة ، ودقة أدائها ، وحين صنع الفنيون في " سويسرا " ساعة دقيقة وصغيرة جداً في حجمها ، زاد إعجاب الناس بدقة الصنعة . وهكذا نجد أن القدرة تتجلى في صناعة الشيء الكبير في الحجم ، أو صناعة الشيء الدقيق جداً فما بالنا بخالق الكون كله ، بأكبر ما فيه وأصغر ما فيه . والحق سبحانه وتعالى يضرب المثل بالذبابة فيقول : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ … } [ الحج : 73 ] . فول اجتمع الخلق المشركون أو المتجبرون وسألوا أصنامهم أن يخلقوا لهم ذبابة ، أو حتى لو حاولوا هم خَلْق ذبابة لما استطاعوا ، ولا يقتصر الأمر على ذلك العجز فقط ، بل يتعداه إلى عجز آخر : { وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73 ] . فإن جاءت ذبابة على أي طعام ، وأخذت بعضاً من الطعام ، فهل يستطيع أحد أن يستخلص من الذبابة ما أخذته ؟ لا ، وكذلك نرى ضعف الاثنين : الطالب والمطلوب . وهنا يقول الحق سبحانه : { الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] . فالإحكام لا يتناقض مع التفصيل لأن الحق سبحانه هو الذي أحكم ، وهو سبحانه الذي فصَّل ، وهو سبحانه حكيم بما يناسب الإحكام ، وهو سبحانه خبير بما يناسب التفصيل ، بطلاقة غير متناهية . وهو سبحانه حكيم يخلق الشيء مُحْكماً لا يتطرق إليه فساد ، وهو سبحانه خبير عنده علم بخفايا الأمور . ويقول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الأنعام : 103 ] . فالله سبحانه لا تدركه عين ، وعينه - سبحانه وتعالى - لا تغفل عن أدق شيء وأخفى نية . إذن : فقول الحق سبحانه وتعالى : { الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] . يبيِّن لنا أن القرآن كلام الله القدير الذي بُني على الإحكام ، ونزل مُحْكماً جملة واحدة ، ثم جاءت الأحداث المناسبة لينزل من السماء الدنيا نجوماً مفصلة تناسب كل حدث . وإحكام الكتاب ثم تفصيله له غاية ، هي الغاية من المنهج كله ، ويبيِّنها الحق سبحانه في الآية التالية : { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ … } .