Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 2-2)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إذن : فقد أحكمت آيات الكتاب وفصِّلت لغاية هي : ألا نعبد إلا الله . والعبادة هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر ، وفيما نهى . وهكذا نجد أن العبادة تقتضي وجود معبود له أمر وله نهي ، والمعبود الذي لا أمر له ولا نهي لا يستحق العبادة ، فهل مَنْ عَبَدَ الصنم تلقَّى من أمراً أو نهياً ؟ وهل مَنْ عَبَدَ الشمس تلقَّى منها أمراً أو نهياً ؟ إذن : فكلمة العبادة لكل ما هو غير الله هي عبادة باطلة لأن مثل تلك المعبودات لا أمر لها ولا نهي ، وفوق ذلك لا جزاء عندها على العمل الموافق لها أو المخالف لها . والعبادة بدون منهج " افعل " و " لا تفعل " لا وجود لها ، وعبادة لا جزاء عليها ليست عبادة . وهنا يجب أن نلحظ أن قول الحق سبحانه : { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ … } [ هود : 2 ] . غير قوله سبحانه : { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ … } [ المائدة : 72 ] . ولو أن الرسل تأتي الناس وهم غير ملتفتين إلى قوة يعبدونها ويقدسونها لكان على الرسل أن يقولوا للناس : { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ … } [ الأعراف : 59 ] . ولكن هنا يقول الحق سبحانه : { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ … } [ هود : 2 ] . فكأنه سبحانه يواجه قوماً لهم عبادة متوجهة إلى غير من يستحق العبادة فيريد سبحانه أولاً أن يُنهي هذه المسألة ، ثم يثبت العبادة لله . إذن : فهنا نفي وإثبات ، مثل قولنا : " أشهد ألا إله إلا الله " ، هنا ننفي أولاً أن هناك إلهاً غير الله ، ونثبت الألوهية لله سبحانه . وأنت لا تشهد هذه الشهادة إلا إذا وُجِد قوم يشهدون أن هناك إلهاً غير الله تعالى ، ولو كانوا يشهدون بألوهية الإله الواحد الأحد سبحانه لكان الذهن خالياً من ضرورة أن نقول هذه الشهادة . ولكن قول الحق سبحانه { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ … } [ هود : 2 ] . معناه النفي أولاً للباطل ، وإذا نُفِي الباطل لا بد أن يأتي إثبات الحق ، حتى يكون كل شيء قائماً على أساس سليم . ولذلك يقال : " درء المفسدة مقدَّم دائماً على جلب المنفعة " فالبداية ألا تعبد الأصنام ، ثم وجِّه العبادة إلى الله سبحانه . وما دامت العبادة هي طاعة الأمر ، وطاعة النهي ، فهي - إذن - تشمل كل ما ورد فيه أمر ، وكل ما ورد فيه نهي . وإنْ نظرت إلى الأوامر والنواهي لوجدتها تستوعب كل أقضية الحياة من قمة الشهادة بأن لا إله إلا الله ، إلى إماطة الأذى عن الطريق . وكل حركة تتطلبها الحياة لإبقاء الصالح على صلاحه أو زيادة الصالح ليكون أصلح ، فهذه عبادة . إذن : فالإسلام لا يعرف ما يقال عنه " أعمال دنيئة " ، و " أعمال شريفة " ولكنه يعرف أن هناك عاملاً دنيئاً وعاملاً شريفاً . وكل عامل يعمل عملاً تتطلبه الحياة بقاء للصالح أو ترقية لصلاحه وعدم الإفساد ، فهذا عامل شريف وقيمة كل امرىء فيما يحسنه . وهكذا نجد أن كلمة العبادة تستوعب كل أقضية الحياة لأن هناك أمراً بما يجب أن يكون ، وهناك نهياً عما يجب ألا يكون ، وما لم يرد فيه نهي لك الخيار في أن تفعله أو لا تفعله ، فإذا نظرت إلى نسبة ما تؤمر به ، ونظرت ألى ما تُنهى عنه بالنسبة لأعمال الحياة ، لوجدت أنها نسبة لا تتجاوز خمسة في المائة من كل أعمال الحياة ، ولكنها الأساس الذي تقوم عليه كل أوجه الحياة . ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بُنِي الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان " . وأعداء الإسلام يحاولون أن يحددوا الدين في هذه الأركان الخمسة ، ولكن هذه الأركان هي الأعمدة التي تقوم عليها عمارة الإسلام . وأركان الإسلام هي إعلان استدامة الولاء لله تعالى ، وكل أمر من أمور الحياة هو مطلوب للدين لأنه يصلح الحياة . وهكذا نجد أن العلم بالدين ضرورة لكل إنسان على الأرض ، أما العلوم الأخرى فهي مطلوبة لمن يتخصص فيها ويرتقي بها ليفيد الناس كلهم ، وكلما كان المتفوق من المسلمين كان ذلك تدعيماً لرفعة الإسلام . إذن فالقاسم المشترك في الحياة هو العلم بالدين ، ولكن يجب أن نفهم هذه القضية على قدرها ، فلا يأتي إنسان لا يعرف صحيح الدين ليتكلم والعَوْل ، والرد لأن المسلم قد تمر حياته كلها ولا يحتاج رأياً في قضية التوريث ، أو أن يتعرف على المستحقين للميراث وأنصبتهم ، وغير ذلك . وإن تعرَّض المسلم لقضية مثل هذه ، نقول له : أنت إذا تعرضت لقضية مثل هذه فاذهب إلى المختصين بهذا العلم ، وهم أهل الفقه والفتوى ، لأنك حين تتعرض لقضية صحية تذهب إلى الطبيب ، وحين تتعرض إلى قضية هندسية تذهب إلى المهندس ، وإن تعرضت لعملية محاسبية تذهب إلى المحاسب ، فإن تعرضت إلى أي أمر ديني ، فأنت تسأل عنه أهل الذكر . وأنت إذا نظرت إلى العبادة ، تجد أنها تتطلب كل حركة في الحياة ، وسبق أن ضربت لذلك مثلاً وقلت : هَبْ أن إنساناً يصلي ، ولا يفعل شيئاً في الحياة غير الصلاة ، فمن أين له أن يشتري ثوباً يستر به عورته ما دام لا يعمل عملاً آخر غير الصلاة ، وهو إن أراد أن يشتري ثوباً ، فلا بد له من عمل يأخذ مقابله أجراً ، ويشتري الثوب من تاجر التجزئة ، الذي اشترى الأثواب من تاجر الجملة ، وتاجر الجملة اشتراها من المصنع ، في الدين لأن العلم بالدين يقتضي اللجوء إلى أهل الذكر . فإن قيل : الدين للجميع ، نقول : صدقت بمعنى التدين للجميع ، أما العلم بالدين فله الدراسة المتفقهة . وأهل الذكر أيضاً في العلوم الأخرى يقضون السنوات لتنمية دراساتهم ، كما في الطب أو الهندسة أو غيرهما ، وكذلك الأعمال المهنية تأخذ من الذي يتخصص فيها وقتاً وتتطلب جهداً ، فما بالنا بالذي يُصلح أسس إقامة الناس في الحياة ، وهو التفقه في الدين . لذلك يقول الحق سبحانه : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] . فنحن لا نطلب من كل مسلم - مثلاً - أن يدرس المواريث ليعرف العَصبة وأصحاب الفروض ، وأولي الأرحام ، والمصنع قام بتفصيل الثياب بعد أن نسجها مصنع آخر ، والمصنع الآخر نسج الثياب من غزل القطن أو الصوف . والقطن جاء من الزراعة ، والصوف جاء من جز شعر الأغنام . وهكذا تجد أن مجرد الوقوف أمام خالقك لتصلي يقتضي أن تكون مستور العورة في صلاتك ، هذا الستر يتطلب منك أن تتفاعل مع الحياة بالعمل . وانظر لنفسك واسألها : ما أفطرتَ اليوم ؟ وأقلُّ إجابة هي : أفطرت برغيف وقليل من الملح ، وستجد أنك اشتريت الرغيف من البقال ، وجاء البقال بالرغيف من المخبز ، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن ، والمطحن أنتج الدقيق بعد طحن الغلال التي جاءت من الحقل . وكذلك تمت صناعة ألات الطحن في مصانع أخرى قد تكون أجنبية . وهكذا تمت صناعة الرغيف بسلسلة هائلة من العمليات ، فهناك الفلاح الذي حرث ، وهناك مصمم آلة الطحن الذي درس الهندسة ، وهناك عالم " الجيولوجيا " الذي درس طبقات الأرض ليستخرج الحديد الخام من باطنها ، وهناك مصنع الحديد الذي صهر الحديد الخام ليستخلص منه الحديد النقي الصالح للتصنيع . وهكذا تجد أن كل حركة في الحياة قد خدمت قضية دينك ، وخدمت وقوفك أمام خالقك لتصلي ، فلا تقل : " سأنقطع للعبادة " بمعنى أن تقصر حياتك على الصلاة فقط ، لأن كل حركة تصلح في الحياة هي عبادة ، وإن أردت ألا تعمل في الحياة ، فلا تنتفع بحركة عامل في الحياة . وإذا لم تنتفع بحركة أي عامل في الحياة ، فلن تقدر أن تصلي ، ولن تقدر أن يكون لك قوة لتصلي . إذن فالعبادة هي كل حركة تتطلبها الحياة في ضوء " افعل " و " لا تفعل " . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } [ هود : 2 ] . والنذير : هو من يُخبر بشرٍّ زمنه لم يجيء ، لتكون هناك فرصة لتلافي العمل الذي يُوقع في الشر ، والبشير هو من يبشِّر بخير سيأتي إن سلك الإنسان الطريق إلى ذلك الخير . إذن : الإنذار والبشارة هي أخبار تتعلق بأمر لم يجيء . وفي الإنذار تخويف ونوع من التعليم ، وأنت حين تريد أن تجعل ابنك مُجِداً في دراسته تقول له : إن لم تذاكر فسوف تكون كابن فلانٍ الذي أصبح صعلوكاً تافهاً في الحياة . إذن : فأنت تنذر ابنك ليتلافى من الآن العمل الذي يؤدي به إلى الفشل الدراسي . وكذلك يبشر الإنسان ابنه أو أي إنسان آخر بالخير الذي ينتظره حين يسلك الطريق القويم . إذن : فالعبادة هي كل حركة من حركات الحياة ما دام الإنسان مُتَّبعاً ما جاء بالمنهج الحق في ضوء " افعل " و " لا تفعل " ، وما لم يرد فيه " افعل " و " لا تفعل " فهو مباح . وعلى الإنسان المسلم أن يُبصِّر نفسه ، ومن حوله بأن تنفيذ أي فعل في ضوء " افعل " هو العمل المباح ، وأن يمتنع عن أي فعل في ضوء " لا تفعل " ما دام الحق سبحانه وتعالى قد نهى عن مثل هذا الفعل ، وعلى المسلم تحرِّي الدقة في مدلول كل سلوك . ونحن نعلم أن التكليفات الإيمانية قد تكون شاقة على النفس ، ومن اللازم أن نبيِّن للإنسان أن المشقة على النفس ستأتي له بخير كبير . ومثال ذلك : حين نجد الفلاح وهو يحمل السماد العضوي من حظيرة البهائم ليضعه على ظهر الحمار ويذهب به إلى الحقل ليخلطه بالتربة ، وهو يعمل هذا العمل بما فيه من مشقة انتظاراً ليوم الحصاد . ويبيِّن الحق - سبحانه وتعالى - هنا على لسان رسوله أن الأمر بعدم عبادة أي كائن غير الله ، هو أمر من الله سبحانه ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نذير وبشير من الله . وقول الحق سبحانه وتعالى : { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ … } [ هود : 2 ] . فيه نفي لعبادة غير الله ، وإثبات لعبودية الله تعالى . وهذا يتوافق ويتسق مع الإنذار والبشارة لأن عبادة غير الله تقتضي نذيراً ، وعبادة الله في الإسلام تقتضي بشيراً . ولأن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان ويعلم ضعف الإنسان ، ومعنى هذا الضعف أنه قد يستولي عليه النفع العاجل ، فيُذهبه عن خير آجلٍ أطول منه ، فيقع في بعض من غفلات النفس . لذلك بيَّن الحق سبحانه أن من وقع في بعض غفلات النفس عليه أن يستغفر الله لأن الله سبحانه وتعالى لا يبخل برحمته على أحدٍ من خلقه . وإن طلب العبد المذنب مغفرة الله ، فسبحانه قد شرع التوبة ، وهي الرجوع عن المعصية إلى طاعة الله تعالى . ولا يقع عبد في معصية إلا لأنه تأبَّى على منهج ربه ، فإذا ما تاب واستغفر ، فهو يعود إلى منهج الله سبحانه ، ويعمل على ألا يقع في ذنب جديد . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ … } .