Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 27-27)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والملأ - كما نعلم - هم وجوه القوم ، وهم السادة الذين يملأون العيون مهابة ، ويتصدرون أي مجلس . وهناك مثل شعبي في بلادنا يوضح ذلك المعنى حين نقول : " فلان يملأ العين " . أي : أن العين حين تنظر إليه لا تكون فارغة ، فلا جزء في العين يرى غيره . ويقال أيضاً : " فلان قَيْد النواظر " أي : أنه إذا ظهر تقيَّدت به كل النواظر ، فلا تلتفت إلى سواه ، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كانت فيه مزايا تجذب العيون إليه بحيث لا تتحول عنه . والمراد بذلك هو الحاشية المقربة ، أو الدائرة الأولى التي حول المركز ، فَحَوْل كل مركز هناك دوائر ، والملأ هم الدائرة الأولى ، ثم تليهم دائرة ثانية ، ثم ثالثة وهكذا ، والارتباك إنما ينشأ حين يكون للدائرة أكثر من مركز ، فتتشتت الدوائر . وردَّ الذين يكوِّنون الملأ على سيدنا نوح قائلين : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا … } [ هود : 27 ] . أي : أنه لا توجد لك ميزة تجعلك متفوقاً علينا ، فما الذي سوَّدك علينا لتكون أنت الرسول ؟ وقولهم هذا دليل غباء لأن الرسول ما دام قد جاء من البشر ، فسلوكه يكون أسوة ، وقوله يصلح للاتباع ، ولو كان الرسول من غيرِ البشر لكان من حق القوم أن يعترضوا لأنهم لن يستطيعوا اتخاذ المَلاك أسوة لهم . ولذلك بيَّن الحق سبحانه هذه المسألة في قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] . وجاء الرد منه سبحانه بأن قُلْ لهم : { … لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] . إذن : فالرسول إنما يجيء مُبلِّغ منهج وأسوة سلوك ، فإذا لم يكن من جنس البشر ، فالأسوة لن تصلح ، ولن يستطيع إلا البلاغ فقط . ومثال ذلك : أنت حين ترى الأسد في أي حديقة من حدائق الحيوان ، يصول ويجول ، ويأكل اللحم النَّيء المقدم له من الحارس ، أتحدثك نفسك أن تفعل مثله ؟ … طبعاً لا ، لكنك إن رأيت فارساً على جواد ومعه سيفه ، فنفسك قد تحدثك أن تكون مثله . وهكذا نجد أن الأسوة تتطلب اتحاد الجنس ولذلك قلنا : إن الأسوة هي الدليل على إبطال من يدَّعي الألوهية لعزير أو لعيسى عليهما السلام . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان الملأ الكافر من قوم نوح : { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا … } [ هود : 27 ] . والأراذل جمع " أرذل " ، مثل قولنا : " أفاضل قوم " ، وهي جمع " أفضل " . والأرذل هو الخسيس الدنيء في أعين الناس . ورذال المال أي : رديئه . ورذال كل شيء هو نفايته . ونرى في الريف أثناء مواسم جمع " القطن " عملية " فرز " القطن ، يقوم بها صغار البنين والبنات ، فيفصلون القطن النظيف ، عن اللوز الذي لم يتفتح بالشكل المناسب لأن اللوزة المصابة عادة ما تعاني من ضمور ، ولم تنضج النضج الصحيح . وكذلك يفعل الفلاحون في موسم جمع " البلح " ، فيفصلون البلح الجيد عن البلح المعيب . إذن : فرذال كل شيء هو نفايته . وقد قال الملأ من الكفار من قوم نوح : { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا … } [ هود : 27 ] . أي : أنهم وصفوا من آمنوا بنوح عليه السلام بأنهم نفاية المجتمع . وجاء الحق على ألسنتهم بقولهم في موضع آخر : { … وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] . ولم يَنْفِ نوح عليه السلام ذلك لأن الذين اتبعوه قد يكونون من الضعاف ، وهم ضحايا الإفساد لأن القوي في المجتمع لا يقربه أحد ولذلك فإنه لا يعاني من ضغوط المفسدين ، أما الضعاف فهم الذين يعانون من المفسدين فما إن يظهر المُخلِّص لهم من المفسدين فلا بد أن يتمسكوا به . ولكن ذلك لا يعني أن الإيمان لا يلمس قلوب الأقوياء ، بدليل أن البعض من سادة وأغنياء مكة استجابوا للدعوة المحمدية مثل : أبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنهم . ولكن الغالب في دعوات الإصلاح أنه يستجيب لها المطحونون بالفساد ، هؤلاء الذين يشعرون بالغليان في مراجل الألم بسبب الفساد ، وما إن يظهر داعية إلى الإصلاح ويريد أن يزحزح الفساد ، فيلتفُّون حوله ويتعاطفون معه ، وإن كانوا غير عبيد ، لكن محكومين بالغير ، فهم يؤمنون علناً برجل الإصلاح ، وإن كانوا عبيداً مملوكين للسادة فهم يؤمنون خفية ، ويتحمل القوي منهم الاضطهاد والتعذيب . إذن : فكل رسول يأتي إنما يأتي في زمن فساد ، وهذا الفساد ينتفع به بعض الناس وطغيان يعاني منه الكثيرون الواقع عليهم الفساد والطغيان . ويأتي الرسول وكأنه ثورة على الطغيان والفساد لذلك يتمسك به الضعفاء ويفرحون به ، وتلتف قلوبهم حوله . أما المنتفعون بالفساد فيقولون : إن أتباعك هم أراذلنا . وكأن هذا القول طَعْن في الرسول ، لكنهم أغبياء لأن هذا القول دليل على ضرورة مجيء الرسول ليخلص هؤلاء الضعاف ، ويجيء الرسول ليقود غضبة على فساد الأرض ، ولينهي هذا الفساد . وهي غضبة تختلف عن غضبة الثائر العادي من الناس ، فالثائر من الناس يرى من يصفق له من المطحونين بالفساد . لكن آفة الثائر من البشر شيء واحد ، هي أنه يريد أن يستمر ثائراً ، ولكن الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد ، ثم يهدأ ليبني الأمجاد ، فلا يسلط السيف على الكل ، ولا يفضِّل قوماً على قوم ، ولا يدلل مَنْ طُغِي عليهم ، ويظلم مَنْ طغوا . بل عليه أن يحكم بين الناس بالعدل والرحمة لتستقيم الأمور ، وتذهب الأحقاد ، ويعلم الناس كلهم أن الثائر ما جاء ضد طائفة بعينها ، وإنما جاء ضد ظلم طائفة لغيرها ، فإذا أخذ من الظالم وأعطى المظلوم فليجعل الاثنين سواء أمام عينيه . ومن هنا يجيء الهدوء والاستقرار في المجتمع . إذن : فقد كان قول الكافرين من ملأ قوم نوح . { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا … } [ هود : 27 ] . هو قول يؤكد وجود الفساد في هذا المجتمع ، وأن الضعاف المطحونين من الفساد قد اتبعوا نوحاً عليه السلام . ويقول الحق سبحانه : { بَادِيَ ٱلرَّأْيِ … } [ هود : 27 ] . والبادي هو الظاهر ضد المستتر . وهناك قراءة أخرى هي { بَادِيءَ ٱلرَّأْيِ … } . أي : بعد بدء الرأي . والآية هنا تقول : { بَادِيَ ٱلرَّأْيِ … } [ هود : 27 ] . أي : ظاهر الأمر ، فساعة ما يُلْقى إلى الإنسان أيُّ شيء فهو ينظر له نظرة سطحية ، ثم يفكر بإمعان في هذا الشيء . وساعة يسمع الإنسان دعوى أو قضية ، فعليه ألا يحكم عليها بظاهر الأمر ، بل لا بد أن يبحث القضية أو الدعوى بتروٍّ وهدوء . وهم قد قالوا لنوح عليه السلام : أنت بشر مثلنا ، وقد اتبعك أراذلنا لأنهم نظروا إلى دعوتك نظرة ظاهرية ، ولو تعقَّبوا دعوتك وتأمَّلوها ونظروا في عواقبها بتدبُّر لما آمنوا بها . ويكشف الحق سبحانه هذا الغباء فيهم ، فقول الملأ بأن الضعفاء كان يجب عليهم أن يتدبروا الأمر ويتمعنوا في دعوة نوح قبل الإيمان به ، ينقضه إصرار الضعفاء على الإيمان لأنه يؤكد أن جوهر الحكم عندهم جوهر سليم لأن الواحد من هؤلاء الضعفاء لا يقيس الأمر بمقياس من يملك المال ، ولا بمقياس من يملك الجاه ، ولا بمقياس من له سيادة ، بل قاس الضعيف من هؤلاء الأمر بالقلب ، الذي تعقَّل وتبصَّر ، وباللسان الذي أعلن الإيمان لأن الإنسان بأصغريه : قلبه ولسانه . إذن : فهذا الملأ الكافر من قوم نوح - عليه السلام - قد حكم بأن الضعاف أراذل بالمقاييس الهابطة ، لا بالمقاييس الصحيحة . ولو امتنع هؤلاء الذين يُقال عنهم " أراذل " عن خدمة من يقال لهم " سادة " لذاق السادة الأمرَّين ، فهم الذين يقدِّمون الخدمة ، ولو لم يصنع النجار أثاث البيت لما كانت هناك بيوت مؤثثة . ولو امتنع العمال عن الحفر والبناء لما كانت هناك قصور مشيدة . ولو امتنع الطاهي عن طهي الطعام لما كانت هناك موائد ممتدة ، وكل خدمات هؤلاء الضعاف تصب عند الغني أو صاحب المال أو صاحب الجاه . وهكذا نرى أن الكون يحتاج إلى من يملك الثروة - ولو عن طريق الميراث - ليصرف على من يحتاجه المجتمع أيضاً ، وهم الضعاف الذين يعطون الخير من كدِّهم وإنتاجهم . إذن : فالضعفاء هم تتمة السيادة . وحين نمعن النظر لوجدنا أن سيادة الثَّريِّ أو صاحب الجاه إنما تأتي نتيجة لمجهودات من يقال عنهم : إنهم أراذل . ولو أنهم تخلَّوا عن الثري أو صاحب الجاه ، لما استطاع أن يكون سيداً . ويذكر لنا الحق سبحانه بقية ما قاله الملأ الكافر من قوم نوح : { … وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [ هود : 27 ] . وهم - بهذا القول - قد أنكروا أن سيادتكم إنما نشأت بجهد من قالوا عنهم إنهم أراذل ، وأنكروا فضل هؤلاء الناس . ويُلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى الآفة التي تنتاب بعض المجتمعات حين يذكر لنا ما قاله الكافرون : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً … } [ الزخرف : 31 - 32 ] . إذن : فالحق سبحانه هو الذي قسم المعيشة ، وآفة الحكم أن ننظر إلى المرفوع على أنه الغنى ، لا ، فليس المرفوع هو الغنى ، بل هو كل ذي موهبة ليست في سواه . وما دام مرفوعاً في مجال فهو سيخدم غيره فيه ، وغيره سيخدمونه فيما رُفعوا فيه لأن المسألة أساسها التكامل . لذلك لا يُديم الله سبحانه غِنَى أحدٍ أبد الدهر ، بل جعل الدنيا دُوَلاً بين الناس . إذن : فلو عرف هذا الملأ الكافر من قوم نوح - عليه السلام - معنى كلمة الفضل لما قالوها لأن الفضل هو الزائد عن المطلوب للكائن ، في المحسوسات أو المعاني والفضل يقتضي وجود فاضل ومفضول . ولينظر كل طاغية في حياته ليرى ما الفاضل فيها ؟ إنه بعض من المال أو الجاه ، وكل مَنْ يخدم هذا الطاغية هم أصحاب الفضل لأن سيادة الطاغية مبنية على عطائهم . فهم أصحاب الفضل ، ما دام الفضل هو الأمر الزائد عن الضروري . إذن : فحقيقة ارتباط العالم بعضه ببعض ، هو ارتباط الحاجة لا ارتباط السيطرة ، ولذلك حين نرى مسيطراً يطغى ، فنحن نقول له : تعقَّل الأمر لأنك ما سيطرت إلا بأناس من الأراذل ، فإظهار قوته تكون بمن يُجيدون تصويب السلاح ، أو بمن تدربوا على إيذاء البشر ، فهو يبني سيادته ببعض الأراذل ، كوسائل لتحقيق سيطرته . وقول الكافرين من ملأ نوح - عليه السلام - : { وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ … } [ هود : 27 ] . يكشف أنهم قد فهموا الفضل على أنه الغِنَى ، والجاه والمناصب ، وهم قد أخطأوا الفهم . ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله : { … بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [ هود : 27 ] . والظن هو الراجح ، والمرجوح هو الوهم وهذا يثبت أن في الإنسان فطرة تستيقظ في النفس كومضات ، فالمتكبر يمضي في كبره إلى أن تأتي له ومضة من فطرته ، فيعرف أن الحق حق ، وأن الباطل باطل . وحين جاءت هذه الومضة في نفوس هذا الملأ الكافر ، قالوا : { … بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [ هود : 27 ] . ولم يقولوا : " نعتقد أنكم كاذبون " . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ … } .