Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 95-95)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي : أن من يمر على أهل " مدين " بعد ذلك كأنهم لم يكن لهم وجود . والحق سبحانه يقول : { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا … } [ يونس : 24 ] . فالإنسان الذي ارتقى حتى وصل إلى الحضارات المتعددة ، إلى حد أنه قد يطلب القهوة بالضغط على زر آلة ، فإذا شاء الله سبحانه أزال كل ذلك في لمح البصر . هذه الحياة المرفهة يستمتع فيها الإنسان كمخدوم ، وهي غير الجنة التي ينال فيها الإنسان ما يشتهي بمجرد أن يخطر الأمر بباله . وهنا يقول الحق سبحانه : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ … } [ هود : 95 ] . ومادة " الغنى " منها : الغناء - بكسر الغين - وهو ما يغنيه المطربون ، ومنها الغناء - بفتح الغين - وهو يؤدي إلى الشيء الذي يغنيك عن شيء آخر ، فالغنى بالمال يكتفي عما في أيدي الناس . وهكذا الغناء لأن الأذن تسمع كثيراً ، والعين تقرأ كثيراً ، لكن الإنسان لا يردد إلا الكلام الذي يعجبه ، والملحَّن بطريقة تعجبه فالغناء هو اللحن المستطاب الذي يغنيك عن غيره . والغَناء ، أي : الإقامة في مكان إقامةً تغنيك عن الذهاب إلى مكان آخر ، وتتوطن في هذا المكان الذي يغنيك عن بقية الأماكن . إذن : فقول الحق سبحانه : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ … } [ هود : 95 ] . أي : كأنهم لم يقيموا هنا ، ويستغنوا بهذا المكان عن أي مكان سواه . ويقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم : { … مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } [ هود : 100 ] . أي : أن الأطلال قائمة بما تحتويه من أحجار ورسوم ، مثل معابد قدماء المصريين ، وأنت حين تزورها لا تجد المعابد كلها سليمة ، بل تجد عموداً منتصباً ، وآخر مُلْقىً على الأرض ، وباباً غير سليم ، ولو كانت كلها حصيداً لاختفت تماماً ، ولكنها بقايا قائمة ، ومنها ما اندثر . وهذا يثبت لنا صدق الأداء القرآني بأنه كانت هناك حضارات ، لأنها لو ذهبت كلها لما عرفنا أن هناك حضارات قد سبقت . ثم يقول الحق سبحانه : { … أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [ هود : 95 ] . وكلمة " ألا " - كما عرفنا من قبل - هي " أداة استفتاح " ليلتفت السامع وينصت ، فلا تأخذه غفلة عن الأمر المهم الذي يتكلم به المتكلم ، وليستقبل السامع الكلام كله استقبال المستفيد . وكلمة " بُعْداً " ليست دعاءً على أهل مدين بالبعد لأنها هلكت بالفعل ، ومادة كلمة " بُعْداً " هي : " الباء " و " العين " و " الدال " وتستعمل استعمالين : مرة تريد منها الفراق والفراق بينونة إلى لقاء مظنون ، إما إذا كانت إلى بينونة متيقنة ألا تكون ، ولذلك جاء بعدها : { … كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [ هود : 95 ] . وهي تدل على أنه بعدٌ لا لقاء بعده إلا حين يجمع الحق سبحانه الناس يوم القيامة . والشاعر يقول : @ يَقُولُون لا تبعدْ وهُمْ يَدفِنُونَني وأينَ مَكَانُ البُعدِ إلا مَكانِيَا @@ فهذا هو البعد الذي يذهب إليه الإنسان ولا يعود . ولما خَصَّ الحق سبحانه ثمود بالذكر هنا ، وقد سبق أن قال سبحانه عن أقوام آخرين : " ألا بعداً " ؟ لأن الصيحة قد جاءت لثمود ، وبذلك اتفقوا في طريقة العذاب . وتنتهي هنا قصة شعيب عليه السلام مع مدين ، ونلحظ أن لها مساساً برسلٍ مثل موسى عليه السلام ، مثلما كان لقوم لوط مساس بإبراهيم عليه السلام . وهكذا نعلم أن هناك رسلاً قد تعاصرت ، أي : أن كل واحد منهم أرسل إلى بيئة معينة ومكان معين . ولأن المرسل إليهم هم عبيد الله كلهم لذلك أرسل لكل بيئة رسولاً يناسب منهجه عيوب هذه البيئة . وإبراهيم عليه السلام هو عم لوط عليه السلام ، وموسى عليه السلام هو صهر شعيب عليه السلام . وقد ذهب موسى إلى أهل مدين قبل أن يرسله الله إلى فرعون . ونحن نعلم أن الأماكن في الأزمنة القديمة كانت منعزلة ، ويصعب بينها الاتصال ، وكل جماعة تعيش في موقع قد لا يدرون عن بقية المواقع شيئاً ، وكل جماعة قد يختلف داؤها عن الأخرى . لكن حين أراد الحق سبحانه بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كرسولٍ خاتمٍ ، فقد علم الحق سبحانه أزلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميعاد مع ارتقاء البشرية ، وقد توحدت الداءات . فما يحدث الآن في أي مكان في العالم ، ينتقل إلينا عبر الأقمار الصناعية في ثوانٍ معدودة ، لذلك كان لا بد من الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم . أما تعدد الرسل وتعدد اللقطات لكل رسول بالقرآن ، فليست تكراراً كما يظن السطحيون لأن الأصل في القصص القرآني أن الحق سبحانه قد أنزله لتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد كانت الآيات تنزل من السماء الدنيا بالوحي لتناسب الموقف الذي يحتاج فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تثبيت للفؤاد . ويبيِّن الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتذكر إخوانه من الرسل وما حدث لهم مع أقوامهم وانتصار الله لهم في النهاية ، وحين أراد الحق سبحانه أن يقص قصة محبوكة جاء بسورة يوسف . وهكذا فليس في القرآن تكرار ، بل كل لقطة إنما جاءت لتناسب موقعها في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم . ولنا أن نلحظ أن قصة شعيب عليه السلام مع قومه ، ما كان يجب أن تنتهي إلا بأن تأتي فيها لقطة من قصة موسى عليه السلام ، وهو صهر شعيب عليه السلام . والملاحظ أن الحق سبحانه قد ذكر هنا من قصة موسى عليه السلام لقطتين : اللقطة الأولى : هي الإرسال بالآيات إلى فرعون . واللقطة الثانية : هي خاتمة فرعون لا مع موسى عليه السلام ، ولكن مع الحق سبحانه يوم القيامة ، يقول تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ } [ هود : 98 - 99 ] . وكان لشعيب عليه السلام مهمة تثبيت قلب موسى عليه السلام من الهلع ، حين أعلن له أنه خائف من أن يقتله قوم فرعون لأنه قتل رجلاً منهم ، فقال له شعيب عليه السلام ما ذكره الحق سبحانه في قوله : { … نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } [ القصص : 25 ] . وهكذا ثبَّته وهيَّأ له حياة يعيش فيها آمناً لمدة ثماني حجج أو أن يتمها عشر حجج ، مصداقاً لقول الحق سبحانه : { قَالَ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ القصص : 27 - 28 ] . وهكذا باشر شعيب عليه السلام مهمة في قصة موسى عليه السلام . ومن هذا ومن ذاك يعطينا الحق سبحانه الدرس بأن الفطرة السليمة لها تقنينات قد تلتقي مع قانون السماء لأن الحق سبحانه لا يمنع عقول البشر أن تصل إلى الحقيقة ، لكن العقول قد تصل إلى الحقيقة بعد مرارة من التجربة ، مثلما قنَّن الحق سبحانه الطلاق في الإسلام ، ثم أخذت به بلاد أخرى غير مسلمة بعد أن عانت مُرَّ المعاناة . ومثلما حرَّم الحق سبحانه الخمر ، ثم أثبت العلم مضارها على الصحة ، فهل كنا مطالبين بأن نؤجل حكم الله تعالى إلى أن يهتدي العقل إلى تلك النتائج ؟ لا لأن الحق سبحانه قد أنزل في القرآن قانون السماء الذي يقي الإنسان شر التجربة لأن الذي أنزل القرآن سبحانه هو الذي خلقنا وهو مأمون علينا ، وقد أثبتت الأيام صدق حكم الله تعالى في كل ما قال بدليل أن غير المؤمنين بالقرآن يذهبون إلى ما نزل به القرآن ليطبقوه . وفي قصة موسى عليه السلام مثل واضح على مشيئة الحق سبحانه ، فها هو فرعون الكافر قد قام بتربية موسى بعد أن التقطه لعله يكون قرة عين له ، رغم أن فرعون كان يُقتِّل أطفال تلك الطائفة . ثم تلحظ أخت موسى أخاها ، ويرد الحق سبحانه موسى عليه السلام إلى أمه . وقد صوَّر الشاعر هذا الموقف بقوله : @ إذا لَمْ تُصادِفْ في بَنِيكَ عِنَايةً مِنَ اللهِ فقدْ كَذبَ الرَّاجِي وخَابَ المأملُ فَمُوسَى الذي رَبَّاهُ جِبريلُ كافرٌ ومُوسَى الذي ربَّاه فِرْعونُ مُرسَلُ @@ وقد جاءت قصة موسى عليه السلام هنا موجزة ، في البداية وفي النهاية ليبيِّن لنا الحق سبحانه أن لشعيب دوراً مع واحد من أولي العزم من الرسل ، وهو موسى عليه السلام ، وكان مقصد موسى عليه السلام قبل أن يبعث - هو ماء مدين ، فحدث ما يمكن أن نجد فيه حلاً لمشاكل الجنسين - الرجل والمرأة - وهي رأس الحربة التي تُوجَّه إلى المجتمعات الإسلامية لأن البعض يريد أن تتبذل المرأة في مفاتنها ، لإغواء الشباب في أعز أوقات شراسة المراهقة . لكن القرآن حَلَّ هذه المسألة في رحلة بسيطة ، ولنقرأ قول الحق سبحانه عن موسى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ … } [ القصص : 23 ] . أي : تمنعان الماشية من الاقتراب من المياه ، وكان هذا المشهد مُلْفتاً لموسى عليه السلام ، وكان من الطبيعي أن يتساءل : ألم تأتيا إلى هنا لتسقيا الماشية ؟ ! وقال القرآن السؤال الطبيعي : { مَا خَطْبُكُمَا … } [ القصص : 23 ] . فتأتيه الإجابة من المرأتين : { قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [ القصص : 23 ] . وهكذا نعلم أن خروج المرأة له علة أن الأب شيخ كبير ، وأن خروج المرأتين لم يكن بغرض المزاحمة على الماء ، ولكن بسبب الضرورة ، وانتظرتا إلى أن يسقي الرعاة ، بل ظلَّتا محتجبتين بعيداً لذلك تقدم موسى عليه السلام ليمارس مهمة الرجل : { فَسَقَىٰ لَهُمَا … } [ القصص : 24 ] . وهذه خصوصية المجتمع الإيماني العام ، لا خصوصية قوم ، ولا خصوصية قربى ، ولا خصوصية أهل ، بل خصوصية المجتمع الإيماني العام . فساعة يرى الإنسان امرأة قد خرجت إلى العمل ، فيعرف أن هناك ضرورة ألجأتها إلى ذلك ، فيقضي الرجل المسلم لها حاجتها . وأذكر حين ذهبت إلى مكة في عام 1950م أن نزل صديقي من سيارته أمام باب منزلٍ ، وكان يوجد أمام الباب لوح من الخشب عليه أرغفة من العجين التي لم تخبز بعد ، وذهب به إلى المخبز ، ثم عاد به بعد خبزه إلى نفس الباب . وقال لي : إن هذه هي عادة أهل مكة ، إن وجد إنسان لوحاً من العجين غير المخبوز فعليه أن يفعل ذلك لأن وجود هذا اللوح أمام الباب إنما يعني أن الرجل رب البيت غائب . وهذا كله مأخوذ من كلمة : { فَسَقَىٰ لَهُمَا … } [ القصص : 24 ] . وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأمر الجنود أن تدق الأبواب لتسأل أهل البيوت عن حاجاتهم . والأمر الثالث والمهم هو أن المرأة التي تخرج إلى مهمة عليها ألا تستمرىء ذلك ، بل تأخذها على قدر الضرورة ، فإذا وجدت منفذاً لهذه الضرورة ، فعليها أن تسارع إلى هذا المنفذ ، ولذلك قالت الفتاة لأبيها شعيب : { … يٰأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } [ القصص : 26 ] . ويُنهي شعيب عليه السلام هذا الموقف إنهاءً إيمانياً حكيماً حازماً ، فيقول لموسى : { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ … } [ القصص : 27 ] . وهكذا يعلم موسى - عليه السلام - أن شعيباً لا يُلقي بابنته هكذا دون مهر ، لا . . بل لا بد أن يكون لها مهر ، وأيضاً تصبح أختها محرمة عليه . وهذه القصة وضعت لنا مبادىء تحل كل المشكلات التي يتشدق بها خصوم الإسلام . وها نحن نجد في الغرب صيحات معاصرة تطالب بأن تقوم المرأة بالبقاء في المنزل لرعاية الأسرة والأولاد ليس لأن المرأة ناقصة ، ولكن لأن كمال المرأة في أداء أسمى مهمة توكل إليها ، وهي تربية الأبناء . ونحن نعلم أن طفولة الإنسان هي أطول أعمار الطفولة في كل الكائنات ، والأبناء الذين ينشأون برعاية أم متفرغة يكونون أفضل من غيرهم . وهكذا نتعلم من قصة شعيب عليه السلام مع موسى عليه السلام . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا … } .